أنّ هذا الحوار كاد أن يُكمل عاما كاملا في جهاز التسجيل الخاص بي، فقد أجريته في مهرجان الخليج السينمائي في دبي العام الماضي، ولظروف تقنية، تأخرتُ في نشر الحوار، لكن الأغرب من ذلك هو أن يتصادف زمن نشر الحوار مع زمن تواجد السينمائي والكاتب البحريني أمين صالح في السلطنة، لإدارة حلقة عمل تحت عنوان: «من السرد إلى المعالجة الدرامية».
مؤمن بفكرة أنّ الأدب والفن لا ينتظران أن تتغير الظروف المحيطة بهما لكي يتغيرا، لأنهما عمل تراكمي وغير آني. وهو يؤمن أيضا بأنه لا يوجد مجال كتابي أو فني يستطيع الآن أن يعيش منعزلا في قارة لوحده، فالفنون تتعاطى. والكاتب يمكنه أن يكتب للسينما، وأن يُخرج الأفلام، يمكنه أن يرسم، يمكنه أن يعزف، فقط المشكلة تتضح عندما لا يعرف الكاتب ماذا يريد.. فيطلق من الأدب ليتزوج السينما، ويهجر السينما ليذهب إلى الرسم، فيقع في التشتت المخرب.
لم يكن لديه جواز سفر، لذلك لم يكن يسافر خارج البحرين، فقط كان لديه ما يسمى بجواز لسفرة واحدة، تنتهي صلاحيته بانتهاء الرحلة. يكتب نصه الخاص خارج التوصيف، بينما الناقد العربي إلى يومنا هذا لا ينسجم مع النص الذي لا يتفق مع أدواته، كما العقل الذي لا ينسجم مع فكرة جديدة ويرفضها. شغفه السينمائي لم يمنع ذهابه إلى الأدب، وكتابته للأدب لم تقف حائلاً أمام حماسته لترجمة نصوص وحوارات وتفاصيل متفرّقة عن هذا المخرج أو ذاك، كما أنّ ترجمته أضافت شيئاً جوهرياً للمكتبة العربية، وقد انطلق في هذا المشروع من حبّه العميق للسينما أساساً، وقد كان آخر كتبه المترجمة كتاب «عباس كياروستامي، سينما مطرّزة بالبراءة»، عن المؤسّسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. ومن أعماله الروائية، رواية «أغنية ألف صاد الأولى»، «رهائن الغيب»، وإصدارات أخرى كثيرة.
* أنت كاتب عصي على التصنيف.. تكتب الشعر وليس بشعر، وتكتب النثر وليس بنثر، كما تكتب النص المفتوح على مساحة واسعة من التأويل.. هل تتعمد أن تُشرك أشكالا كتابية متنوعة ضمن النص الذي تكتبه، أم أنك تبحث عن نصك الخاص خارج دائرة التصنيف؟.
- إذا استخدمنا مفردة «التعمد» سندخل في دائرة الافتعال.. لذا برأيي التجربة هي التي تفرض نفسها. التجربة بمعنى إذا كان هنالك ما هو ملح علينا.. فالجملة التي تتردد بداخلي يمكن أن تكون قصة أو قصيدة أو رواية.. إلا أنّ هذا التشكل يتخلق مع الوقت. بمعنى آخر لا يكون الأمر بيدي، بل على العكس أنا الذي أكون خاضعا لجملتي، ثم تأخذني الصورة إلى عوالمهما. أحيانا الفكرة أو الصورة أو الجملة الأولية مع الوقت تتحول، وقد تنلغي، وقد تأتي صورة أخرى بدلا عنها. هكذا أجد نفسي أحيانا اكتب بالفعل ما هو عصي على التسمية كجنس أدبي، فلا أجد توصيفا معينا لما اكتب، فأضعه كما هو.. على سبيل المثال في كتاب «موت طفيف».. وجدتُ نفسي ضمن حالة معينة فرضت عليّ تلك الطريقة التي كتبتُ بها.
* ما رأيك بمن يذهب إلى ضرورة المحافظة على الكتابة في أطرها المعتادة من دون أن تتداخل الأجناس ببعضها البعض؟.
- لا اتفق مع ذلك، لأنه أمر من اختراع النقاد، والناقد يريد شيئا سهلا، لأنه يمتلك أدوات معينة ومحددة يشتغل عليها، لذلك بالضرورة أنّ الناقد لا ينسجم مع نص لا يتفق مع أدواته، كما أنّ العقل عندما لا ينسجم مع فكرة جديدة ويرفضها. لذلك يُقال أنّ الواحد يكره ما لا يفهم، ولكن عندما تُثابر الفكرة على دخول العقل، يبدأ العقل يلين قليلا، ثم يصبح مرنا، بعدها يدخل في حيز التقبل.
* إذن أنت تؤكد على أن النقد متأخر عن النص الأدبي؟
- طبعا متأخر، ولكن دعينا نفرق هنالك ناقد استثنائي، وناقد عام وغالب. فهنالك ناقد لديه نظريات متقدمة، ويمكنه التنبؤ بأشياء جديدة قد تطرأ على النص، ونجده ناقدا مرنا، لا يرفض لمجرد أنه لا يجد الأداة الجيدة التي يقيس بها النص، بل نجده يتقبل النص، ويجاريه.
لكن الناقد الغالب، هو ذلك الذي يبحث عن المريح، عبر النص الجاهز المتوافق مع اشتراطاتهم، وأدواتهم الجاهزة، أما الشيء الذي يخلخل الموجود لديهم، ويخلخل المترسخ لسنوات طويلة فهذا جد صعب.. ولكن مع الوقت، الرهان يبقى قائما على الجديد الذي يفرض نفسه، ويصبح لاحقا هذا الجديد قديما، وهذا هو مسار الكون..
* أظن.. ليس وحده الناقد من يقف دائما في منطقة الرفض لأشكال الكتابة الجديدة..أيضا القارئ يرفض أن يتقبل بسهولة نصا خارج دائرة التصنيف؟
- نعم، ولكن بالمقابل القارئ اليوم يختلف كثيرا عن القارئ قبل عشر سنوات.. لأنّ القارئ متغير، والحياة متغيرة، لذا لا يمكن أن نلتزم بضوابط وقواعد، وضعها أشخاص قبل سنوات، ربما هذا الشخص لو وجد في عصرنا هذا، لكان قد غيّر طريقته هو الآخر في الكتابة.
الآن لا يمكن أن نقول إنّ القصة هي بداية وعقدة ونهاية..الفنون باتت تتقاطع مع بعضها البعض، ولا يوجد مجال كتابي أو فني يعيش منعزلا في قارة لوحده، الفنون تتعاطى اليوم.
* أنت كاتب يثبت دائما أنّ الفنون تتعاطى مع بعضها البعض، والدليل ربما تجربتك الغنية، والمتعددة في أشكالها.. فأنت تكتب النص المفتوح والقصة والدراما والسينما؟ ألا يربكك هذا التنوع؟.
- لا، لأني أجد حريتي في انفتاح هذه الأشكال على بعضها، فهذه العوالم ليست غريبة عن بعضها البعض. لا استطيع أن أنكر أني في البداية، كنتُ أخاف من الدخول إلى كل هذه العوالم في وقت واحد وأفكر مع نفسي، فعندما اكتب الدراما للتلفزيون على سبيل المثال، فالتلفزيون لا يريد حوارا أدبيا، وإنما حوارا يوميا وبسيطا، ونصا يشتغل على الصورة أكثر منه على الكلام. وجدتُ مع التجربة أنّ ما يحدث لي ليس التأثير السلبي وإنما الإثراء، عندما كنت انتقل من مجال لمجال.
* ألم يؤثر ذلك على لغة الكتابة المعروفة بتدفقها عند أمين صالح، عندما كان ينتقل من لغة مكثفة ومجنحة إلى لغة يومية وبسيطة ودارجة؟
- عندما اكتب للتلفزيون أو للسينما فأنا استفيد من المجال البصري.. وسأعطي على ذلك مثالا. عندما اكتب عن شخص يقف في ساحة معينة، وثمة نافذة بعيدة، وامرأة تقف وراء النافذة البعيدة تلك. أقول أدبيا: «بينما كان الرجل الواقف في الساحة، يرنو إلى امرأة واقفة خلف النافذة..» هكذا، بينما الكتابة للسينما والتلفاز مختلفة، لأني أجعل عينيّ هي التي تمسح المكان.. أكتب عن الساحة وما فيها أعني خلفية المشهد.. أولاد يلعبون، شجرة واقفة، الرجل واقف.. نتحرك..نشاهد امرأة.. لكن من هي هذه المرأة هل هي شابة، هل هي عجوز، وعندما نقترب منها نكتشف أنها امرأة جميلة مثلا، أو امرأة عمياء. فالمسألة هنا تقوم على التحريك البصري كما ذكرت في المثال السابق.
السؤال يطرح كالتالي: النص هنا هل اغتنى، أم أصابه عيب، عندما تحول من نص أدبي إلى لغة بصرية؟. ما يحدث أنني بدلا من أن اكتب هذا السطر لقارئ مفترض، أحضرت عين المشاهد، وجعلتها تتجول معي، كما جعلتها تعيش في جو معين، واحضرت لها الحالة النفسية الخاصة بالمرأة والرجل كما في المثال السابق..ما اقصده، الكاتب يمكن أن يكتب للسينما.. يمكن أن يُخرج الأفلام.. يمكن أن يرسم.. يمكن أن يعزف، فقط المشكلة تتضح عندما لا يعرف الكاتب ماذا يريد.. فيطلق الأدب ليتزوج السينما، ويهجر السينما ليذهب إلى الرسم ..هذا هو التشتيت المخرب. وبرأيي الفن والسينما والصحافة تغني الكاتب ولا تؤثر عليه. فالكاتب ليس آلة ميكانيكية لتتأثر، أو يراودها الخراب لأنها تقوم بأكثر من عمل في وقت واحد.. مثلا الكاتب الذي يشتغل على العمل الصحفي يستطيع أن يقدم مادة غير جامدة، يُضيف إليها من حسه ومن لغته ومن أسلوبه الخاص، وهكذا يمكن للكاتب أن يُغني الصحافة، وليس العكس. أنا اتساءل بالفعل: لماذا يكتب الشاعر الشعر لعدة سنوات، ولا يقترب من الفنون الأخرى بالرغم من أنّه يمكن أن يحضر السينما ويتأثر بالصورة، ويشعر أنه يمكن أن يجسد تلك اللحظة بالفن بالقصة بالشعر. «جان كوكتو» على سبيل المثال، هو مسرحي وسينمائي وممثل ومخرج وتشكيلي وناقد وكاتب مقالات...وعندما نتحدث عنه، وعن أعماله.. نقول هذا عالم «كوكتو». فهو في المسرح هو نفسه في السينما هو نفسه في التشكيل، المختلف هو فقط في التقنية التي يستخدمها..هنا اكتب بالقلم، وفي السينما اكتب بالكاميرا، وفي التشكيل اكتب بالريشة... وهكذا.
* هل كان ذهابك إلى الدراما التلفزيونية تعويضا عن عدم قدرتك على الذهاب إلى السينما؟
- هذا صحيح. أنا كنتُ عاشقا للسينما، وحاولتُ في عام 1974 أن أذهب لأدرس السينما، ولكن لم تكن هنالك إمكانيات كافية آنذاك، لذلك وجدتُ التلفاز هو المجال الذي استطيع من خلاله أن أشبع رغبتي في السينما. أنا بهذا الكلام لا أنقص من قيمة الدراما، فأنا اعتبرها جانب مهم وأساسي في تجربتي، ولا يمكن أن أتخلى عنها.
ما أبعدني عن السينما كونها مكلفة أولا، والاشتغال فيها موسمي، وليس متاحا كالتلفاز.
* المطلع على تجربتك، يعرف بأنك تكتب سيناريوهات للسينما، وتقدمها للأجيال الشابة، تلك التي لا تزال في أول الطريق..ألا يبدو ذلك مغامرة؟
- ليس مغامرة، وأنا أرى أنّ السينما الآن هي للأجيال الشابة، فإذا كان الشباب محرومين من الدعم الحكومي، ومن دعم المؤسسات العامة والخاصة، فأنا على الأقل ككاتب أقدم شكلا من أشكال الدعم عندما أعطيهم نصي، وفي نفس الوقت أشبع رغبة من رغباتي، حتى لو كان ذلك من خلال تجارب شابة هي في أول الطريق، ولكني أراهن مع الوقت أنّ تجربتهم سوف تنضج.
* برأيك.. لماذا لا يجرب كاتب الشعر أو القصة أو المسرح أن يخوض غمار تجربة الكتابة
للدراما؟
- هذا السؤال مشروع، وأظن أنه على الكاتب أن يكسر حاجز الخوف من الدراما أولا. وأهم شيء ينبغي أن يتوفر في الكاتب هو: وضوح الرؤية أو الفكرة. بهذه الطريقة يمكن أن يتخلق الكاتب. التجربة السينمائية في الخليج كلها بكر، ولا تزال حديثة من ناحية المخرج والممثل، وهذا لا يمنع أيضا من أن يبدأ الكاتب بالانزياح بخطواته بجرأة ليواكب تقدم التجربة وتطورها.
* بعض الكُتاب يُعانون من صدمات عندما يُشاهدون أعمالهم التي كتبوها، وقد تحولت إلى مشاريع سينمائية أو تلفزيونية، بسبب تغير المسار الذي حدده الكاتب، على اعتبار أن المخرج له وجهة نظر خاصة.. هل يُضايقك الأمر عندما يحدث ذلك أم تشعر أنّ النص فلت من قبضتك، وأصبح بيد المخرج والمنتج والممثل؟
- أنا بمجرد أن أعطي المخرج عملي، يُصبح النص ملك المخرج، ولكن من المهم أن لا يشوه نصي أيضا، وأن تكون قراءته سليمة لنصي، وأنا في حقيقة الأمر أصادف النوعين، ويحصل أن أندم أحيانا لأن المخرج يذهب إلى تأويلات خارج ما أراده النص أحيانا.
بعض المخرجين يُفضلون استشارة الكاتب، ومعرفة وجهة نظره في المسائل التي تغمض عليهم، ويحصل أن أخبر مخرجا أنّ قراءتك غير سليمة للنص، فلا ينفذ إلا ما هو مقتنع به. ولكن في النهاية أنا متصالح مع فكرة أنني إذا سلمت النص لمخرج فقد أصبح له الخيار في كيفية تنفيذه دراميا.
أيضا من وجهة نظري الفشل ليس هو نهاية العالم. فلا يمكن للكاتب أن يقف على رأس المخرج يوميا ليراقب تحولات نصه من الورق إلى الحياة البصرية.
* يُعرف عنك.. بأنك كائن مرتبط بالمكان بشكل كبير، وأنك قلما تخرج من البحرين؟
- الأمر هو كالتالي أن يقول أحدهم «أمين لا يسافر»، فيصبح ذلك فجأة جزء من الحقيقة.. بينما الأمر هو ليس كما يبدو من الخارج..
أنا سابقا لم يكن لديّ جواز سفر، لذلك لم أكن أسافر خارج البحرين، فقط كان لديّ ما يسمى بجواز لسفرة واحدة..أي أنّه جواز تنتهي صلاحيته بانتهاء الرحلة. في المطار يأخذونه مني فور عودتي، لأن والدي لم يكن لديه جواز، وأيضا لأسباب سياسية أخرى تأخر حصولي على جواز السفر. حصلت على جواز سفري في نهاية التسعينات، وكنتُ آخذ عطلتي السنوية مرة واحدة في السنة، لذا كنتُ استخرج هذا الجواز «أبو سفرة»، ولم يكن الأمر سهلا، ولم يكن متاحا لي في كل وقت.
لذا كنتُ أود أن استغل إجازتي، وقدرتي على السفر، بأكبر قدر ممكن، فأذهب إلى العالم وإلى أوروبا، بينما كان من الصعب آنذاك أن ألبي دعوة لمهرجان لمدة يومين أو ثلاث، لذلك كنتُ مقلا في السفر، ولهذا السبب ربما ربط البعض ذلك بعلاقتي بالمكان. ولكن ومنذ أن أصبح لديّ جواز سفر أصبحت أسافر كثيرا، واحضر أغلب الدعوات التي أُدعى إليها. ولكن الغريب أنه إلى الآن يترسخ في أذهان البعض أن أمين صالح غير محب للسفر.
* تعول الكثير من الآمال الآن على ما يُسمى بالربيع العربي.. فإلى أي حد سيساهم برأيك في انفتاح الفنون، وانتعاش الحركة الأدبية والفنية، والتقليل من حواجز الرقابة، ورفع سقف الحرية.. ما هي رؤيتك لما سيأتي؟
-ربما هذا الكلام سابق لأوانه، ولكن من وجهة نظري الشخصية.. الفنون غير مرتبطة كثيرا بالأحداث السياسية. وأنا أظن أن الكتابة لا تنبع من سقف الحرية الخارجي، وإنما من الحرية الداخلية. فالفنان الذي يمتلك حريته الداخلية قادر على أن يبدع وأن يكتب تحت أي ظرف من ظروف الحياة، حتى وإن كان تحت وطأة أنظمة قمعية، وأحيانا القمع الشديد يولد حركة فنية غير مسبوقة وغير متوقعة، وتُفاجىء أحيانا السلطة، فلا تعرف كيف تتعامل معها. ما يحدث الآن ليس ثورة حقيقية بمعنى الكلمة، فنحن لا نزال في مرحلة التخمر، مثل البركان الذي يغلي، ولا نعرف ما نتائج انفجاره.على سبيل المثال عندما نقول هنالك ثورة في مصر، وجودها سوف ينعش الفهم والحراك الثقافي والأدبي والفني، وسيخفف من قيود الرقابة، فإن المفارقة تكمن في وجود قائمة سوداء، لفنانين وكتاب، والسؤال: كيف يمكن أن أتكلم عن حريتي، وماذا عن حرية الآخر؟
يمكن أن تكون الثورة المصرية نبيلة وتصل إلى أهدافها التي ترمي إليها، ولكن من يضمن أن لا يكون هنالك قفز من جهات أخرى، لتصادر الثورة، فنرى قمعا أشد..لا توجد ضمانات الآن.. هذه الحركات إلى الآن هي غير واضحة بعد، ولكن بشكل عام أنا مؤمن بفكرة أنّ الأدب والفن لا ينتظر هذه الأشياء، هذه أشياء آنية بينما الفن غير آني، وإنما تراكمي، وافقها بعيد.
* الغريب أنك لم تدرس السينما ولم تدرس الترجمة وطورت نفسك بنفسك في الجانبين؟
- بالنسبة للسينما فأنا منذ الطفولة، اعشق السينما، وكنت أتابعها في البحرين وعمري وقتها سبع أو ثماني سنوات.. كان ذلك في فترة الستينيات، نشاهد أفلاما، وننبهر بسحر الشاشة، ونذهب لنتلمسها، ونعتقد بوجود الشخصيات خلفها فعلا.. هذا الحب للسينما، ربما ترافق مع طفولة الكثيرين آنذاك، ولكن الاهتمام بها كان يقل عند البعض ويزيد عند البعض الآخر.. البعض كان ينظر إليها بعين التسلية، بينما أنا كنتُ من النوع الراغب في دراسة السينما، وأحب أن أعرف أكثر عن هذا العالم. اعتمدت في البدايات على المجلات المصرية، ومع الوقت انتقلتُ لمتابعة السينما الأجنبية، وشاهدتُ عوالم غنية، وبدأ عشقي يزيد لها. كنتُ أتمنى أن أدرس السينما بالفعل وأن أكون مخرجا، ولكن هذا الأمر لم يتحقق لي..لذلك عوضت الأمر بالذهاب إلى الدراما التلفزيونية كما ذكرنا سابقا.
* وماذا عن الترجمة؟
- بالنسبة للترجمة أنا لا اترجم أي شيء.. أترجم فقط ماله علاقة بالسينما وما له علاقة بما أحب، والقصد من كل هذا هو نقل المعرفة إلى الآخر، وقد اكتسبت اللغة من العمل ومن الاختلاط بالآخرين بالبحرين.عملي كمحاسب في شركة طيران ساعدني في تعلم اللغة، ولكن إلى الآن لا أدعي أن ترجمتي قوية. كما أنّ ترجمة ما نحب أسهل بكثير من ترجمة ما لا نحب. أنا على سبيل المثال مهتم بترجمة أعمال لمخرجين غير معروفين إطلاقا في الوسط العربي، وربما حتى في الوسط الغربي غير معروفين تماما..
* ما الذي يجذبك إلى ترجمة من هم غير معروفين؟
- أني أحببتهم فقط.. هذا ما يعنيني من أمر الترجمة. فعندما كنتُ أتابع أعمالهم السينمائية وأعجب بها، وكنتُ أرغب في أن أقرب عوالمهم إلى العالم العربي.. لا أكثر من ذلك ولا أقل. أذهب لأترجم حوارات أجريت معه، كتب صدرت عنه، وهذا العمل ليس بالعمل السهل أبدا.
* لماذا لم تفعل العكس.. أعني أنك لم تكتب عن المخرج العربي أو السينما العربية ولم تقدمها إلى الآخر؟
- لأنه بكل بساطة لا يوجد مخرج عربي. قلة جدا من لديهم رؤية متماسكة أو لديهم معالم واضحة. على سبيل المثال عباس كياروستمي المخرج الإيراني تصب أعماله كلها في عوالم متماسكة، ولا يُفاجئنا مرة بعمل كوميدي، ثم تراجيديا، ومرة بعمل بوليسي.. هكذا يجب أن تكون رؤية المخرج متضحة منذ بداياته.. لا يوجد لدينا مخرج عربي يُراكم تجربة بشكل متصاعد، قد يقدم عملا ممتازا، ثم نراه يقدم عملا عاديا جدا.
* ماذا عن كتابك الكتابة بالضوء؟
- هذا كتاب غير مترجم، مجموعة من المقالات قمتُ بتأليفها، وبعضها مترجم. اشتغلت على اليوناني انجلو بولس، الذي هو اسم غير معروف للأسف، وأيضا على تاركوفسكي مخرج وممثل وكاتب روسي. كتابي الأخير كان عن عباس كياروستمي المخرج الإيراني، وهو معروف ولكن ضمن وسط محدود جدا.
الغريب أني بعد كل كتاب أترجمه أقول سيكون هذا آخر كتاب، وأجدني أعيد الكرّة، الحقيقة المسألة متعبة للغاية.. وهي ليست مهنتي، ولكن أقوم بها لأني أريد أن أعرف، فأبحث هنا وهناك، فأجد نفسي وقد تكونت لديّ مادة جيدة لكتاب، فأرغب في نقل المعرفة لمن لم يتسن له ذلك.. ولكن الحقيقة لا أريد أن أنشغل بالترجمة. لديّ مشاريعي الشخصية التي أراها مهمة أيضا، والترجمة تأخذ حيزا كبيرا من وقتي. لم اهتم بترجمة جميع الأجانب..فلا حاجة مثلا لأن اكتب عن السينمائي الأمريكي مارتن سكورسيزي.. لأنه مشهور، ومنتشر ومعروف.
* إذن أنت تريد أن تبتعد عن الترجمة لتشتغل على ما تحب؟
- نعم انتهيت من مسلسل قبل فترة قريبة، وانتهيت من كتاب عباس كياروستمي من فترة قريبة أيضا. الآن أريد اشتغل، وفي ذهني أشياء أريد أن اكتبها، وأظنها ستأخذ شكل رواية لأن مجموعة من الشخصيات التي أريد أن أتحدث عنها عبر حالة واحدة معينة.
* كيف ترى مشهد السينما في الوقت العربي، والخليجي على وجه الخصوص؟
- السينما في الخليج حديثة زمنيا، وقائمة على محاولات فردية، بدون دعم من المؤسسات، ولا توجد حتى استمرارية في انتاج أفلام. لدينا في البحرين المخرج بسام الذواذي يُخرج كل ثلاث أو أربع سنوات فيلما واحدا، وهو حاليا متوقف. في السينما لا يمكن التعويل على منتج في قطاع خاص. لابد من الحكومة أن تؤسس هيئة معينة بالسينما.. لأن أي منتج في النهاية هو مغامر لأنه لا يستطيع من وراء الفيلم أن يغطي حتى التكاليف.
الكويت تقدم محاولات بين الفينة والأخرى، الكويت سبقتنا بخمس عشرة سنة تقريبا، وأول فيلم بحريني كان «الحاجز»، ورغم ذلك لم تتمكن سينما الخليج من أن تخلق تراكما نوعيا وكميا في المنتج السينمائي..التراكم هو الذي يُطور الخبرات. يمكننا أن نستثني من هذه الحالة مصر التي استطاعت شركات الانتاج فيها أن تدعم الفيلم وأن تربح أيضا.إلا أن الانتاج التجاري هو الغالب الآن وهو المتابع أيضا، وأنا لستُ ضد هذا، ولكن أتمنى لو كان بموازاة هذا أيضا أفلاما فنية غير تجارية.
* كتابك «موت طفيف».. كان نتاج تجربة صعبة عشتها لكي تكتب عنها ؟ لماذا اخترت الشعر كأداة تعبيرية في هذا العمل؟
- كما قلت لك في بداية حوارنا التجربة هي التي تفرض عليّ أدوات تعبيرها المناسبة، التجربة أحيانا هي التي تكتب الكاتب، وتفرض حالتها. كالجنين الذي يتخلق، ولا نعرف كيف سيخرج لنا في النهاية من رحم الأم.
أنا اضع الصورة على الورق، وصورة تولد صورة وهكذا تباعا.
أنا لا أخطط إطلاقا للكتابة لأن التخطيط يوصلنا إلى حالة الملل، مثل السفر، عندما نركب قطارا ولا نعرف ماذا سيصادفنا من أشياء يبدو الأمر أكثر متعة منه عندما نعرف الطريق والتفاصيل التي سيعبر عليها القطار.. ربما نبدأ رحلة أو ننهيها أو نقطعها لنبدأ رحلة أخرى.. هكذا هي الكتابة كالسفر. ليس بالسهولة أن أتحدث عن هذه الكتابة. الكتابة هي فعل معقد ومركب، وليس بالوضوح الذي قد نظن.
* أنت شخص لا ينتمي لأي تيار سياسي، ورغم ذلك أنت تنحاز إلى الحرية ؟
- أنا منذ السبعينات منذ أن كان هنالك مد وطني ثوري، خرجتُ وشاركتُ في المظاهرات، واعتقلت لمدة شهرين تقريبا، وذلك ليس لسبب نشاط سياسي، كما أنه بالمقابل إن لم ارتبط بأي حزب هذا لا يعني أني منفصل عما يدور في الحياة السياسية.
ما أعنيه هو التالي: انا اعتمد على وعيي الخاص ورؤيتي الخاصة وانطلق منهما. أقيم ما يحدث في الواقع من زاوية وعيي الشخصي والخاص.. الوعي الذي تشكل عبر قراءات متعددة. أنا قرأت في السياسة وعلم الاجتماع وغيرها، وجملة هذه القراءات هي التي شكلتني، ومن ثم شكلت مواقفي من الأشياء. الانسان سياسي بطبعه ولديه موقف خاص مما يحدث. عندما أقول المعارضة اخطأت فهذا موقف سياسي، وعندما أقول الحكومة اخطأت فهذا موقف سياسي، ولكن ما الذي يحدد مساري؟.. طبعا هما الوعي والرؤية. لذا فأنا أعبر عن آرائي السياسية من خلال الفن والكتابة، وليس من خلال المظاهرات.
* الكل يعرف علاقتك الحميمة بالشاعر قاسم حداد، وقد صدر لكما كتاب مشترك هو «الجواشن».. حدثنا عن هذه العلاقة؟
- بدأ التعارف بيننا مع تأسيس أسرة الأدباء والكتاب في بداية السبعينات. كنا مجموعة من الشباب. سابقا لم تكن لنا مقرات أو أندية، لذا كنا نلتقي في البيوت. نتناقش، ونطرح تجاربنا. فكان بيت قاسم حداد من البيوت الأساسية التي نلتقي فيها، ولاحقا تطورت إلى علاقة صداقة قوية توثقها الكتابة والفن، كان هنالك انسجام في الرؤية. انسجام في فهمنا لطبيعة الشعر والقصة وطبيعة الفن والتوجهات العامة، وهذا لا يعني وجود انسجام كلي.. هنالك طباع تختلف طبعا، ولكن لم تؤثر على الأرضية المشتركة فيما بيننا.. وربما كل هذا الانسجام هو الذي سهل علينا مهمة الكتابة المشتركة. ولكن ما أؤكد عليه دائما في تجربة كتابة «جواشن» ليست فقط الرؤية المشتركة، وإنما الجانب الإنساني..أعني غياب الأنانية من الموضوع. فالكتابة المشتركة تجلب معها أمراض وحساسيات.. هذا لا يلغي بالمقابل أن يُبدي أحدنا رأيه فيما يكتب الآخر.. كأن يقول أحدنا هذه الجملة ليست سليمة.. أقنعه، ويقنعني، وتلقائيا كنا نشعر بغياب الأنانية.
المسألة بدأت بطريقة فانتازية.. لماذا لا نكتب نصا، لماذا لا نجرب..الفكرة جيدة، ولكن ماذا نكتب؟ هكذا فكرنا معا في فكرة معينة، ووضعنا مخطط للفكرة، أنا اكتب شيئا، يقرأه هو ويعاود الكتابة وانا أكمل ما بدأه، ثم لاحظنا أننا نشتغل ببطء شديد للغاية، وبلا رغبة ، لذلك ذهبنا إلى مشاريعنا الخاصة بنا، ثم اكتشفنا سر التباطؤ، وانشغالنا.
السبب يرجع إلى المخطط الواضح الذي وضعناه أمامنا ففقدنا بذلك لذة متعة الاكتشاف، فقلنا معا... لنبدأ «من حيث لا نعرف من أين نبدأ»، بالفعل ما كان يعطلنا أنّ كل الأمور كانت واضحة بالنسبة لنا.. لذا لم نكن نشعر بضرورة أن نكتبها. فاللذة تكمن في عدم المعرفة، هكذا فجأة وجدنا أنفسنا نكتب بشكل ممتع وبانطلاق، وأشياء كثيرة تخطر على بالنا لا نعرف إلى أين نذهب بها أو تذهب بنا، وأحيانا كنا نلعب لعبة خطيرة لتوريط القارئ فأقول له: سأحذف جملتي وضع جملتك أنت هنا. كنا نعي أن القارئ سينتابه الفضول، وسيشغله البحث: أين هو أسلوب أمين، وأين هو أسلوب قاسم.. وقد ينسى الأهم الذي هو النص لذلك اشتغلنا جيدا على لعبة التوريط فيكتب هو النثر، واكتب أنا الشعر.. لكي يستسلم القارئ للنص وحسب.
* ما هي علاقة النص بـ»الجواشن»، ولماذا اخترتما هذا العنوان الغريب؟
- بعد تشكل النص اكتشفنا ذلك الشيء الخفي، وتلك الجذور التي تربط العنوان بالنص.. «الجوشن»: هو صدر أو مقدمة الشيء، ونحن كنا نكتب عن بشر ينتقلون ويهاجرون من مكان لآخر، ويتحملون عبء هزائم، وأصدقك القول هذا تأويلي الآن، ولم يكن واردا في ذهني إلا عندما قمت بسؤالي الآن.. هؤلاء البشر هم الصدور التي في المقدمة، وهم الذين تعرضوا للاضطهاد والقمع. أنا وقاسم اشتغلنا أيضا على أعمال درامية مشتركة، ولم نشعر بعدها بدافع قوي لكتابة مشتركة أخرى.
* ماذا قدمت لك السينما؟
- جعلتني أخوض كتابيا تجربة مختلفة، ربما ليست غنية للآخر، ولكنها خصبة بالنسبة لي.
* هل أنت مطلع على الكتابة القصصية الروائية في الخليج، وكيف تراها؟
- بصراحة لا يوجد توزيع جيد لهذه الكتب ولا تصل إلا عبر معرفة شخصية، حتى الناشر لا يهتم بنشر كتبنا، ويكتفون بجمع المال من الناشر.. لا أرى في المكتبة البحرينية كتبا عمانية
عمان
الثلثاء, 06 مارس 2012