ما ان انتهينا من هذا الحوار، حتى بادرني المثقف والكاتب البحريني أمين صالح بالقول أتمنى أن أكون قد أجبت حقا على أسئلتك. والحق، أن هذا الموقف شديد النبل والتواضع قد أدهشني بعد حوار يكشف عن مثقف قرأ الحياة والموت بعمق،وواجه أسئلتهما الصعبة والمركبة في إبداعه في القصة والرواية والترجمة وكتابة السيناريو والحوار. إن ما يميز إبداع أمين صالح هو تهشيم الحدود الراسخة بين الأنواع الأدبية وحضور الشعرية لا تلغي الإعلاء من شأن السرد في دفق من المشاعر الإنسانية الدافئة والشفافة.
ولد أمين صالح، الذي كتب قصة وسيناريو أول فيلم روائي في البحرين “الحاجز” العام ،1949 ومن مؤلفاته: الفراشات قصص دار الغد البحرين ،1977 وأغنية ألف صاد الأولى رواية دار الفارابي بيروت ،1982 والصيد الملكي ،1982 والطرائد ق11 دار الفارابي بيروت ،1983 وندماء المرفأ، ندماء الريح نصوص البحرين ،1987 والعناصر نصوص البحرين ،1989 والجواشن نص مشترك مع قاسم حداد توبقال للنشر المغرب 1989 وترنيمة الغرفة الكونية نصوص (كتاب كلمات أسرة الأدباء والكتاب) البحرين ،1994 ومدائح نصوص الكلمة للنشر والتوزيع البحرين ،1997 وموت طفيف (نصوص) المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ،2003 ورهائن الغيب (رواية) المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ،2004 والمنازل التي أبحرت أيضاً (نصوص) المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ،2006 يزور أمين صالح العاصمة الاردنية عمان مشاركا في فعاليات معرض عمان الدولي الثاني عشر للكتاب حيث قدم شهادة في تجربته مع الكتابة. ما يلي حوار معه:
* هذه القصدية في تحطيم الحدود الراسخة بين الأنواع الأدبية هل ستفضي إلى نوع أدبي آخر؟
- ليس الأمر هكذا تماما، فهي ليست قصدية آلية. لقد قصدت أن ينفتح الكاتب على الأشكال الأدبية كاسرا حدود السرد التقليدي من دون تقصد الوصول إلى شكل آخر. مثلا، في أثناء الكتابة قد تلمع ومضات شعرية أو تشكيلية أو صورة سينمائية لا أستبعدها، بل أنفتح على كل الأشكال الأدبية التي ترد إليّ: الذاكرة والخيال والوعي واللاوعي.. أرى أن على الكاتب أن يكون مرنا ومنفتحا. وأساسا، أعتقد أن الكاتب لا يدري بالضبط ما هي المحصلة النهائية لما يكتبه، بل يأتي ذلك في ما بعد فلماذا يقمع نفسه. إن الحرية ثمينة للكاتب والمعايير المسبقة للنوع تنافي طبيعة الكتابة وتنفي حرية الكاتب وهذا هو المعيار.
* إن كتابك “موت طفيف” وتبعا لما جاء عليه الشكل وتبعا لما تُكتب عليه قصيدة النثر في أغلب ثقافات العالم راهنا، هو قصيدة نثر بامتياز، فما تعليقك في ضوء ما قلت؟
- قلت إن الكتابة أمر معقد ومركب بحيث إنه من غير الممكن تفسير أو توضيح ما يفعله الكاتب الآن في لحظة الكتابة ولم يكتب بهذه الطريقة وليس بتلك ولم يظهر العمل لاحقا على هذا النحو وليس ذاك، هذا أمر غامض يحتاج إلى ناقد كي يضيء لي أنا هذا الأمر.
ما من شيء هنا نتاج وعي راسخ أو منطق، بل هو الغموض ما يفضي إلى أن تكون الكتابة هنا قصة وقصيدة هناك و”هايكو” في مكان آخر، وأظن أن المرء عندما يكتب انطلاقا من صورة شعرية أو فكرة أو من باعث غامض فإنه لا يدري إلى أين يتجه، ولأن الكتابة تنتسب إلى فترة كتابتها فإنني أجد صعوبة في استحضار تلك الفترة التي كتبت فيها “موت طفيف”، لإعطاء جواب مقنع عن هذا الأمر.
أحيانا، وفي ما أراجع نصوصا كتبتها أعثر على صور أو شخوص وردت في نصوص سابقة عليها، وأحب ذلك ولا أحاذر منه لأن من الجيد أن تتكرر الحالات حتى لكأنك تبني حالة من زمان فيما العالم يتشكل من دون أن ينتهي.
*فأدى هذا الأمر إلى التباس في الشكل وحيرة أيضا؟
- يحتار الكثير من النقاد في تصنيف كتابتي، وهذه الحيرة نابعة من التزام النقد بتصورات مسبقة عن الشكل الأدبي ومحاولة جرّ ما أكتب باتجاه هذا الشكل أو ذاك بهدف استيعابه وهضمه .. البعض يقول هذا ليس بقصة أو خاطرة أو قصيدة.
لماذا هذه الضرورة القصوى للنوع؟ لِمَ لا نشعر بالنص بوصفه كائنا وتجربة ونعيش معه؟. لم يسبق التصنيف كل ما عداه؟ هذا الأمر متروك للناقد، لكن الناقد يتشبث بالقشور ويترك الجوهر. مع كتابي الأخير: والمنازل التي أبحرت أيضا، لم أقم بتحديده كرواية، الناشر لاعتبارات تخصه قام بذلك، فجرت قراءتها كرواية ورُفضت من قبل البعض على أنها كذلك لأنها جاءت على غير ما اعتاد القارئ أن تكون الرواية. لقد أصبح النوع مشكلة النص ولم يُقرأ بشكل جيد بسبب النقد الحقيقي والناقد الحقيقي الذي بوسعه أن يتعامل مع نص جديد بأدوات نقدية جديدة، وفهم مغاير لما هو سائد. غياب هذا النوع من النقد يجعل القراءة قائمة على ما هو غير جوهري بالنسبة لفعل الكتابة.
* إذن أنت لم تُقرأ حتى الآن؟
- ليس تماما، هناك قراءات استفدت منها، بل هناك اهتمام نقدي إلى حدّ ما، لكن هناك غياب للقراءة العميقة التي تكشف أشياء لي وتضيء أخرى باستثناءات نادرة .. هناك جلسات شفاهية مع صديق أو قارئ صديق ومكاشفات تسرني جداً، لكن النقد الحقيقي والدراسة والتحليل والغوص الكلي في العوالم أمر نادر. ولا أعتقد أن هذا الأمر ينطبق عليّ وحدي، بل هناك الكثير من أمثالي من الكتّاب العرب الذين لم يُقرأوا بعد. تأمل الوضع الثقافي العربي من حولك، ستجد أن هناك نقصا شديدا في ممارسة النقد الحقيقي الذي يستوعب النص الجديد والقادر على تجاوز مرجعيات محددة. إن ما يكتب غالبا هو “مقالات نقدية” حول أسماء مكرسة في الثقافة العربية وحول عمومياتها، وهي ليست بعميقة نسبيا فما بالك بالنسبة للأسماء التي ما زالت هامشية في هذه الثقافة رغم مرور كل هذا الزمن الطويل حتى باتوا جزرا معزولة ومجهولة لم يطرقها أحد. إنه أمر يقود إلى اليأس لذلك لا أفكر فيه ولا أنتظر ناقدا يتناول عملي الأدبي على نحو مختلف، بل لقد تشكلت لدينا حصانة ضد الاستسلام، فماذا سنفعل إن لم نكتب، أضف إلى ذلك أن هناك حصاراً رهيباً مفروضاً على النص الجديد من قبل القارئ، ومن جهة أخرى، إن مشكلة النقد هذه مشكلة عالمية ولا تخص الثقافة العربية وحدها، الثقافة الغربية تعاني أيضا.
* في ما يتعلق بالقراءة، أعتقد أن نصاً جديداً يحتاج إلى قارئ جديد أيضا.
- يمكن لنص شعري جديد أن يعثر على بدائله في التفاعل مع الجمهور، لكن الأمر مختلف بالنسبة للقصة، فإشكالية العلاقة مع القارئ يتحمل هو جانبا منها، فلا بدّ لأي شكل فني من قارئ يقوم بالتواصل مع المستوى الإبداعي لا التلقيني للنص، أتحدث هنا عن مخاطبة قارئ يقيم حوارا مع النص. بالتالي، لا بدّ من الانطلاق من جوهر الإشكالية الذي هو: ما طبيعة علاقة القارئ مع النص الجديد إنْ وجد الاثنان معا. بالنسبة لي فكلما انتقلت من مجال أدبي إلى آخر في الكتابة أجد أن دائرة القراءة تتسع، وأعرف تماما أن قارئ القصة محدود جدا لدي، لكن عندما أذهب إلى كتابة السيناريو تتسع القاعدة أكثر وذلك بسبب الذائقة وبسبب الحساسية التي تختلف بين هذا النوع من الكتابة وذاك في علاقتهما بالقراء، ما يعني أن القراءة تتحدد بالنوع الأدبي الذي تكتبه والطريقة التي تجري بها قراءته والمعرفة حوله.
* في هذا السياق من الحديث عن القراءة والكتابة، هل هناك ما تندم عليه؟
- أعتقد أنني في كل مرة أكتب فيها أندم لاكتشافي حماقة ما أو شيئاً كان ينبغي عليّ ألا أفعله، وهذا الأمر يخص نشر تجارب أظن أنها غير مكتملة، لذلك أخاف دائما مما كتبت، أخاف أن أعود إليه وأحلله، وأخاف من اكتشافي أخطائي، أخاف من الشعور بالنقص بسبب الشوائب التي في النص والتي كان من الممكن ألا تكون مع القليل من الصبر، فالنص في داخلك ليس هو كما على الورق، فقد انتظرت شيئا ما في داخلي لكنه أقل مما خرج.
يقول المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني: فكرة الجسد أجمل من الجسد، وبالفعل فإن العمل قبل تحققه أجمل، وبعد تحققه، قد تشعر بارتياح للحظة ولكن بعد قليل وعندما تتأمل قليلا فقط سوف تجد أن ما على الورق ليس بالمستوى الذي بلغه ذلك النص الذي كان كامنا فيك، دائما أندم، وأظن أنني إن شعرت بالرضا الكامل سوف انتهي، بل أموت أو أنتهي أو أقلها أصاب بشلل ما، لذلك لا بدّ من إعادة النظر بالأشياء باستمرار.
* أخيراً، أنت تكتب في غير نوع أدبي، هل يحتاج المبدع إلى أكثر من ذراع واحدة كي يغرف من نبع المخيلة؟
- عندما تتأمل، وتتيح للمخيلة أن تأخذك إلى كتابة نص ألا تتدفق صور هائلة؟ علما أن المخيلة من غير الممكن اختزالها بالكتابة في نوع أدبي واحد. عندما تذهب إلى الكتابة في السينما، فأنت قادر على توجيه بوصلة المخيلة رغم أنها ليست نبعا صغيرا، لكن الحاسم في الأمر التركيز، التركيز على ما تريد قوله عبر النص، هنا سوف تجد سهولة كبيرة في عدم الخلط بين هذا النوع من الكتابة وذاك.
الخليج
الأربعاء ,23/07/2008