“أمين صالح” روائي بحريني وقاص، وسارد لنصوص مفتوحة، وسيناريست له أعمال تلفزيونية عدة وسينمائية أيضا وهو مجدد يعشق النص المفتوح وله تجارب بالغة العذوبة والجرأة.
كتب أمين صالح قصة أول فيلم بحريني بعنوان “الحاجز” عرض في مهرجان القاهرة السينمائي عام 1971 كما ترجم كتاب “السينما التدميرية” و”النحت في الزمن” و”حوار مع فليني” وأعد كتابا عن التمثيل وقدم لنا كتاب “الملاذ” ورواية “رهائن الغيب”، وشارك قاسم حداد في كتابة نص “الجواشن” وكان لنا معه في القاهرة هذا الحوار:
* كتاب “الجواشن” تجربة فريدة في الكتابة العربية فماذا عنها؟
هو مشروع عفوي لم يكن مخططا له، وأردت أن أشترك مع قاسم حداد في كتابة معينة لكن لم أعرف إن كانت هذه الكتابة هي رؤية هي بياناً، ثم فكرت في كتابة رواية ووضعت خطوطا لها واتفقت مع قاسم على أن نعمل بها.
لم نكن نعرف كيف سيتشكل الأسلوب أو اللغة، ثم كتبنا عشرات الصفحات وكان هناك توقف وانقطاع بين فترة وفترة، وكنا نمر أحيانا بالملل، وظننا أن التجربة لن تنجح، ثم اكتشفنا أن الخلل في الموضوع نفسه، لأننا وضعنا خطوطا ومشينا في ضوئها، كان أهم عنصر في الكتابة هو المتعة متعة اكتشاف الشيء، لذلك قررنا أن نلغي كل الصفحات التي كتبناها وبدأنا نكتب كتابة لا نعرف إلى أين تنتهي، أو بأي لغة أو أسلوب ومن دون أن يكون هناك أفق أو خريطة معينة نتبعها، فوجدنا أن لدينا حرية هائلة، ولم يعد لدينا التزام بموضوع أو شخصيات واتخذنا موقف القارئ الذي يفتح الكتاب ولا يعرف إلى أين يذهب.
كنا نتبادل أحيانا الأدوار، أنا أكتب صورة شعرية ويكتب هو سردا معينا أو حالة معينة يكتبها ناقصة وأنا أكمل وقد بالغنا في اللهو بحيث إن أحدنا يكتب جملة وأحدنا يدخل إلى الجملة حتى نكسر توقع القارئ، أي أن القارئ حين يأتي إلى العمل يأتي بشروطه ويريد أن يعرف أين يقف أمين وأين يبدأ قاسم.
خلطنا الأوراق وبعد فترة كنا نسأل هذه الفقرة من كتبها؟! هذا جعل الأسلوب وكأن واحدا هو الذي كتبه وليس بالمعنى المتكلف، ولكن بشكل طبيعي، هناك عنصر آخر أهم في أية كتابة مشتركة ليس فقط الأشياء المشتركة بين الاثنين لغويا وفلسفيا وحتى حياتياً، بل لابد أن تكون هناك خاصية أخلاقية أيضا وهي عدم الأنانية، لأنها لو وجدت عند واحد من الاثنين يهدم المشروع كله، بمعنى أن يقول أحدنا أنا الأفضل، أو يحاول أن يتفوق على الثاني.
* هل هناك تجارب أخرى مشتركة تعجبك؟
هناك كتابة مشتركة جميلة بين عبدالرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا، لكنها لم تكن مشتركة بالمعنى الذي فعلناه، كان الواحد يكتب، والثاني يكمل الكتابة، بحيث بات من السهل التمييز بين الشخصيتين.
*تداخل الأنواع الأدبية والنص المفتوح سمة من سمات الكتابة لديك.. لماذا اتجهت هذا الاتجاه في الكتابة؟
وجدت حرية أكبر، حين تكتبين قصة بالمفهوم التقليدي، والسرد التقليدي بعد فترة تشعرين بأنك استنفدت هذا، وهناك عشرات الكتاب يكتبون بهذا الشكل، وهو ما فجر عندي رغبة في الدخول إلى أفق أوسع، الشخوص لا تكون مثل الشخوص العادية بل يمكن أن تصبح حالات معينة، اللغة تكتسب طاقة شعرية، لا تكون مقيدة بإخبار أو نقل معلومات معينة، بل تكون مثل أي كائن حي ينمو لوحده ويخرج النص عن مساره، ويتشكل ككينونة خاصة، أنت كاتبة وتعرفين أن هناك نصا مخططا له يبدأ بالتمرد، شخصية معينة وضع لها خط على أنها شخصية ثانوية فتستطيل وتتداخل ومع الوقت تبرز وتصبح هي الشخصية الرئيسية والمقترحة أساسا للشخصية الرئيسية تكون أقل وهذا يتطلب من الكاتب أن يكون مرنا أكثر مع الكتابة منفتحا أكثر، حرًا أكثر.
النص المفتوح يوفر هذا الشيء ويتيح للكاتب معالجة الأنواع بشكل مختلف ويجعلها تتداخل معاً، وهو حق مشروع للكاتب أن يستفيد بكل التقنيات ويدخل كل مجال دون تخوف ولا يقول إن هذه الكتابة ستجد معارضة من القارئ أو من الناقد.
* هذا معناه أنك لا تختار شكل الكتابة مع مضمونها؟
هو يشكل نفسه، أنا أبدأ بصورة معينة أو جملة، أحيانا تتكون عندي جملة وبعد سنة تتحول هذه الجملة إلى كتاب، لأن يكون لهذه الجملة معنى خاص عندي، على سبيل المثال في كتابي الأخير “المنازل التي أبحرت أيضا” لا أعرف من أين أتت الجملة وكيف استقرت في الذهن، ثم حين بدأت الكتابة بدون خريطة اكتشفت أن ثيمة الموت والسفر هي الغالبة، هناك أمور معقدة وغامضة جدا تحكم الكتابة وليس العكس، ليس الوضوح والصراحة المعرفية هي التي تحكم.
* وهل الكتابة تأتي من جانب مظلم في اللاوعي؟
أكيد أعتقد أنه أثناء الكتابة كل العناصر تشتغل: الوعي واللاوعي، الذاكرة، المعرفة، المخيلة، سنوات الخبرة كلها تتداخل ولا يوجد عنصر يتغلب على الآخر، لا نستطيع أن نقول إن الكتابة الآلية التي تتوفر عند السرياليين، أو الكتابة البحثية من اللاوعي، لا بل إن الوعي يتدخل ينتقي المفردات ويصلح وينقح، اتركي نفسك خمس دقائق ستعطيك المخيلة صورا لا تعد، كل ما عليك هو أن تلتقطي الصور.
* ما السؤال الذي يشغلك في الإبداع؟
دائما هناك خوف أن يكون هذا الكتاب هو الأخير، أو أن هناك أشياء تنضب تدريجيا، لكن مع الوقت بمجرد أن ندخل في تجربة كتاب جديد نشعر بأننا رجعنا إلى البداية، دائما هذا الخوف يلازم الكاتب هل سيأتي يوم وأتوقف؟ وأعتقد أن هذه الأسئلة هي التي أرقت الكتاب الذين انتحروا مثل هيمنجواي وغيره لأنهم شعروا بأنهم لا يستطيعون تقديم عمل جديد، لهذا أعتبر أن لجوئي إلى السينما والسيناريو هو تقييد لهذا الخوف، لأنني على الأقل أشغل نفسي بالرواية، هذه الأيام تتملكني رغبة قاتلة في كتابة رواية ولا أستطيع التفكير في أي شيء آخر، رغم أنني لم أستقر على فكرة معينة بعد، هي فقط الرغبة في الكتابة.
* كيف تختار نوع الكتابة التي ستنفذ من خلاله الفكرة التي تشغلك؟
لا أفكر قبل أن أكتب في النوع، الآن حين أقول لك أريد أن أكتب رواية هذا نوع من التحايل مثل اختيار القلم أو الوقت أو المكان الذي سأكتب فيه، وقد تكون رغبتي هذه في النهاية قصصا أو شعرا لا أعرف كأنما أمني النفس بأن لدي مشروعا.
*هل أنت متفائل؟
نعم، جدا.
* لكن أعمالك لا تظهر هذا التفاؤل؟
معظم كتاب الكوميديا تراجيديون في حياتهم العادية.
* البحرين بؤرة ثقافة منذ زمن طويل، ظهرت فيها عدة من بدايات ثقافية ناجحة ما السبب في رأيك؟
وجود البحرين في منطقة التقاء لثقافات متعددة وحضارات، والطبيعي أن تأتي التجارة بالثقافة، هذه التجارة جعلتها متصلة بثقافات مختلفة أكثر من دول كثيرة من حولها، وهو ما أضفى عليها روح التسامح والصدق وقبول الآخر، حين كانت هناك هجرات من مناطق محيطة، وهذا ما أوجد تعليما مبكرا في عام 1919. كانت البحرين مركزا لتعليم أبناء دول الخليج من الكويت والسعودية وكذلك مركزا طبيا لعلاجهم.
* ما هموم الرواية؟
حسب قراءاتي للرواية العربية وحضوري للمناقشات الأدبية هناك تعدد هائل وتنوع في الأساليب والرؤى، والرواية في السنوات الأخيرة لم تنتعش فحسب بل بدأت تطرح أسئلة كثيرة عن الراهن الثقافي.
* كيف؟
الاتصال بالآخر ودراسة الهوية من جهة، والنظر إلى الواقع المحلي بزوايا متعددة، إلى جانب هذا الزخم الموجود أتى بعض الروائيين إلى محاولة إلغاء الأشكال الأخرى. والدعوة مفروض أن تكون مع تعايش الأنواع وليس التمييز بينها، لأننا بهذا الشكل نكون قد وقعنا في الخطأ نفسه الذي وقع فيه الشعراء أنفسهم، حين نظر كتاب القصيدة باستهانة إلى القصة والرواية والأشكال الأخرى.
* من الذي يعجبك من كتّاب القصة والرواية العرب؟
كتاب كثر من الصعب أن أحدد وقد أنسى، وأنا عموما أهتم بأسئلة الشباب أكثر، وكنت حاضرا في ندوة مع كتاب الرواية الشبان الذين طرحوا أسئلة مهمة لأن هذا الجيل يعرف كيف يقرأ الواقع أكثر منا. لأنهم متصلون به بصورة أكثر حميمية، ولأن الكبار لم تعد لديهم أسئلة كثيرة أو لأنهم يكررون ما سبق. أهتم بأسئلة الشباب: كيف ينظرون إلى الواقع؟ كيف ينظرون إلى الذين سبقوهم؟ كيف ينظرون إلى المستقبل؟ ما علاقتهم بالسلطة وكيف يفكرون في الغرب، في الكتابة الحديثة؟ أشياء كثيرة أنا حريص على أن أكون قريبا منها.
* كيف تعامل النقد مع أعمالك؟
النقد مشكلة، بالطبع هناك دراسات لأعمالي، لكن مشكلة النقد أن ينتظر الكاتب حتى يتكرس ثم يهتم به، لا يقدمه بعد كتابه الأول أو الثاني، يتركه ينمو وحيدا لأنه لا يمتلك الأدوات التي يتعامل بها مع الكتابة الجيدة، لذلك يحتاج إلى وقت لكي يستوعبه وهو ما يجعلهم يعملون على المكرسين فحسب، حتى في الجوائز يعطونها لمن سيموت غدا أو بعد غد وهذه هي المشكلة.
الخليج
الأربعاء ,30/04/2008