الحوار العربي الألماني أو الحوار العربي الغربي من مبتكرات ما بعد 11 سبتمبر، هذا الحوار كان حافزا لصورة مستعجلة ومبسطة عن العرب والإسلام. إذ بدا ان من الضروري تكوين صورة عن الآخر الذي بات في عقر دارنا يقرع الأبواب علينا، ولا بأس من تكوينها من الميسور والقريب. الغالب ان رغبة التعرف اقترنت برغبة الاختزال والتيسير والتسهيل. بل في الغالب حملت المتحاورين تسهيلا وتيسيرا للحوار الى تبادل صور سريعة ونمطية. أو تبادل صور عامة ومرسومة حسب حاجة الآخر الضمنية وتبعا لطلبه. كان التعدد والتسامح والاعتدال والاعتراف بالآخر هي العناصر التي يرسو عليها الحوار، لكنها أيضا العناصر التي ترسم وجهته ونتائجه وتكاد تختصره، حاول (الشرقيون) أو الإسلاميون القول إنهم أيضا مع التعدد والتسامح، لكن النقاش مع ذلك كان يحتد حول الموقف من الولايات المتحدة وحول الديمقراطية في ديار الإسلام. كان الغربيين يضعون اللوم على الإسلام الذي افترضوا انه بدون جزم قد يكون وراء افتقار العالم الإسلامي المزمن للديمقراطية، فيما يؤثر العرب والشرقيين ان يضعوا جانبا من اللوم على الغرب الاستعماري وعلى إيجاد إسرائيل في المنطقة، مع ذلك فالنقاش على هذا يفقد أسسه، لقد بدأ مفترضا بين ثقافتين وانتهى بسؤال ثقافة واحدة، لم يكن لدى الشرقيين ما يعلمونه للغرب، ولا يطرحون في الأساس سؤالا يتعلق به، إنهم يستفهمون الغرب عن أنفسهم ودوره في صناعتهم وتكوينهم. ويلومون الغرب على ما لم يفعله أو أساء فعله، لكن أسئلة كهذه هي في جانب واحد وعلى جانب واحد.
هل كان الحوار الذي دار في صنعاء بين الألمان والعرب حول غونتر غراس مختلفا، الفكرة طريفة بالتأكيد. حوار حول غونتر غراس، الذي هو ليس كبير أدباء ألمانيا اليوم فحسب، بل هو في السياسة مثله في الأدب، خبير ومحنك ومنخرط حتى العظم. بل هو نظرا لمكانته في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم يكاد يكون مندوبا رسميا. كان الرجل هو نوبل الآداب مجموعة مع نفوذه السياسي. ذلك جعله بحق محورا مثاليا لحوار يصعب حصره في الآداب، ويفقد سبب وجوده اذا لم يفلت الى السياسة، والحق ان الرجل ملأ دوره وزاد، خاطب علي عبد الله صالح مخاطبة تجمع بين حرية الأديب وخبرة السياسي، الحنكة ذاتها أبداها أثناء الحوار، كان يريد حوارا مباشرا وحول مسائل مباشرة، لم يرحب كثيرا بالتحليلات النظرية بل طرح فورا أسئلة عينية: الجهاد، الرقابة، الديمقراطية، كانت لديه أسئلته، بالأحرى لديه أجوبته، فحقيقة الأمر ان غونتر غراس أتى كما يأتي المفاوض بوجهة نظر متكاملة. بدا وكأنه قبل ان يدخل الى قاعة الحوار درس الموضوع أو أصغى الى ما يكفي، وبات في وسعه ان يمحص وان يصغي إصغاء نقديا، وأن يعترض على خلفيات حقيقية أو مفترضة في كلام محدثيه. بل الواقع ان غونتر غراس لم يسأل كثيرا، بل ترك محاوريه العرب يسألون. كان بين الفينة والفينة يقطع الحوار ليجيب، بل اذا صحت الترجمة يبدأ كلامه بالقول: عندي أجوبة، لم يكن شأن الألمان الذين معه مختلفا. بدا وكأنهم جميعا تشبعوا من الأسئلة وبات في وسعهم ان يمحصوا كلام محاوريهم وأن يتبينوا مواطن الخلل والخطأ فيه، من الجهة العربية كان اللقاء بداهة بغالبية يمنية، لكن حضور أدونيس ومحمود درويش منح الجانب العربي ثقلا موازيا لغراس، بل بدا في لحظة ان الحوار الأساسي يكاد يكون ثلاثيا، وما عدا ذلك من مشاركات ألمانية وعربية يدور حوله. كانت الجلسة الأولى لمقدمات الحوار. المقدمة الأولى كانت لأدونيس. الذي أكد مجددا ان الآخر عنصر مكون في الهوية العربية التي قامت على عنصرين هما الدين العربي والفلسفة اليونانية الأجنبية، تلك هي الصيغة الحضارية العربية في عهدها القديم. ذلك يتجلى في النص القرآني الذي اذا قرأناه بوصفه نصا ثقافيا وجدنا فيه عناصر مما قبل الإسلام تتمازج مع اليهودية والمسيحية.
اس بدوره قال انه جمع من زمن طويل ثلاث مهن هي الرواية والشعر والرسم، وتلقى عام 99 مهنة جديدة هي نوبل، وتمنى على مستمعيه ان لا يتأثروا بالمهنة الرابعة، طرح غراس موضوع الرقابة وعدد أصنافها. الرقابة العامة، ثم رقابة الصناعة والإنتاج والرأسمال، ثم رقابة الكتاب على أنفسهم، وهي أسوأ الرقابات، قال غراس انه يعرف الرقابة في العهد النازي التي تصدت لليهود بالعنف والتشريد، (وهكذا أسهمت ألمانيا في بناء إسرائيل)، انزلق غراس عرضا الى الموضوع الرئيس في الحوار وهو الصراع العربي الإسرائيلي. أوحى غراس الأديب أخيرا ان لا يقف الى جانب المنتصر وأن يكون مستعدا دائما لتجاوز الحدود. فالأدب (مهنة خطيرة لا تلزم أحدا بأن يمتهنها، ان لم يكن مستعدا لتجاوز الخوف.
محمود درويش دخل في جدل العلاقة بالغرب.. بين تأنيب الذات ولوم الآخر (إن صورتنا في مرآة الآخر ليست صحيحة، لكن صورتنا في مرآة أنفسنا ليست صحيحة). ثم تكلم عن أحادية التحديد وواحديه كل طرف في مرآة الآخر، (صورة الشرق تلخصت في مقولة الأصولية الاسلامية وصورة الغرب تلخصت في إطار الهيمنة الاميركية)، هذه الأحادية منتقدة لأنها مانوية بين أصوليتين. أصولية إسلامية وأصولية غربية مضادة، إذ من غير الممكن فهم أي ثقافة بمعزل عن العناصر الضدية في داخلها.. نقاد الثقافة الغربية الحقيقيون هم غربيون) والحكم على الإسلام من خلال الأصولية هو كالحكم على المسيحية من خلال محاكم التفتيش، والحكم على اليهودية من خلال اعتداءات الجيش الإسرائيلي. كما إننا لا نستطيع ان نختصر الغرب اليوم في صورة أميركا (التي تقسم العالم الى مانويه الخير والشر، والتي تدافع لا عن حق إسرائيل في الوجود بل حق إسرائيل في حرمان الفلسطينيين من حقهم في الوجود المستقل)، إما حال العرب اليوم في العالم فتتلخص في (صعوبة فهمهم لعجزهم عن الحضور ككيان فاعل)، هم جزء من العالم وخارجه في آن واحد، يتساءلون بمرارة (هل يشاركني الآخر في الحوار ولماذا لا يجعلني عدوا له ما زلت عدوا لنفسي). كانت لغونتر غراس بعد ذلك مداخلات كثيرة، فهو ذو حق في الكلام ساعة يشاء، والحوار ذو دائرتين متقاطعتين إحداهما حول غونتر غراس والثانية بين الحضور، وهو حوله وخارجه في آن معا، ومعه وبين الباقين في وقت واحد، كان دور غراس لذلك مركبا ومزدوجا. الحوار كله مطروح عليه وعليه وحده ان يجيب، وهو بحد ذاته كفة كاملة وطرف كامل، والآخرون، أيا كانوا، في الكفة المقابلة والطرف المقابل، ثم انه، على نحو ما، منتهى النقاش الذي يفضي إليه، وعليه وحده ان يحكم فيه وأن يجمعه ويختمه ويرسم نهاياته، استمع غونتر غراس الى تعليقات كثيرة في معظمها عربي، كان بعضها يجد في وجود طرف غربي فرصة ليقول لغونتر غراس (اذا كنت صديقا لإسرائيل فلن تكون صديقا للعرب، أو بعضها يطرح جريرة الغرب في قيام إسرائيل من الأساس، وبعضها يذكر بعقيدة الإسلام في الجهاد، وإن بدا ان أكثر التعليقات تقول ان الأنظمة العربية وربما الغربية هي التي سيدت الأصولية وجعلتها واجهة كبرى، كان واضحا ان موضوع الرقابة لم يحظ إلا بالتفاته سريعة، فالجميع كانوا مملوئي الفم بما يريدون قوله عن مسائل في نظرهم أكثر التهابا وإلحاحا. تدخل غونتر غراس ليقول انه يؤثر ترك الحديث عن صراع الحضارات، فهذا الصراع لا يدور إلا بين أصولية عربية وأصولية غربية، وان هناك مقاومة لهذا المفهوم من اليساريين بل وحتى من المحافظين (لا تتوسعوا أرجوكم في هذا الحديث فهو يؤدي فعلا الى الحرب).
قال انه يعرف فعل العربية من ألف ليلة وليلة التي أثرت على بوكاشيو وأثرت مباشرة عليه (كل حضارة تكون مملة اذا لم تتأثر بحضارات اخرى).
في الجلسة الثانية رسم غونتر غراس وجهتين للنقاش: الجهاد والرقابة، كان واضحا ان حوار الشرق والغرب يكاد يختصر في الصراع العربي الإسرائيلي الذي لا يقع تماما في صلبه، الأمر الذي أثار ردا ألمانيا وجد ان العالم لا يختصر في هذا الصراع الذي يبدو عاديا بالقياس لما يعانيه العالم اليوم.. انه صغير بالقياس لما يتهدد الكون، غونتر غراس قال انه يحتج على اتجاه لتحميل الغرب مغبة كل ما يعانيه العرب اليوم. قال إن على العرب ان يتحملوا مسؤولياتهم بالأصالة عن أنفسهم. أعاد ما قيل من ان الغرب ليس واحدا. ورأى في موقف شرودر من الهجوم على العراق مثلا واضحا على تعدد غربي وعلى وجهة نقدية في السلوك الغربي. ذكر ان أميركا توجست بعد ثورة البرتغال من ان ينحاز النظام الجديد الى الشيوعية فنوت الهجوم على البرتغال وقلب الحكم الثوري، لكن وقوف فيلي براندت مستشار ألمانيا، وبولمه الزعيم الهولندي، وكرايسكي مستشار النمسا، ضد الهجوم الاميركي حال دونه، كان عندنا سياسيون كبار، قال غونتر غراس وليس لدينا الآن سياسيون من هذا الطراز أضاف، ناسيا مديحه القريب لشرودر (لو كان فيلي براندت حيا لقال ان مشاكل الإرهاب لا تحل بالحرب)، قال متأسفا في حنين غير مفاجئ الى صديقه الراحل.
موضوع الرقابة كان مناسبة لشهادات ممتعة. روى عبده وازن ما تعرض له بعد صدور (حديقة الحواس) الذي منعته الرقابة، روى حديثه مع الرقيب الذي لم يميز بين الايروتيكي والبورنوغرافي، فحاول عبده ان يفسر له الفرق بين الاثنين، وقال له إنهم في الغرب يفرقون، وأعطاه أمثلة فلم يزد الرقيب على ان قال (لقد شهدت بلسانك انك متأثر بالغرب وتأتي بأشياء من الخارج).
محمود درويش قال ان الرقابة علمته ان يتقن فنه، وان يكتب شعرا يقدم الفن على السياسة. قال ان قصيدة يكشفها الرقيب هي في الغالب قصيدة رديئة وأن الشعر الجيد قادر على ان يهرب من مقص الرقيب وان يعمى عليه (هذا ليس مديحا للرقابة) أردف درويش.
ونيس، قال ليس صحيحا، ان الماضي العربي لم يعرف اضطهادا للفكر والمفكرين، ومما جرى في العهود القديمة يوازي في كمه ونوعه التفتيش الغربي، والتاريخ العربي حافل بظلم المفكرين، هذا من الجانب العربي إما في الجانب الغربي فثمة نوع من الرقابة يسميه الحجاب، أعطى مثلا عليه الحجاب المضروب على نقد الأصوليات الأخرى بالتوازي مع النقد المباح للأصولية الاسلامية. الحجاب المضروب على نقد الصهيونية بوصفها نزعة دينية وأكثر من قومية، أي عنصرية لشعب اختاره الله، قال ان العرب اعترفوا بحق إسرائيل في الوجود لكن في الثقافة الغربية اتجاها الى المزج بين الاعتراف بإسرائيل وتأييد سياستها بما فيها من قتل وتشريد للبشر وتهديم للبيوت وأسرلة الأرض والمجتمع بالقوة.
ان صوت جار الله عمر ومثقفي الحزب الاشتراكي لافتا، قال ان العمليات الانتحارية أدينت من قبل اليسار الغربي والحزب الاشتراكي والمثقفين الفلسطينيين، لكن الموضوع الفلسطيني لا يتلخص في العمليات الانتحارية.
بعد الرقابة انزلق الكلام مجددا الى السؤال عن قضية وجدي الاهدل. سأل غونتر غراس وسواه عما فعله الكتاب اليمنيون في سبيل حرية الاهدل، جاوب عبد العزيز المفالح قائلا ان الكتاب اليمنيين كانوا ضد المنع بالرغم من ملاحظاتهم على كتاب الأهدل، وكانوا جميعا على استعداد للوقوف معه، حدد جار الله عمر ان أكثريتهم وقفت معه وأقليتهم تواطأت مع المحافظين، لكن القوى المحافظة ضغطت عليه نفسيا فاضطر للهرب (ونحن نأسف أسفا شديدا لأنه ليس معنا اليوم يتحدث عن مشاعره وتجربته)، لم تكن قضية وجدي الاهدل هي كل ما سمعه غونتر غراس وصحبه في رحلتهم الى عدن وحضرموت. سمعوا ان حال المرأة أيام الحكم الاشتراكي كانت أفضل، ونصيبها من الحرية والحقوق اكبر بكثير، سؤال يحك بالتأكيد رضوضا وجروحا دفينة، لكن جار الله عمر كسر التابو وتكلم بصراحة. قال إن انتصار الشمال على الجنوب كان انقلابا اجتماعيا جعل كفة المحافظين والرجعيين راجحة، قال ان قانون الحكم الاشتراكي في الجنوب أعطى المرأة ما لم يعطها إياه النظام التونسي العلماني نفسه، وتمتعت أثناءه بحقوق حرمت منها.
فيما بعد انه حوار آخر بالطبع. أيا كانت ملاحظاتنا عليه فقد كان حارا ومر بلحظات شائقة. كانت الردود عليه من جملة المتناقشين في اتجاهات متباعدة. خطب أصولية في مديح الجهاد، ومماحكة للغرب ترميه بما يرمينا به من نفس الرقابة وقلة الديمقراطية وجواب ألماني عن ان أميركا قامت لا بالظلم والعسف كما يقول العرب ولكن بحرياتها وديمقراطيتها، وتساؤل من فخري صالح عن قلة حساسية المستمعين الألمان تجاه النقد الذاتي الذي يقوم به المثقفون العرب في الجلسات، كان صعبا بالطبع جمع النقاش، الذي ذهب ألمانيا في تلاوين عديدة، وعربيا في اتجاهات متناقضة لكن الواضح هو ان الألمان جاؤوا وفي حوزتهم أجوبة أكثر مما لديهم من أسئلة. لذلك لم يتابعوا بدقة الإشكاليات التي أثارها المثقفون العرب ولم يصبروا كثيرا على تحليلاتهم النظرية، لقد كانوا منفتحين حقا وبالتأكيد، لكن شيئا من الخلفيات المسبقة حكم أحيانا إصغاءهم لمحاوريهم العرب.
استعجلوا أحيانا الانتهاء من شروحاتهم لموقعهم التاريخي وتشابكات أوضاعهم، ثم إنهم لم يقدروا بما يكفي النقد الذاتي الذي قام به كثيرون من محاوريهم، والأغلب إنهم لم يلحظوه تماما، هل كانت هناك أزمة لغة بكل المعاني بما فيها المعنى الحرفي، هل لعبت الترجمة، كما تلعب عادة، دورا إشكاليا في المسألة. أم ان اختلاط الأصوات العربية من أصولية. فقوموية فنقدية شوش الصورة وشوّش الاستماع. ثم ان هناك في الغالب اتجاها مضمرا يجمع الشعوب مع حكامها جميعا غير دقيق تماما، فنقص الديمقراطية تبعة تلقى على العرب جميعا شعوبا وحكاما وماضيا وحاضرا، مهما تكن مسؤولية الشعوب عن الاستبداد إلا إننا نبرئ الاستبداد تقريبا حين نضعه، بالدرجة نفسها وبالتوازي، على عاتق المحكومين، لم يحصل في يوم ان أدينت شعوب أوروبا الشرقية باستبداد وطغيان أنظمتها، ومحاكمة الشعوب العربية على هذا النحو يشتمل على شيء من الاستخفاف.. ان لم نجد اسما آخر.
السفير-2002/12/20
إقرأ أيضاُ