في الفضاء الروائي العربي، قليلون هم الذين تورطوا بحب جارف، وعن سابق إصرار وترصد بالشعر. وفي الفضاء الابداعي العربي، نادرون هم الذين ذهبوا عميقا في التجريب بثقة وموهبة ملفتة وبالغة. يظل أمين صالح واحدا من الكبار. الكبار الذين استطاعوا الذهاب إلى الكتابة مسلحين بفطرتهم من جهة وبساطتهم من جهة ثانية، وقدرتهم على إحداث الصدمة المضاعفة بعمق من جهة ثالثة. هذا الامتداد في التنوع في طرْق آفاق ومجالات ليس وليد فطرة وبساطة وقدرة على إحداث صدمة فحسب. إنها قدرة لا مواربة فيها على تسلُّح يتجاوز مابعد الضروري بالبقاء... بالعذاب بـ «إقناع ذلك العذاب بأن يكون جميلا». أمين صالح رؤية ورؤيا في تقاطع بين العتمة وتلؤلؤ الصوت.
صالح لم يخفِ محاولته في أن يضفي على الموت مسحة إنسانية، بأن يجعله «يبدو وديعا، حنونا، متفهما، متعاطفا مع المخلوقات الضعيفة الهشة التي يتعين عليه أن يرافقها.
تتاخم الشعرية. بل أنت في اللبّ منها في مشروعك القصصي. هل استطاع نصك القصصي وحتى الروائي أن يحتفظ بشروط بنائه.. هندسته بهكذا تداخل والتحام؟
قلت في موضع ما، إن الشعر جوهر كل كتابة، كل فن، بمعنى أنه متجذر ومتأصل في كل فعل إبداعي. ومن الخطأ الاعتقاد بأن الشعر يخص القصيدة وحدها. هذا فهم قاصر لمعنى وطبيعة الشعر. فالسرد يمتلك خاصية أو طاقة شعرية، كذلك الصورة السينمائية واللوحة التشكيلية والمقطوعة الموسيقية والمنظر الطبيعي. الشعر يوسّع تخومه، وراء حدود الاتصال اللفظي، لمعانقة أشكال أخرى من التعبير الفني.. بالتالي لا يمكن لشكل ما، أو نوع ما (القصيدة مثلا) أن يحتكر ما لا يمكن تحديده وتأطيره، وما لا يمكن أسره... أعني الشعر.
هناك عشرات؛ بل مئات، القصائد التي لا يمكن إطلاق صفة الشعر عليها، لأنك ستضلّل نفسك والآخرين إن أسبغت عليها هذه الصفة، في حين أن هناك العشرات؛ بل المئات، من النصوص النثرية، والصور السينمائية والفوتوغرافية، التي يفيض منها الشعر.
لذلك فإن بنية النص - القصصي أو الروائي - وهندسته لا تتعارض أو تتنافر مع الحالات الشعرية، ولا تتأثر سلبا بالطاقة الشعرية المتضمنة في هذا النص لأن مثل هذه الطاقة ليست خارجية، ليست دخيلة أو غريبة، بل هي - كما قلت - متجذرة ومتصلة عضويا. وهي لا تؤذي النص السردي إنما تثريه وتعمّقه وتضفي عليه بعدا جماليا فاتنا.
إن محاولة إقصاء الشعر (بمفهومه المطلق والحقيقي) عن النثر هي محاولة عبثية، وغير مجدية.
في «موت طفيف» كأنك تكتب الشعر من خلال السرد. ثمة سرد من الشعر إذا صح التعبير... على سبيل المثال:
الخريف يعرّي الشجرة
لا ثلج، لا أجنحة
لا شيء يستر العار
ماذا تقول؟
لا شك أنك لاحظت بأنني في كتاباتي، منذ بداياتي تقريبا، لم أكن أميل إلى السرد التقليدي، الكرونولوجي، حيث الاهتمام بالموضوع والمحتوى على حساب الشكل والنواحي الجمالية، وحيث اللغة موظفة لتوصيل معلومة وليس كطاقة خلاقة. كنت أهتم بالسرد الشعري، أو السرد الذي يكتسب جماليته وحيويته وجدّته من اعتماده على الاختزال والتكثيف، على توظيف عناصر الحلم والمخيلة والذاكرة. رواية القصص، بحد ذاتها، لم تكن تثير اهتمامي، بقدر ما كنت أرغب في التعبير عن حالات، أو أسبر علاقات، وفق حساسية تستمد عمقها وحيويتها من المنجزات الحديثة في الأشكال الفنية، ومن الرؤى الشخصية.
في «موت طفيف» اقتراب أكثر من بنية القصيدة، تحديدا قصيدة الهايكو لكن دون الالتزام بعناصرها وشروطها. لكن أرجو ألا يُفهم من كلامي أن الانتقائية والقصدية هي التي تحرّك الكتابة عندي، بمعنى المجئ إلى الكتابة وكل شيء، من الفكرة والشكل والتقنية، جاهز لدي ومحدّد بدقة وإحكام. التجربة هي التي تملي اللغة والأسلوب والنوعية. قبل الشروع في كتابة نصوص «موت طفيف»، على سبيل المثال، لم أكن أخطط سلفا لكتابته بذلك الشكل، إنه يحدث هكذا: على نحو مفاجئ، غير متوقع، وملغز.
أحب أن أنظر إلى الكتابة بوصفها رحلة نحو المجهول. إنك تعرف كيف تبدأ، مع الخطوة الأولى، لكنك لا تعرف في أي محطة ستتوقف، أو في أي موضع ستنتهي بك الرحلة. أنت هنا نقيض الكاتب الآخر: كليّ المعرفة، كليّ الحضور، والذي يحرّك كل الخيوط.
«في هندسة أقل.. خرائط أقل» تنحو منحى المراقب لنصه. كأنك تقف على مقربة من أسرار كتابتك... تجربتك، كأنك تكشف بعض كيمياء تلك الكتابة. أليس كذلك؟
في هذا الكتاب، الذي هو تجميع لمقالات عن الكتابة وأشياء أخرى، أردت أن أقدم ليس فقط آرائي ومواقفي بشأن الكتابة وتجربتي الأدبية، إنما أيضا تلك الانطباعات والتأملات في شئون الحياة وعلاقات الإنسان بمحيطه وأشيائه والظواهر الحياتية والفنية. إنه أشبه بتقديم كشف أو بيان بما يشكّلني كإنسان وككاتب على المستوى الثقافي والسيكولوجي والفلسفي.
الكتابة نفسها سر، لغز.. مثل الحلم، مثل الحياة. ولا يمكنك أن تفشي أو تبوح بهذه الأسرار لأنك، أساسا، لا تعرف عنها شيئا. ربما لا تعرف إلا القليل. كل ما تحاوله هو الاقتراب من تلك التخوم المراوغة لاستشراف مظاهر وعناصر ومعطيات التجربة.. التي هي ليست ثابتة بل متغيرة، متحولة، ملتبسة.
لم تكن غايتي من الكتاب أن أقدم أجوبة، أو حلولا، أو وصفات ناجعة. أردت فحسب أن أبدي ارتيابي في الأشياء، أن أستجوب المفاهيم والقيم والمسلّمات، أن أثير الأسئلة.. وذلك من أجل أن أتوصل إلى فهم أفضل وأعمق للعالم الذي أعيش فيه. ولا أزعم أني توصلت إلى مثل هذا الفهم، وإلا لتوقفت عن الكتابة منذ زمن.
في الكتاب نفسه ثمة تجربة مغايرة. ثمة حس نقدي يكون الشعر فيه حاضرا هذه المرة أيضا. لغتك الشعرية جعلت من المادة النقدية وحتى التأملية خفيفة على الروح.
مثلا في باب «المكان» تقول: الخيمة لا تشير بالضرورة إلى البداوة أو الهجرة... يمكن أن تكون الرحم أو الذاكرة... الخ.
هل الكتابة - أي كتابة - لا تكتسب سحرها وبهاءها إلا بالشعر؟
إني أتمثّل ما قاله بودلير عن ضرورة الكتابة بروح أو حساسية شعرية.. حتى لو كان نثرا.
الكتابة تصبح مباشرة، تقريرية، وجافة (بالتالي تفقد سحرها وبهاءها) عندما يكبح الكاتب، أي كاتب، الطاقة الشعرية الكامنة في اللغة، ويحول دون انبثاقها وبروزها. مثل هذا الكاتب لا يعتقد أن اللغة تمتلك طاقة تفجيرية، لذلك يفوّت على نفسه إضفاء فتنة على نصه.
إن لم يحسن الكاتب الاعتناء بلغته، بشحذها وصقلها، فسيعتريها الصدأ والوهن. يتعيّن عليه أن يعرف كيف يوظّف لغته شعريا.. حتى في الوصف.
في «الصيد الملكي» ثمة فانتازيا... كوابيس... لغة في حدودها القصوى من اختراق العصي على البلوغ... لكأن الكوابيس مدخل إلى الحلم وإن نأى عن المثول.. ما تعليقك؟
«الصيد الملكي» من الكتب المبكرة التي تضم نصوصا كتبت في مرحلة كانت قاتمة سياسيا، فجاءت تعبيرا عن مناخ قمعي، ضاغط، وكابوسي. إن ما يحدث في الواقع ينعكس، بطريقة أو بأخرى، على ما تنتجه، على رؤيتك، على الشكل الذي يحتوي مضمونك ويتداخل معه إلى حد الاندماج. أعتقد أن الكابوس يكون أكثر حضورا في المراحل التي تتأزم فيها الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وتتصاعد فيها مشاعر الخوف والالتباس والتشوّش والإحساس بفقدان الأمان.
من جهة أخرى، تظل الفنتازيا والكوابيس والأحلام من المصادر، أو الينابيع، التي ينهل منها الكاتب في أي ظرف وحالة، وليس بالضرورة في الأجواء الكابحة والقمعية، وبها يثري نصوصه.
من أين أوتيت الوثوق بقدرتك على إحداث الصدمة المنتجة - إذا صح التعبير لدى قارئ يتابعك، أو حتى ذلك الذي يلتقي عالمك للمرة الأولى؟
لا أظن أني أمتلك تلك الثقة بقدراتي، بل إني لا أعرف كيف يستقبل القارئ نصوصي، كيف يقرأ أو يتلقى ما أنتجه. هل هي معضلة؟
إن غرض كل كاتب، كل فنان، أن يحقق اتصاله بالمتلقي (على المستوى الإبداعي وليس الاستهلاكي). هذا طموح مشروع، بل يحتل المكانة الأبرز في قائمة طموحاته. لكنني شخصيا لا أدري إن كنت قد أفلحت في تحقيق هذا الاتصال، ما دام القارئ لا يريد أن يفصح عن شيء، أو يعبّر عن مدى تفاعله.. ما دمت لا أسمع صوته. كذلك الناقد، الذي يلتزم الصمت، ولا يبدي اكتراثا.
إني أعني بالاتصال هنا الحوار، تبادل الآراء، النقد، التفاعل.. هذه مظاهر تكاد تكون معدومة، غير مؤسسة، في واقعنا.
ربما تعتبر عيبا، ربما لم نتعوّد عليها في تربيتنا، ربما نمقت كل أشكال الاتصال.
هل هذا يدعو إلى اليأس؟ لا أحسب ذلك.
أنا لا أنفي وجود مثل هذا القارئ.. قد يكون حاضرا، لكن ليس بوسعي رؤيته. ومن يدري، ربما يعلن يوما عن نفسه.. في صخب.
ألا تشكل هذه الاهتمامات المتعددة بين القصة والشعر والسيناريو والترجمة والكتابة في السينما، نوعا من الإرباك لك ولقارئك؟
في كل ما ذكرت، من قصة وشعر وسيناريو وترجمة، هناك ما يجمع ويوحّد بينها.. إنها الكتابة. هي أشكال متعددة ومتنوعة من الكتابة. هذا يعني أن ثمة قرابة بينها، علاقة حميمة، وليست غريبة عن بعضها البعض. بمعنى أنني، عندما أمارس أشكال الكتابة هذه، لا أشعر بأنني أتنقّل عبر مجالات متباعدة، غير متجانسة، قد تستدعي مني بذل جهود خارقة ومرهقة.
هي بالأحرى تنويعات على الكتابة، لا أظنها تربك أو تشتت؛ بل على العكس تماما، أجد أن الانتقال بينها يضفي حيوية فائقة؛ وخصوصا إذا تم بسلاسة وبلا قسر. وبالطبع، لا بد من توافر القدرة على العطاء في هذه المجالات، وأن تحدث بدوافع ملحة، لا سبيل إلى كبحها أو مقاومتها، وإلا فسيبدو ذلك جهدا عقيما وغير مجد.
حتى لو مارس الشخص أشكالا أدبية وفنية متباينة، في النوع والتقنية، فذلك أمر جائز ومقبول، ولا اعتراض عليه، طالما أنه يمتلك الموهبة، وأن عطاءاته المتنوعة ستثري المناخ الثقافي. وهناك أمثلة عديدة لأصحاب المواهب والطاقات المتعددة، يمكن تقديمها لمن يرغب.
ما يهم هنا هو المنتوج الثقافي، ومدى براعته وأهميته وغناه. أما الأمور الأخرى فمسائل ثانوية لا تتصل بجوهر الإبداع.
في الحديث عن السينما، تحضرني مقولة الممثلة الفرنسية الكبيرة كاترين دونوف: «في كل أعمالي حاولت أن أقنع العذاب بأن يكون جميلا... أعتقد أنني نجحت أحيانا» بالنسبة إليك هل نجحت في ذلك؟
بالنسبة إليَّ، ليس العذاب بل ربما الموت. لقد حاولت في أعمال عديدة أن أضفي على الموت مسحة إنسانية، بأن أجعله يبدو وديعا، حنونا، متفهما، متعاطفا مع المخلوقات الضعيفة الهشة التي يتعين عليه أن يرافقها.
والجمال أيضا. أن أجعل الموت يبدو جميلا. تستطيع أن تعتبر هذا... لا، ليس تملقا. إنها محاولة للمصالحة، لعقد نوع من الصداقة، من التفاهم، من الثقة المتبادلة. أن يفهم كلا الطرفين بألا ضغينة بينهما.
إذا لم تستطع أن تتغلّب على مخاوفك، حاول أن تجمّلها، أن تتعايش معها، أن تضفي عليها شيئا من البهاء والدعابة.
هل السينما وحدها الأكثر قدرة على إعادة ترتيب الوعي؟ وهنا أستعير مقولة فيسكونتي.
لا أستطيع أن أجادل العظيم فيسكونتي في مسألة يفهمها أكثر مني، لكنني لا أميل إلى المفاضلة. قد يأتي مسرحي ويزعم أن المسرح هو الأكثر قدرة، أو الكاتب مع كتابه.
فضلا عن ذلك، أجد الجملة نفسها غامضة بعض الشيء.. إذ على أي مستوى يحدث هذا؟ في أية حالة؟ وهل تستدعي متفرجا مرنا أم أن أي شخص لديه القابلية؟
العدد : 2554 | الخميس 03 سبتمبر 2009م الموافق 14 رمضان 1430 هـ