اتفقت مرات عدة مع الفنان الراحل عارف الريس على أن أقيم معه حواراً طويلاً، بهدف كتابة سيرته الفنية والثقافية والشخصية في كتاب يوقعه وأحرره، إلا أن فوضى الفنان وظروف العمل، بالإضافة إلى ما حدث له من انتكاسات صحية في السنوات الأخيرة من عمره، حالت دون ذلك. على أن هذا التعثر في كتابة سيرة طويلة، لفنان صال وجال في دنيا الفن، لم يمنعني من إقامة حوار قصير معه بهدف تقديم بورتريه كان مطلوباً لإحدى الصحف الفنية. أضفت إلى كلام الريس ما أعرفه عنه، واستعنت بالمجلد الذي أصدره عنه الفنان والناقد عمران القيسي بعنوان <<عارف الريس>>، لتثبيت بعض التواريخ والأسماء التي اضطربت في ذاكرته. ولأن المقالة التي كتبت منذ أكثر من سنة تعرضت للضياع ولم أرسلها من جديد، عدت إلى المسوّدة اليوم وأعدت تحريرها هنا.
لم ينثر فنان تشكيلي لبناني الغبار من حوله، مثلما فعل الفنان عارف الريس، الذي كان يصخب الجدل حوله وحول تجربته ثم يخفت. ذلك أن تقلباته الفنية وانقلاباته على المدارس وعلى نفسه جعل نقلاته الفنية قاسية وحادة، فهو اختصر المسافات وعبث بها مزاوجا بين اللوحة الملتزمة والهذيان الخطي واللوني، ثم متنقلا بين الفطرية والتكعيبية والتعبيرية التحريضية والتعبيرية الوحشية والاوب آرت والحروفية في التصوير، ومتنقلا بين التجريد والحروفية الاسلامية والمعمارية والتشخيصية التعبيرية في النحت.
لا حدود للوحته أو منحوتته. فهو لم يترك مادة من المواد التقليدية إلا واستخدمها، فرسم بالرصاص والحبر الصيني والفحم والطبشور وصوّر بالزيت والمواد المائية، واشتغل ما يشبه النسيج التشكيلي الجامع، ثم نقش وحفر واستخدم في منحوتاته المعدن والحجر والخشب.
ربما لم يكتسب فنان لبناني الخبرة التي اكتسبها عارف الريس، من خلال تجواله بين الدول ولقائه كبار الفنانين ودرسه على أيدي عمالقة الفن.
فهو منذ البداية رسم أعمال معرضه الأول الذي أقامه في الجامعة الاميركية ببيروت العام 1948 بأدوات والدته التي كان الفن هوايتها، قبل أن يقرر رئيس اليونسكو جوليان هاكسلي مشاركته مع فنانين عرب وأجانب في المعرض الثاني الذي نظمه في قصر اليونسكو ببيروت.
الصدمة الأفريقية
كان على عارف الريس أن ينتقل مع أسرته إلى السنغال، حيث أدهشته الطبيعة الأفريقية والنور وجمال الألوان والأجساد الأفريقية الراقصة، فكان ذلك حافزا لمتابعة المسيرة الفنية بالاعتماد على عصامية كانت تتغذى على ثقافة والديه من جهة واندفاعه الدائم إلى كسب المعارف الفنية من جهة ثانية.
في أفريقيا صوّر الفنان دهشته، إذ كان مباشرا في نقل الطبيعة وألوانها وحركات الناس وأشكالهم الفيزيائية قبل أن ينتقل إلى التعبير عن دواخلهم ومعاناتهم، وقبل أن يعبّر بالخطوط والتكرارات عن طبيعة الإيقاعات الأفريقية الموسيقية، وإيقاعات الحياة اليومية، خصوصاً الرقص. وتنقلت تجربته بين الحدة والفجور اللوني مرة، وبين التآليف الهادئة التي يتحول فيها اللون إلى التعبير بعيدا عن دهشته وصدمته.
لم يقف طموحه الفني عند إغراءات الطبيعة الأفريقية التي جذبت العديد من الفنانين في العالم، إنما أصرّ على أن يقفز إلى باريس عاصمة الفن في ذلك الزمن. وإذا كانت إقامته في السنغال استمرت حتى العام 1955، أي سبع سنوات فهو اخترق هذه الإقامة العام 1950، طالباً الدراسة الفنية في باريس، وهكذا دخل الأكاديمية، ثم خرج فيها بعد ثلاثة أسابيع مفضّلا التنقل بين محترفات الفنانين الكبار اختصارا للوقت أو إسراعاً في إنجاز المهمة. وقد شاءت الظروف أن يلتحق بمحترف فرنان ليجيه وأندريه لوتوهنري غوتس، ثم كانت له حظوة دراسة النحت على يد أستاذه زادكين فانفتحت أمامه منعطفات الحداثة النحتية، والحياة التشكيلية بكل أبوابها المشرعة على جهات عدة.
وأمام تفتق المذاهب الحديثة، وقف عارف الريس مصدوما شأنه شأن العديد من الفنانين الذين يغامرون في الغوص إلى أعماق التجارب الحديثة. هذه الصدمة جعلته يعيش حالاً من الضياع، لم ينتشله منها سوى صديقه المسرحي اللبناني منير أبو دبس، الذي أخذه معه إلى محترف اتيان دكرو للرقص التعبيري والتمثيل الإيمائي. وهناك التقى مارسيل مرسو ومجموعة من الممثلين الإيمائيين المعروفين في باريس. وهناك أيضاً بدأ يتعرف على طقوس حركة الجسد وعلاقة كل حركة بالحالة النفسية، ما وضعه أمام صورة أكثر وضوحاً لأبجدية الجسد.
في محترف الرقص أصبح جسده هو المنحوتة التي يعتني بها، ويلويها ويلينها، ويقيم عليها تجاربه التعبيرية، التشخيصية والتجريدية، ويختبر قدراته، ويدرس علاقة جسده الممتلئ بالفراغ المحيط به.
لم يدم انقطاعه عن الفن التشكيلي طويلا، إذ أقنعه أستاذه ايتان دكرو نفسه بالعودة إلى اللوحة، ذلك أن الجمهور الفرنسي متطلب وغير مكتف من أي عمل فني، وعندما لا يعجبه أي عرض قد يلقي على صاحبه البيض والبندورة، فالناس يدفعون أموالهم ليقتلوا الضجر لا ليستغرقوا فيه. في حين أن علاقة الفنان باللوحة أكثر إطلاقا، فهو حر بين بياض اللوحة والمواد اللونية والخيال الذي يتداعى.
حافظ الريس على علاقته باتيان دكرو وتابع معه <<رياضة>> الرقص والتمثيل، ليعود من جديد إلى احتراف الفن التشكيلي. بعد ذلك انفتحت أمامه باريس، بفلسفتها وأفكارها ونزعاتها الحداثية، فتعرف إلى أندريه جيد وكان يلتقيه دائما في المقهى، ثم اجتمع بجان بول سارتر ومن حوله من رموز الفلسفة الوجودية، لكنه كان يشعر دائما بأنه ابن حضارة مختلفة وفلسفة مختلفة وعقلية مختلفة، وأنه لا يستطيع أن يندمج كليا بذلك الجو الحضاري الذي يحيط به، فقد أتعبته الفلسفة، كما يبدو، وأرهقته التباينات الفكرية، ما أدخله، من جديد، في مرحلة ثانية من الضياع والعزلة، لم يكسرها إلا التحاقه بمحترف الحفار فريد لاندر ليدرس الحفر ويمارس كل فروعه. ثم يحمل معه إلى بيروت أول مكبس للحفر يستخدم في معهد الفنون الجميلة ولا نعلم إذا كان لا يزال موجوداً فيه حتى الآن.
في هذه المرحلة من حياته الباريسية التي كانت تضج بالفنانين والتيارات الفنية الحديثة، كان بيكاسو وماتيس أكثر فنانين استرعيا انتباهه، واستحوذا على تفكيره في الفن، لكنه لم يلتقِ أياً منهما، فهما كانا يعيشان في الأبراج، ولا يحضرون حتى إلى معارضهم.
عندما عاد عارف الريس إلى لبنان في العام 1957، وجد نفسه في المختارة إلى جانب كمال جنبلاط <<الشاعر والأديب الذي امتهن السياسة رغما عنه حفاظا على التراث الجنبلاطي>> على حد قول الريس.
ربطت الريس بجنبلاط صداقة متينة وأحاديث في الفن والشعر والفكر والتيارات الثقافية المعاصرة. من المختارة، حيث قصر جنبلاط، كان الفنان الريس يصوّر المناظر الطبيعية الجبلية التي جمعها في معرض أقامه في العام 1958 في غاليري أليكو صعب في بيروت.
في العام 1959 اشترك في معرض الربيع الذي يقام في قصر اليونسكو بيروت، ولما أعطيت الجائزة الأولى في المعرض لفنان آخر استقال عضوان في اللجنة هما فكتور حكيم وموليكا مديرة المركز الثقافي الإيطالي الذي عرض فيه إنتاجه الأفريقي وحصل خلاله على منحة للدراسة في ايطاليا، التي قصدها في العام نفسه وأقام فيها حتى العام 1963.
في فلورنسا بإيطاليا درس النحت على يد الفنان الإيطالي الشهير بيرتي، في محترف أكاديمية روما للنحت الحديث، وفي مشغل ماريا مرسيلي للسيراميك.
الجندي الفينيقي
أفادته روما كثيراً، بما له من حضور واحتكاك مع عدد كبير من الفنانين الآتين من أنحاء إيطاليا والعالم، وإقامة حوار نظري وتطبيقي حول التيارات الفنية المتصارعة في العواصم التشكيلية.
نسج الريس في إيطاليا صداقات مع عدد من النقاد الإيطاليين أمثال: أونيلي وبولوني وفيسكونتي وريغانتي ولا رافين غاملزيني. كما تعرف إلى معظم الفنانين الكبار هناك أمثال: ديكيريكو ولا رتجينا ومودورو وموريتي وعدد من الفنانين الآتين من جنوب أميركا.
كان الريس مرتاحاً في علاقاته الإيطالية أكثر من علاقاته الباريسية، فهو اعتبر تلك العلاقات أكثر إنسانية وحميمية.
كان الريس يعرف كيف يوالف بين التقنيات التي يكتسبها والخبرة الكلاسيكية والحديثة التي يتمرس فيها، من جهة، والنظريات الفنية التي يتعرف عليها، من جهة أخرى... ويضيف ذلك إلى روحه الشرقية والمفاهيم النابعة من تربيته وثقافته وقناعاته. وهو في هذا المجال استطاع أن يستخدم قوة النحت الإيطالي ومتانته الهندسية والمعمارية، في بناء منحوتاته العملاقة التي نفذها في المملكة العربية السعودية، حيث أقام لمدة عشر سنوات (1990 ـ 1980)، نفذ خلالها مشاريع مختلفة في تجميل ساحات المدن، ولوحات كثيرة، بالإضافة إلى 16 عملاً نحتياً ضخماً اعتبرت من أهم إنجازاته النحتية.
فالفنان الذي اكتسب الخبرات الغربية في النحت، عمل على توكيد هويته، من خلال تنفيذ منحوتات إسلامية، تستفيد من جماليات الحرف العربي والروحانية والعمارة الإسلاميتين، وتتوالف مع الفراغ والنور والمناخ الصحراوي.
تنتصب منحوتة الريس مرة لتعبر عن القوة والعظمة، فتعلو في الفراغ على هيئة سيف أو رمح، ومرة لتعبر عن الخشوع والدعاء والاتصال بالخالق مستلهمة أشكال القبب والمآذن. هو يعتمد فيها الكتلة الضخمة المقفلة، أو الأجزاء التي تجتمع على شكل إنشاءات متقاربة ومتصالحة. وفي كل الحالات تبدو تلك المنحوتات موسومة بالتكرارات الهندسية التي تضفي على المشهد النحتي جماليات بصرية.
وإذا كنا في انتقالنا إلى إقامته السعودية، تخطينا تجربة الفنان في الولايات المتحدة الأميركية وإنكلترا، فإن العودة إلى تلك المرحلة تقدم إضافات في تجارب عارف الريس.
فهو الذي فاز في مسابقة لبنانية للاشتراك في معرض نيويورك، وحمل منحوتتين له من بيروت، الأولى تمثل <<الجندي الفينيقي>> (ارتفاع 3,5 م) اختصر فيها معارفه عن النموذج الحضاري الفينيقي، وقدم صيغة تجسيمية حرة تداخل فيها الحديد والنحاس، في ملمس خشن يوحي بزمن سحيق. والثانية صخرة حجرية من جنوب لبنان حفرت في داخلها كلمة لبنان بأسلوب فني يحافظ أيضا على تمثيل الحضارة المعمارية المحلية.
الفنان الذي ذهب لحضور المعرض النيويوركي العام 1963، منحته العاصمة الاميركية إقامة لمدة سنتين يتعرف خلالهما على الفن الأميركي من خلال برنامج لقاءات مع الفنانين وزيارات المتاحف والمجموعات الخاصة وغاليريات الفن التشكيلي، وحضور ومشاركة في ندوات فنية، في عدد من الولايات الاميركية. ترك الريس في الولايات المتحدة مجموعة من أعماله توزعت بين المتاحف ومجموعات المقتنين. ثم تابع سيرته في تجديد إقامته خارج البلاد، عندما أقام معرضاً في الجزائر العام 1965، واستبْقته وزارة الثقافة هناك، وعينته مستشارا في مؤسسة تابعة للوزارة نفسها، ثم كلفته تنظيم نقابة للفنانين التشكيليين الجزائريين، وتقديم دراسة بحثية في الثقافة الفنية الجزائرية، قبل أن تنتهي مهمته ويعود بعدد كبير من اللوحات التي حملت عنوان <<طريق السلم>> وصدرت في كاتالوغ.
في مجموعة <<طريق السلم>> أبرز الريس قدرة مركزة على الرسم والتعبير عن مشكلات الناس والأحداث المأسوية التي هزت الجزائر ذات يوم. وإذا ما جمعنا مع <<طريق السلم>> أعماله <<دماء وحرية>> التي أتت بعد نكسة 1967 <<والحب والثورة>> وسواها من الأعمال الكثيرة التي صبت في خانة الرسم الذي صور فيه حرب الجزائر ولبنان والصراع العربي الإسرائيلي... نكون على بيّنة من مرحلة حرجة في سيرة عارف الريس التشكيلية، فهو في لوحات تلك المرحلة اعتمد المباشر والخطاب السياسي والسرد التصويري، مستخدما الأسود والأبيض بشكل أساسي، راسما بالرصاص والحبر الصيني والفحم والطبشور أشكالاً ووجوهاً حديدية ثائرة أو مظلومة أو ظالمة، بأسلوب يعتمد فيه على التعبير التحريضي والسخرية المحمولة على تخييل سوريالي، كما يستخدم فيه رموزاً من التراث الثقافي العربي والغربي.
هذه المرحلة كانت من أعنف مراحل الفنان عارف الريس، وقد واجهها النقاد بالكثير من الاتهامات، وأطلقوا على صاحبها لقب <<فنان الملصقات>>، واعتبروا أن ورودها بعد الشهرة التي يتمتع بها الريس والجوائز التي نالها، ودخوله المعاصرة التشكيلية من أبوابها الواسعة، واشتغاله في محترفات فنانين كبار ورموز للحداثة الفنية في العالم.
لا نقول إن هذه المرحلة تعرضت لمواجهة بحتة، إنما أثارت جدلاً كبيراً شارك فيه نقاد وإعلاميون وجمهور واسع، بسبب دخول النقاش في خانة السياسة وصراعاتها المحلية. وربما يكون عارف الريس سحب عطاءه الفني معه، عندما انخرط في حلبة الصراع السياسي، من دون التزام حزبي واضح. فالفنان الذي وضع نفسه في مقدمة التظاهرات السياسية، في مرحلة من المراحل، شاء أن يستخدم فنه في دعم مواقفه، ويجعله تابعاً لشخصيته السياسية، أي هو سحب محترفه إلى المواقع السياسية، قبل أن يقرر عودته إلى محترفه من جديد، ويبدأ مرحلة جديدة في رسم الزهور <<ونساء شارع المتنبي>>، أي شارع الغانيات بائعات الهوى.
هذه النقلة أو القفزة الجديدة جعلته يتعرض من جديد لهجوم من مؤيدي الأمس، وثناء من المتهجمين على <<فنان الملصقات>>. وهكذا كان عارف الريس في كل نقلة حادة من نقلاته يرمي الحيرة على عارفيه ومتابعيه ونقاده ويحول نفسه إلى شخصية فنية على قدر كبير من الالتباس. .
منعطفات حادة
إنها الحيرة الصادقة التي تتسم بها شخصية عارف الريس، وهو يتخذ قراراته بنفسه، من دون أن يخاف قولة قائل. ولعل السبب المباشر الذي جعله يشتغل في السياسة، هو صداقته لكمال جنبلاط. وإذا حق له أن يصف جنبلاط بأنه انخرط في السياسة رغماً عنه، فإنه يحق لنا أن نسحب الاعتبار نفسه على عارف الريس، الذي عاد من رحلاته إلى الغرب مصطخباً بالأفكار والفلسفات والنزاعات السياسية التي يضج بها العالم الخارج من حربه الثانية والمهدد بحرب ثالثة.
لكن، ما إن هدأت نفس عارف الريس واستكان إلى فنه، بعد صدمة الحرب الأهلية في لبنان والانقطاع الكامل إلى العمل الفني في السعودية، حتى هزّه الغزو العراقي للكويت من جديد وجعله يبدأ مرحلة أخرى من العمل الفني الإشكالي الذي لم يلق استحسان النقاد، والذي جعل اللوحة من جديد مسرحاً لتمثيل الحياة اليومية المباشرة، من خلال الكولاج الذي تجتمع فيه صور من العالم، تشمل سياسيين وفنانين ورجال دين وممثلات وممثلين ومعالم ومحطات يتناولها الإعلام وتنشرها الصحف.
خلطة غريبة عجيبة قدمها عارف الريس في لوحة الكولاج، ليمارس من خلالها سخريته السوداء، وليلهو ويعبث بصور الكبار والصغار على طريقته.
انطلق عارف الريس بلوحات الكولاج أثناء إقامته في لندن، ومع انفجار الغزو العراقي للكويت، وعندما عاد إلى لبنان، وكانت تربطه صداقة بالأمير سالم الصباح، أنتج لوحة كبيرة رسم في وسطها وجه الأمير وقد ألصق حولها صوراً فوتوغرافية مختلفة.
تفاوتت لوحات الكولاج في درجة تداخلها مع التلوين والتحبير اللذين يشدان تأليف اللوحة ويضفيان عليها جواً تشكيلياً.
والحقيقة أن عارف الريس لم ينقطع كلياً إلى لوحة الكولاج خلال السنوات العشر الماضية، وإنما تداخلت معها أعمال تشكيلية مختلفة، شهدت حنيناً شعاعياً لدى الريس إلى مراحل مختلفة من تجاربه، وبلورة لاتجاهات سادت نتاجه الفني. وهو إلى مرحلة الكولاج انطلق في ورشة عمل جديدة تتداخل فيها الاتجاهات، وترتكز، بشكل أساسي، على رغبة جامحة في التلوين، حيث أن زائره يشهد كيف تتكدس اللوحات بالمئات أمامه وخلفه وإلى جانبيه، وبالألوف في غرفة محاذية. إن الغزارة التي نصف بها نتاج عارف الريس، كانت مستغربة عند فنان بلغ الخامسة والسبعين من العمر.
عدد كبير من أعمال الريس لم تعرض حتى الآن، من قديمه وجديده، فهو رسم، أثناء إقامته في السعودية، أكثر من مئة لوحة صوّر فيها الفضاء الصحراوي وتجليات الضوء فيه، لم يعرض منها هناك إلا عشر. وفي محترفه بعاليه أكوام من اللوحات، تتوزع بين مبنيين متجاورين، قديم وجديد.
وإذا كانت ظروف الحياة تعاظمت على قامة الفنان عارف الريس، وهدّت جسده وصحته فإن الرجل بقي حتى آخر أيامه صاخباً، يستخدم ثقافته الواسعة وخبرته التي لا يمتلكها فنان لبناني آخر، في سبيل تعويم نفسه ورفع حرارة لوحته وتجديد عزيمته الفنية، غير محكوم بتوجه بعينه أو بسلطة فنية.
إن سيرة عارف الريس الفنية، تضعنا أمام شخصية إشكالية، غنية بتناقضاتها، وخطرة بمنعطفاتها الحادة، تجعل إبداع الرجل مثار جدل دائم.
السفير
2005/04/22
أقرأ أيضاً: