المعرض حمل عنوان «الفن في العراق اليوم»، أما المناسبة فهي مرور نصف قرن على كتاب جبرا ابراهيم جبرا «الفن العراقي المعاصر»، الذي أرخ فيه لفن رواد الفن التشكيلي. لكن ما العلاقة بين فن اليوم وفن الأمس؟ وما الفكرة التي يحملها القيِّمان على المعرض ضياء العزاوي وشارل بوكوك؟
الفنانون الأربعة عشر المشاركون في المعرض يعيشون في المنفى، شأنهم شأن مئات الفنانين العراقيين الذين شردهم صدام حسين أو الحرب عليه وما نتج عنها من فوضى وجرائم. وبالتالي فالمقصود إبراز العلاقة بين أعمال المنفى ومضمون كتاب جبرا، لذا خصص المعرض لفنانين يعيشون خارج العراق، فعموماً نلاحظ أن المهاجرين يحافظون على اللهجات المحلية أكثر من المقيمين الذين تغيرهم التطورات التي تطرأ على المجتمع والمكان. وفنانو المنفى يصرون عادة على التعلق بتراثهم أكثر من المقيمين. وهكذا بالنسبة إلى الفن كلغة أيضاً.
المعرض، الذي يستمر لغاية 31 كانون الأول الجاري، في مركز بيروت للمعارض (الواجهة البحرية، مدخل بيال). ضم حوالى 80 عملاً موزعة بين 14 فناناً لا ينتمون إلى جيل واحد، أكبرهم ضياء العزاوي (مواليد 1939) وأصغرهم دلير شاكر (مواليد 1970). أما التقنيات المستخدمة في المعرض فهي النحت وإن كان قليلاً، مضافاً إلى التصوير اللوني والفوتوغرافي. على أن أكثر المواد اللونية المستخدمة في اللوحات «مختلطة» أو أكريليك، فلوحات الزيت قليلة والأكواريل غير موجودة.
وقبل أن نستغرق أكثر في توصيف أعمال المعرض، فإن نظرة عامة إليها تشير إلى أن العراق يحضر بصيغ شديدة التفاوت، فلكل مخيلته وأسلوبه في استدراج الوطن إلى العمل الفني الذي ينتجه. فمنهم من انجذب إلى التراث والتاريخ الفنيين واندمج بهما فاستحضر أماكن وصورا ومشاهد، ليشعر بدفء الوطن وهو في غربته الباردة، ومنهم من عمل على إعادة إنتاج هذه الذاكرة فأعاد إنتاج الرموز والمفردات على طريقته، ومنهم من طلّق الذاكرة الفنية وحافظ على ذاكرة عينية، أو العكس، فبنى استعاراته على هذا الأساس، ما جعله يجمع بين المنفى والوطن كطرفين يتنابذان بقطبين ويتجاذبان بقطبين آخرين. من ناحية ثانية فأعمال المعرض تتحرك بين الواقعية التشبيهية والتجريد بدرجاته التي تلغي المرجعيات الشكلية، ليصبح اللون هو الأساس البصري في اللوحة.
غالبية فناني المعرض انطلقوا من أن العالم الواسع يجب أن يحضر في الفن، وأن الفنان لم يعد ابن بيئته فقط، إنما هو ابن بيئة المنفى، وابن العالم، في زمن التواصل السهل الذي نعيشه. المهم أن الفنانين لا يتنكرون للوطن في الوقت الذي لا يتنكرون فيه للمنافي التي أثّرت في تجاربهم وأثْرتها، بل إن التجوال في العالم من شأنه أن ينمّي التجربة البصرية ويغني ثقافة الفنان.
ترتكز تجارب فناني المعرض إذاً على نضوجهم في المنفى، لا ليعيدوا اكتشاف عراقهم من جديد، إنما ليعيدوا صوغه من مسافاتهم المختلفة، على أن الحرب تلقي بظلالها على العراق الحاضر في أروقة المعرض. الحرب التي يظهر الفنانون آثارها، لا ليغرقوا المعرض بالدموع، إنما ليسجلوا من خلال الإبداع موقفاً معترضاً على الحرب وآلتها، ومحتجاً على العنف، ومندداً بتشريد الناس أولاً وآخراً.
هذه الحرب يظهرها الفنان دلير شاكر بشكل واضح، من خلال عمل تجميعي يزرع فيه الرصاص الحقيقي، ويظهر صورة دبابة، ويكتب كلمة WAR في أكثر من مكان فيه، ثم يوزع الحرائق ويحمّله عنوان «انفجار». وفي أعمال أخرى يجعل الكتل التي ترمز للحرب تفلت من إطارها، فتتحول كل كتلة إلى سطح، وتتراكب السطوح لتشكل لوحة. الحرب كانت مكشوفة أيضاً في لوحة هناء مال الله (كفن)، حيث تنتشر الحرائق في المربعات الصغيرة التي تؤلف الكفن. من هذا الالتصاق بذاكرة الحرب ننتقل إلى النقيض، أي إلى الذاكرة التي تنفصل عن الحدث، ليرى صاحبُها الوطن امتداداً لتاريخ عريق، فيقارب بين استعادة العراق كوطن مسلوب منه واستعادة الأندلس، مستحضراً ابن زيدون من خلال قصائد له، لا سيما قصيدته المعروفة «إنّي ذكرْتُكِ، بالزّهراء، مشتاقا». هنا تتداخل الأزمان والمشاعر في اللوحة، من حماوة العراق البادية في الألوان التي يستخدمها الفنان، ومن الطير المهاجر الذي يلمّح له، ومن استحضار العراق عبر الشعر كفن يذكر بالعراق الشاعر عموماً... هنا يتداخل حاضر المنفى بماضي العراق الذي تركه خلفه ويحنّ إليه، ثم بماضي الأوطان التي تشعل الشوق، كما أشعل الفنان ألوانه النارية المضيئة، أو ألوان التراب الذي يشعله الأحمر الذي يتحول من لون الشمس إلى لون الدم الذي يسيل من بعض الكتل اللونية الحمراء. وابن زيدون الأندلس يحيلنا على جواهري العراق الذي يتذكره نزار يحيى من خلال لوحات تتضمن وجهه، خلف دوائر الزمن أو أمواج الصوت المفترض من ميكرو موضوع أمام جدار اللوحات. والجواهري يذكّر بدجلة في الكثير من قصائده، فيضع لوحة تستحضر مشهد الحصى في قاع النهر، وتحت اللوحة بعض حصى رسم الفنان على صفحاتها وجوهاً حفظها النهر.
الأناقة
الأناقة التي يرسم بها الناصري تأخذنا إلى الأناقة التي يجسدها ضياء العزاوي في أعماله المعروضة. كما أن المسافة التي تحدثنا عنها بين شاكر والناصري يمثل العزاوي قطبيها في أعماله، إذ التجريد اللوني يأخذ مداه الرحب، في اللوحات، حتى يتحول إلى استعارات ترميزية وألغاز صعبة التفكيك، في حين يقدم عملاً نحتياً تمثيلياً لحصان بكل تفاصيله الجسمية وهو مصاب بالنبال من كل النواحي. وعندما يقدم العزاوي لوحاته، نشعر بجهده للابتعاد عن الأشكال التي توحي بمسطح لوني واحد، مجسداً أبعاداً داخلية في تشكيل العلاقة بين المفردات اللونية، التي كثيراً ما تبدو صافية، بحيث تلتف المساحات على بعضها وتتحرك بإيحاءاتها، ما يشعرنا بحركة ذات مرجعية لناس وطبيعة. فكأننا أمام لعبة تجسيم التجريد اللوني، ولعل العمل النصبي الخشبي الملون، الذي يقدم الفنان من خلاله ما يمكن أن نعتبره لوحة ملونة بأبعاد ثلاثية، يحرضنا على رؤية اللوحة كأنها بأبعاد ثلاثة. وإذا كان العراق حاضراً في بعض أعمال العزاوي فإن بعض لوحاته تحمل عنوان «مراكش»، ليبقى أن العراق لا يحضر هنا من خلال المشهد، إنما من خلال صاحب العمل وما يمكن أن يبثه من ترميز غامض في الأشكال والألوان.
ومن الأناقة إلى نقيضها في أعمال محمود العبيدي وكريم رسن، اللذين يستخدمان الجدار العتيق خلفية لرسومهم وألوانهم، الجدار الذي يجسد ذاكرة تتعاقب فيها أزمان مختلفة بما فيها الأزمان الملطخة بالحرب، ذاكرة تشيخ وتبتعد فلا يبقى منها إلا أشباح الأشكال، هذه الذاكرة التي يستعيدها المصور الفوتوغرافي نديم الكوفي فيركز على صور أيام زمان، خصوصاً العائلة التي لم تعد مجتمعة إلا في الصور. الفوتوغرافي حليم كريم يذهب إلى ناحية أخرى، أي إلى تذكّر الوجوه مشوهة، أو يلغي الوجه ويغطيه، وإن برداء شفاف، ليبرز منه العيون بتعبيريتها الغنية.
غسان غائب يطوّف اللوحة بالألوان، حتى أن عنوان «المطر» لإحدى لوحاته يناسب الأسلوب ربما أكثر من المضمون. لكنه مطر الذاكرة الملطخة بالأسود، أما شجرة الذاكرة التي يجسدها من خلال شرائط معدنية تتدلى على شكل شجرة علّق بها صور شهداء وبقايا بطاقات هوية.
عمار داوود يعود بالذاكرة إلى الخيمة وأم تنتظر، ثم إلى أسلوب قصصي مليء بالخرافة والأشكال التي تحيلنا على العراق مثل برج بابل ومراكب الصيد. الذاكرة تحتل مساحة اللوحة عند علي طالب، فتختلط فيها الأشياء (فستان وكتابات دفتر قديم وناس وقمر وحب) وتتداخل محكومة بانفعالات الغربة التي تلغي منطق العلاقة بين مفردات الذاكرة من دون أن تلغي تماسك فضاء اللوحة، وجعل الألوان المعتقة والسطوح الموحلة تعبر وحدها عن حال الفنان في منفاه. يبقى أن مظهر أحمد يشتغل على الذاكرة بتجريد يغلب عليه الطابع الخطوطي الذي يقترب من العفوية الطفولية، بعيداً عن مطابقة الأشكال، وقريباً من الافتتان باللعب الحر والحساس في آن.
لا نتحدث عن مستوى واحد في المعرض، ولا عن ذاكرة واحدة، إنما عن تجليات تجارب المنفى وخلفها تجليات الذاكرة المكلومة.
السفير
24-21-2011