معرض "بيكاسو ـ سيزان" في "متحف غرانيه" في "ايكس إن بروفانس" الفرنسي الذي افتتح مطلع الأسبوع الجاري نقطة مهمة في محاولات شرح وتأويل كل خط ولون في لوحات بيكاسو من قبل النقاد والدارسين. وإذا كان بيكاسو قد شغل العالم في القرن العشرين بإنجازاته التشكيلية فهو من دون شك قد تأثر بمن سبقه من فنانين وعباقرة. وإذا هو تحدث دائماً وباسهاب عن تأثيرات للوحات فنانين كبار على أعماله وقد ذكر منهم فيلاسكيز وأيضاً لوحات معينة مثل لوحة "نساء من الجزائر" لدولاكروا أو "فطور فوق العشب" لمانيه، إلا انه لم يأتِ كثيراً على ذكر سيزان الذي كان له أكبر التأثير عليه، مع ان هذا الأخير لم يلتقه يوماً كما لم يتبادلا الرسائل على غرار ما حصل مع غيره وكان سيزان يكبره بنحو 42 عاماً.
ومع هذا، أرخ أبرز الذين عاصروا بيكاسو وكتبوا عنه انه وفي سنواته الأخيرة لم يهجس أبداً بذكر فان غوغ مثلاً او أي رسام اسباني من مواطنيه، بل دائماً كان يردد: "سيزان، وحده سيزان، كان والدنا جميعاً، كان المعلم"! وكان يقصد بالجميع كل أبناء المرحلة أو الحقبة الفنية التي عايشها: براك، دوران، غوغان... حتى ان بعض المؤرخين أكدوا ان حياة سيزان وأعماله صارت احد هواجس بيكاسو الفنية بل هاجسه الأوحد، خاصة عندما ترك منزله أو قصره الرائع في كاليفورنيا لينتقل الى منطقة "الايكس ان بروفانس" القريبة من مسقط رأس سيزان ويسكن أحد قصورها القديمة "قصر دو فوفنارك" المبني على أسفل جبل "سانت ـ فيكتوار" حيث كان سيزان ينتقل مع أدوات الرسم لينقل أجمل المشاهد الطبيعية منها الى لوحاته، وحينها، عندما كان أحدهم يسأل بيكاسو "أين تعيش؟" كان يجيب: "اسكن عند سيزان".
هذا الرابط السري والجميل والموحي ما بين بيكاسو وسيزان أسس عليه "متحف غرانيه" معرضه الحالي وهو يتطرق الى تفاصيل علاقة بيكاسو بهذا "الاب الروحي" و"المعلم" ويضيف المعرض بعض الوثائق التي تؤرخ لهذه العلاقة منها مثلاً تاريخ أو ظروف اكتشافه لعالم سيزان: هل كان خلال اقامته الباريسية عام 1900؟ على الأرجح انه التاريخ الصحيح. لأن وصول بيكاسو من برشلونة الى العاصمة الفرنسية وكان يبلغ 19 عاماً بهدف زيارة "المعرض العالمي" حيث شارك الفنان الشاب بلوحة وحيدة من بين المبتدئين وكان هناك ما يشبه التكريم لسيزان من ضمن جناح "مئوية الفن الفرنسي". وإذا كان هذا الاحتمال غير أكيد، فثمة تاريخ آخر وهو معرض أعماله بعد عام في "غاليري دامبرواز فولار" أو في أبعد تقدير عام 1907 أي بعد عام من رحيل سيزان في "صالون الخريف" المخصص لأعماله الذي كان له الصدى الهائل بين النقّاد وأيضاً بين الرسامين المعاصرين به وبعيداً من الألقاب أو الكليشيات العالمية التي وضعت بيكاسو في مصاف الاسطورة الفنية للقرن العشرين، لا زال بعض الدارسين والنقّاد يتساءلون حول كيفة فك ألغاز "هذه الحديقة السرية" في لوحاته.
ومسار المعرض الحالي يتجه في تحديد اربع مراحل في حياة بيكاسو الفنية أو اربعة مواضيع رئيسية تحت عناوين محددة: "بيكاسو يراقب سيزان" وتمتد زمنياً من وصوله الى باريس حتى نهاية المغامرة التكعيبية، يليها: "بيكاسو يجمع لوحات سيزان" حيث جمع قدر مستطاعه بعض اللوحات التي تعتبر من روائع سيزان، اما العنوان الثالث فهو: "موضوعات وأشكال متقاسمة" حيث من المؤكد التأثر وبالتالي استخدام الموضوعات عينها مثل المستحمات أو ارلوكان أو الجماجم في الطبيعة الميتة... وصولاً الى العنوان الأخير: "بيكاسو يتقرب من سيزان" وهي المرحلة التي قرر فيها بيكاسو الانتقال للسكن في "قصر فوفنارك" قرب مسقط رأس سيزان حيث رسم هناك أجمل ابداعاته: "بورتريه جاكلين" أو بدايات السلسلة "إفطار على العشب".
قصر بيكاسو
وبالمناسبة أيضاً، يفتح قصر فوفنارك أبوابه أمام الزوّار في صيف 2009 وهو القصر الذي عاش فيه بيكاسو تحديداً ستة أعوام ما بين 1959 و1965 مع زوجته جاكلين، وقد اشتراه عام 1958 وهو من الطراز القديم تم تشييده في القرن السابع عشر، وفي حديقة القصر وتحديداً أمام مدخله الرئيسي أقام بيكاسو مقبرته هو زوجته وقد رحلا بفارق 13 عاماً (1973 و1986).
وفي برمجة زيارة القصر أيضاً مشاهدة الجدران داخله التي رسمها الفنان بنفسه وكأنه حضّر المكان ليسكنه بعد رحيله. وهل هي مصادفة ان يكون القصر على سفح الجبل الذي ولد وعاش فيه سيزان؟ لماذا تم هذا الانتقال من كاليفورنيا الى "إيكس ان بروفانس" تحديداً؟
الجواب في معرض "متحف غرانيه" حيث تعرض الأعمال وعددها 110 لوحات ورسوم ومائيات ونقوش ومنحوتات، وجميعها تصب في خانة التأثيرات القادمة من عالم سيزان، ان في المواضيع أو في الأشكال، حتى يُقال ان لوحة "آنسات آفينيون" لبيكاسو عام 1907 كانت بتأثير من الوجوه النسائية الريفية القاسية التي نفذها سيزان منها على سبيل المثال: "بورتريه اورتانس فيكيه". أما الأشكال الهندسية المعتمدة من سيزان في المناظر الطبيعية وفي لوحات الطبيعة الصامتة من الأسطواني والكروي والمخروطي فهي انتقلت الى لوحات بيكاسو في إطار مختلف ضمن مغامرة التكعيبية. أما وفي مرحلة متقدمة، فقد بدأت المواضيع تنتقل من لوحات سيزان الى لوحات بيكاسو مع مفاهيم مختلفة بالتأكيد بالخط واللون فجاءت "المستحمات" الى فضاء آخر كذلك قدم "مدخنو السيجار" وقدم "آرلوكان"، وتداخلت مشهديات الطبيعة الصامتة من صحون البورسولان الى الأكواب الضخمة الى صحون الفاكهة المجففة الى التفاحات الشهيرة ودائماً تلك "النسوة المستريحات في كنبات ضخمة ومزركشة" وصولاً الى المشهد الأخير من حياته، حين كان يجلس قبالة الجبل أو قبالة قرية فوفنارك ويرسمها كما فعل سيزان في سنواته الأخيرة.
وحين كان يسأله أحدهم حول ما يفعله في "الايكس ان بروفانس" كان يجيب: "انا أقيم حالياً عند سيزان".
وليس صعباً على زائر المعرض في "متحف غرانيه" ان يستوعب طبيعة هذه التأثيرات البعيدة كل البعد عن عملية النقل أو التقليد، بل هي كما جمالية الصوت والصدى والعلاقة الحميمة بينهما، فكل الأعمال المعروضة للفنانين جاءت في إطار المواجهة: فنرى مثلاً "بورتريه زوجة سيزان بالفستان المخطط" مقابل "بورتريه المزارعة" لبيكاسو وحيث يصعب على غير المتمرس في دراسة اللوحة نظرياً ان يستوعب التشابه يشرح القيمون على المعرض في كتيب خاص تفاصيل الهندسة الدقيقة للوحة وتقاربها من الاخرى المواجهة لها. كذلك الأمر في مواجهة "رجل يدخن السيجار" لسيزان أنجزها عام 1896 مقابل لوحة "المدخن" لبيكاسو رسمها عام 1971، لكن "مدخن" الاخير دخل في لعبة التكعيبية وخطوطها المجردة والموحية... الى ما هنالك من مقارنات تميزت أيضاً لوحة "فاكهة، منشفة وعلبة حليب" لسيزان (1880) في مواجهة "طاولة التحلية" لبيكاسو (1901). وأجمل ما يميز هذا المعرض ـ المواجهة أن كل التشابه بين أعمال الفنانين والذي قد لا يلحظه بسهولة الزائر غير المتمرس يصب في اتجاه الاعجاب الى حد الشغف بعيداً من سهولة النسخ أو التقليد أو سلبياته، بل ينبع منه ما يشبه الخيط الرفيع الذي يجعل كل الأعمال الفنية تتقارب وإن تباعدت شكلاً ومضموناً.
هذا المعرض الفريد والموحي لصيف 2009 يستمر في "متحف غرانيه" حتى 27 أيلول المقبل.
المستقبل
الاربعاء 24 حزيران 2009
إقرأ أيضاً:-