في هذا الحوار ربما كان أمين صالح قد طرح أسئلة أكثر مما طرحت, ربما لأن طبيعة المشتغلين بالثقافة لدينا تستدعي طرح كل هذه الأسئلة, وربما لأن هذه الساحة بفعالياتها ومهرجاناتها وأحداثها غير قادرة على تحريك مثقفيها ليخرجوا من «محظوراتهم» بحسب توصيف أمين صالح. وليحاولوا أن يبتكروا أساليب في التواصل, أساليب في التعاطي فيما بينهم, لينتج ما يسميه صالح «صقل التجارب وحيويتها وتنوعها».
نحن هنا نحاول أن نسأل حول أسباب هذه القطيعة فيما بين المشتغلين بالفنون في البحرين, ولماذا هذه الساحة الثقافية تبدو وكأنها- وبحسب توصيف أمين أيضاً- «جزر معزولة».. أمين صالح لم يهدنا في إجاباته إلى أسباب معينة, ولكنه وسّع دائرة التساؤل, وأطلق أسئلة أخرى.. وماذا أهم من الأجوبة التي لا تبتكر سوى أسئلتها:
] في العالم أجمع, انشغل الكتاب والمثقفون والفنانون بالقراءة والبحث والتنظير والتدقيق في أعمال بعضهم, وكان من أهم انشغالات الكاتب إضافة إلى اشتغاله الخاص المتعلق بتجربته, هو الالتقاء بجوانب مختلفة من الإبداع من مسرح وسينما وتشكيل وموسيقى وغيرها, غير أننا هنا نفتقد إلى هذا النوع من التلاقي الحقيقي فيما الكاتب والمثقف والفنان والمبدع..
أولاً هل تشعر بهذا الغياب.. وكيف تبرره؟
- أنا لا أفهم كيف يمكن لكاتب (مثلا) أن يتجاهل الأعمال الفنية المجاورة «في مجال التشكيل أو السينما أو المسرح أو الموسيقى» أو لا يتفاعل مع أشكالها ومضامينها وما تطرحه من رؤى وأفكار وقضايا, أو لا يتأثر بما تنتجه وتبدعه هذه الأنواع. لا أفهم حقاً كيف يمكن لكاتب (مثلاً) أن يكتفي بمجاله الخاص فقط, بأفقه الضيق الخاص, فيتقوقع فيه وينعزل, رافضا أن يفتح النوافذ العديدة المطلة على مختلف العوالم الغنية, الخصبة.. رافضاً أن ينفتح على ما هو جديد ومختلف وغني. كيف يمكن أن تثري تجربتك الأدبية وأنت لا تحسن الإصغاء إلى التجارب الفنية الأخرى, ولا تفتح حواراً إبداعياً معها, بحيث تزداد تجربتك صقلاً وحيويةً وتنوعاً. نعم, هنا نفتقد ذلك التفاعل والتلاقح, والاتصال المتبادل, إلا في تجارب قليلة ومحدودة. ربما هذا ما يجعل المناخ الثقافي عندنا يفقد الكثير من الحيوية والعمق والتأثير. كيف أبرّر ذلك؟ لا أعرف..
لعله الكسل أو الجهل أو المكابرة أو ضيق الأفق أو نقص الوعي.
] في مرحلة ما في البحرين كان ثمة مثقف يعنى حقيقة بهذه الجوانب, ولكننا ونحن ننظر حولنا نرى أننا فقدناه, لم يعد موجوداً, تُرى أين ذهب هذا المثقف, ولماذا اختفى.. هل تغيرت شخصية المثقف بحيث لم تعد تثيره الأسئلة التي تطرحها هذه الفنون, أم أن هذه الفنون تغيرت بحيث لم تعد قادرة على استثارة أو إثارة شخصية الكاتب المثقف؟
- لا أعرف أين ذهب هذا المثقف ولماذا اختفى, لأنني- في الأصل - لا أعرف أين كان موجوداً.. إن كان موجوداً. منذ البداية, لم يحسن الكاتب محاورة الأشكال الفنية المجاورة والتفاعل معها. كذلك الرسام, الذي كان غائبا- في معظم الأحوال- عن الفعاليات الأخرى. وهذا أيضاً ينطبق على المسرحي والنحات والموسيقيّ. مساحات فنية فارغة لا يشغلها إلا أصحاب المهنة وبعض الأصدقاء. حتى المشتغلين في الشأن الفني ذاته لا يتحاورون ولا يتفاعلون مع أعمال بعضهم البعض. إذهب إلى أي معرض تشكيلي, تجده خالياً إلا من رفاق الفنان نفسه وعدد محدود من المهتمين. لا شأن لأحد بأحد.. إذهب إلى أي ندوة أدبية, تجد الحضور قلة من الأدباء.. قلّما تصادف هناك تشكيليا أو مسرحياً.
وهل تظن حقاً أن كل كاتب يقرأ كل ما يُطبع؟
تكون واهماً يا عزيزي. من ناحية أخرى, يعتريك شعور بأن الكاتب يحتقر ويحط من قدر كل من لا يكتب. والرسام يحتقر ويحط من قدر كل من لا يرسم. كذلك يفعل المسرحي. لا قيمة ولا أهمية للأشكال الأخرى. لهذا نعيش في جزر صغيرة متباعدة, وبيننا ميثاق شرف بألا يتدخل أحدنا في شأن الآخر. الفنون لا تصدأ, لا تفقد القدرة على الإثارة والتحفيز والتحريض, ولا تكف عن إثارة البهجة والمتعة. الذي يصدأ هو الكاتب أو الفنان في انعزاله, في ارتيابه, في غروره, في غبائه.
] أشار د. علوي الهاشمي مرة إلى أن هذا الجيل بالتحديد «متحدثاً عن الجيل الجديد من الشعراء والكتاب» وبما أنه يفتقد الاتكاء على مشروع عام, فإنه فقد مشروعه الخاص.. هل يمكن مقاربة ما قاله الهاشمي من هذا الجانب, وهل غياب المشروع العام أفقد المثقف «حاجته!!» إلى الالتقاء بالتجارب المجاورة؟
- لا أعتقد أن كلام الدكتور علوي الهاشمي يتصل بموضوع التفاعل بين الأشكال الفنية والأدبية, بل يتصل بالجانب الأدبي وحده, وعلاقة الجيل الأدبي بثقافته وواقعه وطموحه الإبداعي, والذي يشكّل في مجمله مشروعا أدبياً خاصا قد ينسجم مع العام أو يتنافر معه.
أخيراً.. ما الذي يدفع الشاعر - الكاتب - الناقد - المهتم..
إلى الكتابة عن عمل ما «تشكيلي - مسرحي - موسيقي - سينمائي ...» وهل التخصص الذي صار سمة عصر, جعلت الشاعر والكاتب والمهتم بل وحتى الناقد يتحاشى الوقوع على عمل ليس من «اختصاصه؟»
- ليس هناك ما يمنع الكاتب من تناول عمل فني بالنقد أو التحليل أو العرض. إنها نتيجة طبيعية, متوقعة, بل وضرورية أيضاً, للتفاعل الجدلي الحاصل بين الأشكال الفنية, حيث لا يتم التعامل مع الكاتب الذي يتناول لوحة أو عرضا مسرحياً أو فيلماً سينمائيا كشخص أجنبي, دخيل, ينبغي إقصاءه لأن لا علاقة له بالمادة التي يتناولها.
هذه سذاجة إن لم تكن حماقة يرتكبها الجاهل بالعلاقات المتبادلة بين الفنون. ومن قال أن هناك تخصصا يلزم الكاتب- مثلاً- على عدم الاقتراب من عمل فني آخر؟ يبدو أن لدينا قدرة مذهلة على محاصرة أنفسنا بالمحظورات.
الأيام- 9 مايو 2009