‬جعفر العلوي‮
(البحرين)

أمين صالحبين فكرة ضرورة أن‮ ‬يكون كاتب الدراما مثقفاً،‮ ‬وبين إمكانية أن تسقط هذه الصفة عنه ثمّة مؤيد ومعارض،‮ ‬وبين الرأيين أيضاً‮ ‬ثمّة واقع تعيشه الدراما الخليجية اليوم لا‮ ‬يتصل مطلقاً‮ ‬بالفكرتين ولا‮ ‬يلتزم فيه كاتب الدراما بأي‮ ‬من القواعد في‮ ‬كتابته،‮ ‬مما‮ ‬يدخل الدراما الخليجية في‮ ‬دائرة التكرار والتنميط الخاطئ والكثير من السلبيات الأخرى التي‮ ‬تؤخذ على صناعة هذه الدراما في‮ ‬الخليج‮.‬

رغم ذلك فإن الاتجاه‮ »‬غير المؤسس‮« ‬الذي‮ ‬تنتهجه الدراما،‮ ‬أنتج بالصدفة أعمالاً‮ ‬درامية لامست الواقع الخليجي‮ ‬وحاولت معالجة تفاصيله من خلال الدراما،‮ ‬وربما نجحت أحياناً‮ ‬في‮ ‬التطرق لمواضيع مخبوءة وإثارتها لمعالجتها مشياً‮ ‬على مقولة‮ »‬تشخيص المرض هو نصف العلاج‮«. ‬وفي‮ ‬الجهة الأخرى أخفقت صناعات درامية مشابهة حتى في‮ ‬تقديم صورة هذا الإنسان بالشكل اللائق،‮ ‬لتقدمه بصورة نمطية مزعجة ومكررة،‮ ‬أو هي‮ ‬تبحث في‮ ‬أعماق هذا المجتمع عمّا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يشد المشاهد وليس بالضرورة أن‮ ‬يقدم له واقعاً،‮ ‬والفرق كبير بين الإثارة الكامنة في‮ ‬الحالات الشاذة،‮ ‬وبين الواقع الذي‮ ‬لا‮ ‬يجده كاتب الدراما محفزاً‮ ‬على الكتابة‮.‬
هل تنتج هذه التباينات نتيجة ضبابية في‮ ‬الرؤية،‮ ‬أم هي‮ ‬نتاج وعي‮ ‬متباين لدى كتاب الدراما في‮ ‬الخليج لدور الدراما وتأثيرها على فكر المجتمع؟ وفي‮ ‬المقابل هل‮ ‬يتنبه المجتمع‮ »‬السريع التأثر والقاصر معرفياً‮« ‬للخلل الكبير أو النقص في‮ ‬ما تطرحه هذه الدراما أم أن هذا النقص هو ناتج بالأساس من المشاهدة اللاواعية لهذا المجتمع؟‮ ‬
السؤال‮ - ‬حسب الكاتب أمين صالح‮ - ‬يفترض وجود طرفين،‮ ‬كتّاب الدراما الذين لهم‮ »‬دور في‮ ‬تنمية الفكر الاجتماعي‮«‬،‮ ‬بمعنى أنهم‮ ‬يلعبون دور العارف،‮ ‬الواعي،‮ ‬الموجّه،‮ »‬القدوة‮«‬،‮ ‬وطرف آخر هم المجتمعات‮ »‬القاصرة معرفياً‮« - ‬مع تحفظه على هذا الوصف‮ - ‬التي‮ ‬تحتاج إلى من‮ ‬يغذّيها بالمعرفة والوعي‮ ‬والحكمة‮.‬
مثل هذا الافتراض،‮ ‬يرى صالح أنه لا‮ ‬يبدو سليماً‮ ‬أو دقيقاً،‮ »‬فما‮ ‬يتصل بمجال فني‮ ‬مثل الدراما التلفزيونية‮ ‬يعاني‮ ‬في‮ ‬أغلب ما‮ ‬يقدمه من الخلل والهشاشة والسطحية ما تعانيه مجالات ثقافية أخرى كالمسرح والتشكيل والأدب‮«.‬
ويضيف‮: »‬المنتج التلفزيوني‮ ‬يحرص على أن تكون المادة الدرامية ملائمة للنزوع الاستهلاكي‮ ‬عند الجمهور العام،‮ ‬ومتفقة مع الذائقة السائدة التي‮ ‬اعتادت‮ - ‬حد الإدمان وبلا ضجر‮ - ‬على التراجيديات العائلية بما تزخر به من فواجع وبكائيات ومبالغات‮«‬،‮ ‬متابعاً‮ : »‬أي‮ ‬خروج عن هذا المطلب،‮ ‬أي‮ ‬مغايرة،‮ ‬هي‮ ‬مجازفة لا‮ ‬يرغب المنتج في‮ ‬القيام بها‮«.‬
ويوضح صالح‮: »‬الكاتب التلفزيوني‮ ‬محاط بسلسلة منيعة من الرقابات‮«‬،‮ ‬معدداً،‮ »‬المنتج الذي‮ ‬لا‮ ‬يكف عن تغذية الجمهور بما هو مكرر ومبتذل وعديم القيمة،‮ ‬والجمهور الذي‮ ‬يصيح كالطفل المدلل طالباً‮ ‬وجبته اليومية من القصص المألوفة،‮ ‬والمخرجون والممثلون والفنيون الذين‮ ‬ينظرون بعين الارتياب إلى كل ما هو مختلف،‮ ‬والصحفيون الذين‮ ‬يطالبون ليلاً‮ ‬ونهاراً‮ ‬بحرية الرأي‮ ‬والتعبير لأنفسهم لكنهم لا‮ ‬يرون عيباً‮ ‬أو تناقضاً‮ ‬في‮ ‬المطالبة‮ - ‬عبر مقالات انفعالية ومحمومة‮ - ‬بفرض رقابة صارمة على المسلسلات ومنع عرضها إن أساءت الأدب وخدشت الحياء،‮ ‬والجمعيات الأهلية والمهنية والدينية التي‮ ‬تتربّص بأي‮ ‬محاولة لـ‮ »‬تشويه‮« ‬صورة مهني‮ (‬طبيب أو محام أو‮ ‬غيرهما‮) ‬أو التعرّض لقضايا مثل الطائفية،‮ ‬وأخيراً‮ - ‬وليس آخراً‮ - ‬هناك الرقابة الذاتية التي‮ ‬يفرضها المؤلفون أنفسهم،‮ ‬متجنبين تقديم ما هو مخالف لتوقعات الآخرين‮«.‬
ويشدد صالح على أن لا‮ ‬يُفهم من حديثه تبريره للمؤلفين،‮ ‬والبحث عن أعذار لهم،‮ »‬فأي‮ ‬متابع للدراما التلفزيونية‮ ‬يدرك أن نسبة كبيرة من المؤلفين لا‮ ‬يمتلكون الوعي‮ ‬الاجتماعي‮ ‬والفكري،‮ ‬ولا الخبرة الثقافية،‮ ‬ولا الحساسية الفنية‮. ‬أغلبهم حرفيون،‮ ‬يراهنون على العلاقات الاجتماعية العامة،‮ ‬وعلى جهل المنتجين،‮ ‬وعلى خوف المخرجين من البطالة،‮ ‬وعلى جمهور‮ ‬يفضّل كل ما هو تقليدي‮ ‬ولا تعنيه الخاصية والجودة‮«.‬

إذاً،‮ ‬هل‮ ‬يؤثر‮ ‬غياب كاتب الدراما المثقف والملم بكل إشكاليات الكتابة الدرامية والمحيط بكل جوانب المجتمع على واقع الدراما الخليجية،‮ ‬وهل‮ ‬يؤثر بروز كم من القنوات الفضائية سلباً‮ ‬على ظهور الكاتب المميّز وتميّزه؟

يجيب صالح‮ : »‬لا أعرف من تعني‮ ‬بكتّاب الدراما المهمين،‮ ‬أعتقد ان شراهة المحطات والفضائيات إلى المسلسلات الدرامية التي‮ ‬تغطي‮ ‬ساعات طويلة من البث،‮ ‬تجعل من الحاجة إلى كتّاب نصوص حاجة ملحّة ودائمة‮. ‬وبالتالي،‮ ‬نحن نجد على الساحة الكتّاب الجيدين‮ (‬رغم قلّتهم‮) ‬والكتّاب السيئين‮ (‬رغم كثرتهم‮)«. ‬مضيفاً‮: »‬الساحة متاحة للجميع،‮ ‬لكن شرط أن تلبي‮ ‬هذه النصوص شروط الإنتاج‮«.‬
وحول كيفية خلق الكاتب الدرامي‮ ‬المميز،‮ ‬وتنمية مستوى وعمق كتاب الدراما في‮ ‬طرح الأفكار وفهم طبيعة المجتمعات وتأثير الدراما عليها‮ ‬يقول صالح‮: »‬على الكاتب أن‮ ‬يعي‮ ‬طبيعة وخاصية المجال الذي‮ ‬يعمل ضمنه،‮ ‬سواء من ناحية المضمون والأفكار والحبكات ورسم الشخصيات والأحداث،‮ ‬أو من ناحية الشكل والأسلوب والتقنية‮«‬،‮ ‬ويضيف‮: »‬هذه أساسيات لابد من توفرها في‮ ‬أي‮ ‬كاتب سيناريو‮. ‬لكن أيضا‮ ‬يتعيّن عليه أن‮ ‬يمتلك تجربة حياتية وثقافية عميقة،‮ ‬إلى جانب الحساسية العالية،‮ ‬نفسياً‮ ‬واجتماعياً،‮ ‬في‮ ‬التعامل مع شخوص درامية متنوعة ومتباينة‮« ‬متابعاً‮: »‬إن العمق في‮ ‬طرح الأفكار‮ ‬يستلزم امتلاك المعرفة الحياتية والثقافية التي‮ ‬بدونها لن‮ ‬ينتج المؤلف‮ ‬غير الضحالة والسطحية‮«‬،‮ ‬ولكن‮ - ‬يستدرك‮ - ‬ينبغي‮ ‬أن ندرك أن العمل الدرامي‮ ‬التلفزيوني‮ ‬ليس فردياً،‮ ‬إنما هو نتاج وحدة كاملة من العناصر الفنية ليس النص‮ ‬غير عنصر مشارك،‮ ‬أساسي‮ ‬لكن ليس له السيادة المطلقة‮«.‬

وحول جهة الكتابة الدرامية في‮ ‬الخليج ما إذا كانت تتجه للتاريخي‮ ‬أو الواقعي،‮ ‬يرى صالح أن الكاتب لا‮ ‬يملك الكلمة الأولى والأخيرة،‮ ‬أي‮ ‬أنه ليس من‮ ‬يقرّر نوعية الدراما التي‮ ‬يمكن للمحطات أن تقدمها‮. »‬المنتج هو من‮ ‬يقرّر ذلك‮«. ‬ويضيف‮ »‬إذا شعر هذا المنتج أن الأعمال التراثية والتاريخية هي‮ ‬المطلوبة شعبياً،‮ ‬وهي‮ ‬الرائجة جماهيرياً،‮ ‬فإنه سيبحث عن عمل تراثي‮«.‬
متابعاً‮ : »‬بصورة عامة،‮ ‬وفي‮ ‬الوقت الحاضر فإن أغلب المنتجين‮ ‬يفضلون الأعمال الاجتماعية بسبب انخفاض كلفتها الإنتاجية من جهة،‮ ‬وإقبال الجمهور عليها من جهة أخرى‮. ‬وهم‮ ‬يتجنبون الأعمال التاريخية والتراثية لأنها تتطلب ميزانية عالية‮. ‬لذا فإن كتابة أعمال تراثية هي‮ ‬مجازفة‮ ‬غير مضمونة‮«.‬

وعن طرح الدراما البحرينية والخليجية عموماً‮ ‬على المستوى الفكري،‮ ‬لمشاكل المجتمعات،‮ ‬وما إذا كان‮ ‬يقدم صورة حقيقية عنها،‮ ‬يضيف صالح‮: »‬الكثيرون‮ ‬يطالبون الدراما المحلية والخليجية بأن تعرض وتعالج قضايا الواقع والمجتمع،‮ ‬لكن بمجرد أن‮ ‬يقترب عمل من الواقع الحقيقي‮ ‬ويمس قضية أساسية،‮ ‬حتى نجد حالة‮ ‬غير طبيعية من الهياج والسعار احتجاجاً‮ ‬على جرأة ووقاحة العمل الفني‮ ‬لتصويره الجانب السلبي‮ ‬والبشع من الواقع،‮ ‬متهمين العمل بأنه‮ ‬يشوّه صورة المجتمع،‮ ‬ويفضح ما‮ ‬ينبغي‮ ‬ستره من ممارسات وسلوكيات،‮ ‬مطالبين بمنع عرضه‮«.‬
ويتابع‮: »‬تقارير وزارة الداخلية والمحاكم والصحافة تنشر‮ ‬يومياً‮ ‬قضايا القتل وشبكات الدعارة والسرقات والحوادث وغيرها من القضايا التي‮ ‬يزخر بها مجتمعنا،‮ ‬كما الحال مع بقية المجتمعات على الكرة الأرضية‮. ‬لكن ما أن‮ ‬يبدي‮ ‬عمل درامي‮ ‬اهتمامه بإحدى هذه القضايا،‮ ‬ويمس مكامن الخلل في‮ ‬الواقع،‮ ‬حتى‮ ‬يعلو الصياح الهادر‮: ‬هذا شيء دخيل على مجتمعنا الطاهر البريء،‮ ‬هذا شيء لا‮ ‬يحدث عندنا،‮ ‬هذا تحريف للواقع،‮ ‬هذا فضح لا‮ ‬يليق،‮ ‬هذا جرح لمشاعرنا الرقيقة،‮ ‬هذا إيذاء لحواسنا الرهيفة،‮ ‬هذا‮ ‬غسيل وسخ لا‮ ‬ينبغي‮ ‬نشره على الآخرين،‮ ‬هذا تشويه لسمعتنا،‮ ‬إلى آخر مظاهر النفاق الاجتماعي‮ ‬ومحاولات التضليل والتزييف‮«‬،‮ ‬موضحاً‮: »‬بالطبع نحن نرفض الابتذال والتسطيح في‮ ‬تناول وعرض مثل هذه القضايا،‮ ‬لكن‮ ‬ينبغي‮ ‬أيضاً‮ ‬أن ندين الأصوات التي‮ ‬تطالب بعرض مشكلات المجتمع وفي‮ ‬الوقت ذاته تخاف من الفضيحة إن بادر عمل ما إلى تصوير إحدى هذه المشكلات،‮ ‬الصورة الحقيقية لأي‮ ‬مجتمع هي‮ ‬الصورة التي‮ ‬تشمل النقائض والأضداد كلها،‮ ‬ومن لا‮ ‬يجرؤ على النظر إلى هذه الصورة الحقيقية،‮ ‬عليه أن‮ ‬يكف عن لعب دور القاضي،‮ ‬لأنه سوف لن‮ ‬يكون عادلاً‮ ‬ونزيهاً‮«.‬

إذاً،‮ ‬هل تلعب الدراما دوراً‮ ‬مهماً‮ ‬وحقيقياً‮ ‬في‮ ‬هذا الاتجاه،‮ ‬أعني‮ ‬توريث المشكلات الاجتماعية أو القيم الفكرية والجمالية من وإلى المجتمعات،‮ ‬ثم هل‮ ‬يمكن أن الدراما أداة تحفيز وإنتاج لمثل هذه المشكلات؟‮ ‬

‮»‬على الإطلاق ليس هناك أي‮ ‬تأثير للدراما على المجتمع‮«‬،‮ ‬يقول صالح،‮ ‬ويضيف‮: »‬من لديه استعداد للانحراف والجريمة لن‮ ‬ينتظر أن‮ ‬يؤثر فيه عمل سينمائي‮ ‬أو تلفزيوني،‮ ‬بل‮ ‬يكفيه الدافع أو السبب أو الفرصة السانحة ليرتكب فعلته‮«. ‬ويوضح‮: »‬لو سلمنا بإمكانية وقدرة العمل الدرامي‮ ‬على التأثير في‮ ‬جمهوره،‮ ‬فلماذا‮ ‬يمارس تأثيره على شخص واحد وليس كل الجمهور؟ لماذا لا‮ ‬يخرج الجمهور كله،‮ ‬من الصالة أو من البيت،‮ ‬ليمارس عنفه وشروره وجرائمه؟ إذن لابد أن المنحرف أو المجرم كان لديه الاستعداد والسبب والدافع‮ (‬الاجتماعي‮ ‬أو العائلي‮ ‬أو النفسي‮) ‬لارتكاب انحرافه أو جريمته،‮ ‬وإلا لتحولنا جميعاً،‮ ‬نحن المدمنين على أفلام الأكشن والعنف والرعب،‮ ‬إلى قتلة أو منحرفين أو مجانين‮«.‬

الأيام
22 يونيو 2008