أحمد بزون

أحمد بزون تفاجئك لوحة يبدو فيها أحد وجوه رفيق مجذوب أنيقاً، بالمقارنة مع لوحات أخرى أكثر ميلاً إلى فوضى الشكل والكابوسية أحياناً. سألته عن السبب، فقال: «إنها اللوحة الأولى التي نفذتها عندما بدأت مشروعي الفني لهذا المعرض»، لينفتح كلامه على سؤال آخر: وما هو مشروع هذا المعرض؟ هنا كان عليّ أن أجيب عن السؤال بنفسي، ذلك أن الارتباك في تجديد المشروع، لا في قدرة الفنان على الإجابة، هو جوهر التجربة التي يقدمها لنا مجذوب هذه المرة.
هذا بعض من دردشة أجريتها مع الفنان الذي يقيم معرضاً جديداً لأعماله، في غاليري Art on 56th (الجميزة)، لغاية 31 كانون الثاني الجاري، ولعل العنوان الذي وضعه لمعرضه «مطر في داخلي» يكمل المعنى الذي أراده من المعرض. إذ يتضح من خلال ما رأيناه أن أعمال معرضه هذا أقل جنوناً ودماراً وتمزقاً، فقد هدأت ريشته قليلاً، وربما كانت اللوحة الأولى التي صور نفسه فيها مع القبعة الجميلة التي طالما استخدمها، ومع «الجاكيت» الأنيقة والألوان الهادئة والقليل القـــــليل من الضربات العنيفة، مثالاً على التحول، بل إن القـــــبعة بدت كأنها تمطر ألواناً عــــلى وجهه. فالمطر، رمزياً، أتى هنا ليغسل الماضي، ليغسل الوجــــــوه، ويهــــدئ توتر شـــــخوصه الذين كثيراً ما يشبهون الفــــنان نفسه بالشكل، بل يعبر بهــم عن توتره الداخلي من خــــــلال تفاصيل الحركة والخلـــــفيات والإشارات التعبيرية المكثفة والرموز والألوان.
إذا بدأنا من اللوحة التي تحدثـنا عنها نشعر بأننا أمام انقلاب جذري في تعبيرية مجذوب، لكننا عندما نتجه إلى لوحات أخرى ننتبه إلى أن الانقلاب ليس فاضحاً، إنما غسل الفنان بالفعل لوحته، كأنما رأى أنها كانت مسكونة بالكثير من السوء والتمزق النفسي والجنون والرعب والسخرية الجارحة من الحياة. غسلها لا ليتبرأ من نفسه، إنما ليخفف من غلوائها، ليهدأ أكثر، كأنما يخلع ثوباً من أثواب النفس كان ضاغطاً على صدره.

لوحات كثيرة من أعمال المعرض الـ15 مثلت حركة الغسل أو المطر، أي رش الماء على ألوان الأكريليك الحية لتسيل على اللوحة بشكل منسرح، من أعلى إلى أسفل، وفي لوحة استخدم مظلة لإدخالنا في فضائه الماطر، بل إن بعض اللوحات ذهب فيها إلى التخفيف من الضربات العنيفة أو المسامير اللونية والأشكال الجارحة، لينحو أكثر في اتجاه تعبيرية أكثر هدوءاً. من دون أن يعني ذلك أن لوحات المعرض كلها باتت «نظيفة» من جنون ماضٍ، أو جلد للذات، أو الاستنقاع في ذاكرة مسكونة بحال من التشظي، إنما وجدنا بين طرفي النقيض لوحات ترسم الخط البياني الذي يصور حركة نفس الفنان، أو تقلب مزاجه الذي لا يخلو من حنين ريشته إلى تشطيبات الماضي، وقد وضع لوحة كبيرة في هذا المعرض الجديد من أعمال ماضية له، ثم وجدنا لوحة أخرى يقدم فيها حركة غريبة، إذ رأيناه قد رسم رأساً ملوياً، فالحركة تلك أعادتنا إلى عنفه السابق في التعبير، بل وضعتنا، على درامية التعبير فيها، أمام ابتكار جديد لحركة الرأس الذي لم يجرؤ الفنانون إلا نادراً فعله، عندما «طعج» الجمجمة بخطوط بسيطة وبلاغة تعبيرية عالية، بحركة تجريبية مبسطة وناجحة.
يرسم مجذوب أشكاله عمـــــوماً بخطوط غير صريحة أو أنيقة، ذلك أن حركة الخط بفوضاها وتفلتها تتحرر من مهمة تأكيد الشـــكل، لتدخل أكثر في هيصة التعبيرية التي أداها الفــــــنان منذ البداية. وإذا كان يُدخــــــل الألوان في عــــــدد من لوحاته، يبقى الرسم الذي يحـــــدد الشكل محكوماً باللون الأســـــود الذي يثابر على استخدامه في الكثير من أعماله، كونه أكثـــــر صراحة في رسم حدود الوجه، ثم أكثر قرباً مـــــن السخرية السوداء، التي كــــــانت تتفلت أحياناً نحو الكاريكاتورية في الـــــسابق.
جديد مجذوب لم يخسر من قوة تعبيريته، ومن قدرته على تفوير ذاته، ومن اللعب بحرفية واضحة بالوجوه كمرايا ينحطم عليها الداخل... وهو يبرّد، في معرضه هذا، بالمطر النظيف الذي يهطل في داخله، صراع الأفكار أو نيران الكوارث والحروب.

السفير : 14-01-2015