بتساؤلات ذات نبرة طفولية لجوجة، يفتتح ناظم السيد مجموعته الشعرية "أرض معزولة بالنوم"، الصادرة حديثاً في سلسلة "الكوكب" لدى "دار رياض الريس للنشر". "لماذا"، يكرر من دون تعب باحثاً عن مسبّبات ممكنة لأكثر من وجود يقيني ومحسوم: "لماذا هذا الشباك الرمادي رمادي. ثم لماذا هو خشبي من الأساس. والستارة التي تتدلى كجسم بحري رخو لماذا...". الا ان ما يبدو للوهلة الاولى نظرةً عذراء الى العالم تنتفي امامها المسلَّمات الاكثر بداهة، سريعاً جداً ما سيكشف عن وجهه اللاذع والماكر: "... والنافذة المكتئبة لماذا لا تفتح يديها وتقفز الى الشارع. تنتحر يعني". ننتبه اننا حيال أسئلة هي ليست كذلك فعلاً، لا شكلاً ولا وظيفة. أسئلة أسقطت عن نفسها علامات الاستفهام تماماً كما أسقطت من اهتمامها احتمال اجابات ممكنة. اما هذه ال"لماذا" السببية فتصير مناورة نزقة وعابثة وحتى ماسّة، لكنها خصوصاً غير معنيّة الا بنفسها.
في مسعى أبعد ما يكون عن تعاطف انساني مع كائنات او اشياء مهمّشة، تبدو المجموعة محكومة بنظرة تنزع اشياء العالم من غفليتها لتدفع بها الى دائرة الضوء، او لتوجّه هذا الضوء اليها بالأحرى. ثمة دوماً اشياء متروكة في الخلف، مقصية، مهملة، ذات وجود سلبي، يمنحها الشاعر النظرة الكافية التي تعيد اليها وجودها المصادَر: البحر الذي يذهب ويترك مياهه، الموظفة التي تقفل المحل فتبقى الثياب "مسجونة هنا"، لكن الاكثر ايلاماً هو "الظهر المتروك دائماً في الخلف أشدّ عزلة. انه يتألم لتنظر اليه ولو مرة واحدة". هي نظرة تنزع الاشياء من جمودها كذلك. تحاول ان تمدد لحظة حركتها السلبية لتجعل من استمرارها في الوقت شرط وجودها: "اشياء كثيرة تقع في البيت. منفضة مثلاً. قميص في الخزانة. صابونة في البانيو. ملقط غسيل. أسماء ليس لها أصحاب. أغانٍ وكؤوس. سنوات بكاملها. (...) اشياء تقع. لا تنكسر. تبتعد فقط".
على غرار هذه الاشياء الكثيرة التي تقع في البيت، ويصير وقوعها فعل ابتعاد موجباً لا تحطّماً سالباً، يغيب اي بعد ميلودرامي عن أجواء القصيدة. يبدو فعلها في القارئ فعل الابتعاد حقاً لا الانكسار. موت بطيء لا مكان فيه للفاجعة. استيعاب للخواء على مراحل، في جملٍ ايقاعها يشبه ايقاع حياة "جميع الذين يولدون فجأة ويموتون على مهل"، من دون ان تخفف من وهجها بعض الصور القليلة "المنتهية صلاحيتها"، اذا جاز القول، على غرار: "اظافر العشب مجروحة بالمطر" او "الحياة مجدداً تنهش لحم الابدية"، او حتى في قوله عن الشمس: "الليل، إبهامكِ، على خدّ الارض"، ذلك ان هذه كلها، يعود سريعاً ليرفدها بما يعيد للقصيدة رصانتها الغنائية.
في العودة الى النظرة المذكورة، نراها احياناً تمارس ما يشبه المحاكاة لعملية الخلق الاولى. لكنها محاكاة أكثر عبثاً وابتكاراً، بعيدة من هذه ال"كوني فكانت" التعميمية والمضللة: "أحياناً نظلّ نحدق حتى نشعل شيئاً نسمّيه على سبيل الضحك: القمر". الا انها عندما تتوجّه الى الذات، تصير أشبه بلعنة تكشف عن لوثة فصامية: "انا المحكوم بعينيَّ أنظر الى نفسي أبتعد وأصغر أبتعد وأصغر كنجمة هندي أحمر" يكتب الشاعر. لا تنم هذه النظرة عن سكيزوفرينيا تامة لأن الشاعر سيظل قادراً على توجيهها، لكننا سنلمس مع ذلك بعضاً من عوارضها: مزيج من التوحّد والنزوع الفصامي وعلاقة مشوّشة مع العالم الخارجي: "في البيت يكلّم نفسه بصوت مرتفع. انه يخاف ان ينسى كيف يستمع الواحد منا. يراقب جسمه يمرّ عبر التلفزيون المطفأ والزجاج المغلق. وفي مرات كثيرة ونادرة كان يتبع وجهه يمضي معكوساً على الماء المسرع في المغسلة".
هذه العلاقة مع الذات المنفصلة التي تراقب نفسها من بعيد، قد تتخذ احياناً بُعداً عدائياً لا يخلو من بعض الذهان الارتيابي: "يخاف اذا نام ان تعضّه اسنانه"، يقول الشاعر. يبقى أهم ما في هذه النظرة انها غير أحادية الاتجاه، لا تنفكّ تروح وتجيء بين الداخل والخارج لتتشكل عن الحياة صورة هي مزيج من مكوّنات العالمين: "وجه خلف الزجاج ينظر بالمقلوب، عيناه تتطلّعان الى رأسه، ومع ذلك تريان كل ما في الخارج: الثلج، الريح وقطع لحم تطفو في الفضاء".
بعد ذلك، لن يتوقف هذا النزوع الفصامي عند الذات، لنراه، وفي ما يشبه الإسقاط، ينسحب على اشياء العالم المحيطة، ليفصل بين القدم والخطوة، وبين العين والنظرة، وبين البحر ومياهه. ثمة دوماً هوة بين الشيء وما يصدر عنه، بين الكائن ومظاهر حضوره. هوة زمنية تحديداً تكشف عن علاقة مشوّشة مع الوقت سينتج منها سريعاً رسم غير خطّي للزمن. فالمستقبل يقبع خلف الظهر، والرجل يسبق "عينيه الى كل مكان". كل هذا في مسعى قلق تفضحه احياناً صور ذات مرجعيات رومنطيقية خجولة تداري نفسها خلف شيء من الحياد: "يعود الى البيت ويغلق الباب عليه. يخرج من البيت ويغلق الباب عليه ايضاً. في الشارع كان يدندن أغاني كثيرة صانعاً منها أغنية واحدة. يحلم بحياة عادية: زوجة واولاد وكلب يمدّ رأسه من السيارة في النزهات الطويلة".
تضم المجموعة احدى وخمسين قصيدة قصيرة تؤثر الأرقام محلّ العناوين. تشكّل هذه القصائد - المقاطع وحدات شعرية تخلق مجتمعةً البناء النّصي المتناسق. تنسحب البنية نفسها على كل قصيدة وحدها: جملٌ قصيرة هي في معظمها وحدات مستقلة من ملاحظات عابرة، ومشاهد مقطوفة، ولقطات منتقاة تعتمد احياناً نبرة تعدادية ماكرة. يبدو الشاعر في جمله هذه كأنما يفكك اشياء العالم على شكل قطع منفصلة ثم يعيد وصلها وتجميعها ليبدو المقطع الشعري أحياناً اشبه ب"باتشوورك" يكتسب تناسقه النهائي من تناقض وحداته، وذلك حتى ضمن صيغته السردية. الا ان هذا العمل التجميعي، اذا جازت تسميته كذلك، يعرف كيف يحافظ على مظهر إنسيابي وفي الآن نفسه متقشّف وصارم لا يغرق لحظة في فوضى مواده بل يظل محكِماً عليها سيطرته التامة. كأني بناظم السيد يسير بقصيدته على قاعدة "كلّ فجأة مدبّرة سلفاً"، اذا اردنا اللجوء الى التعبير الذي يستخدمه بنفسه في احدى القصائد.
هذه الاستقلالية التي تكاد تكون السمة المميزة للجملة، ليست استقلالية عقيمة. فالجملة هنا تعرف كيف تحافظ على حبل السرة مع سابقتها وتاليتها على السواء، من دون ان تترك هذا الحبل يخنقها. تبدو العلاقة بين الجمل علاقة عضوية - من دون ان تكون ارتهانية - الى الحد الذي لا يعود فيه الضمير المتّصل قادراً أحياناً على ايجاد اسمه في ما سبقه، كأني به يربط الاسماء التي سبقت كلها. ومهما بدا عزل هذه الجمل عن سياقها وعن السلسلة التي تنتمي اليها مغرياً (كما فعلتُ منذ قليل) فسيكون ذلك أشبه ببتر المعنى وخيانته: "الجسد ذكرى الآخرين"، قد يحلو للقارئ ان يقطف عبارة مثل هذه ويمشي، سعيداً بلقية تصلح، كالأقوال المأثورة، للاستخدام الظرفي. لكن وحدها اعادة العبارة الى سياقها تعيد اليها أصالتها وتنقذها من الاختزال التبسيطي: "النسيان ولادة. والجسد ذكرى الآخرين. والمعصية الخضراء. والنقمة التي صارت عضلاً. والأشواك التي تتنزه في الحقل. وتجرح الهواء. والهواء. وتلك التي تحرس جمالها. وجمالها. وحبيبي المهذّب كورقة كلينكس...". من هنا، تبدو تقنية الكتابة لدى ناظم السيد شبيهة بالتقنيات المستخدمة لدى الرسامين الانطباعيين: لطخات صغيرة وحادة ومتتالية ومتجاورة تكتسب هويتها اللونية الحقيقية من موقعها. كأنما جملته تخون ذاتها وعزلتها في كل لحظة لتولد من جديد وكأنما الشاعر يكتب في كل مرة كمن "يستدير ويطعن ظهره".
النهار
18/آب/2007
Sylvana.elkhoury@annahar.com.lb