لم يعد حكماً ذاتياً ان نصف ايف بونفوا بأنه "شاعر الحضور"، على قول الشاعر والمترجم التونسي محمد بن صالح، بل صار ذلك موضوع اتفاق. هكذا ايضاً بات جزء كبير من الأحكام النقدية التي تتناول أعماله، وهذا ليس بالمستغرب اذا اخذنا بالاعتبار اننا ازاء شاعر يتزامن لديه الشعر والتأمّل النظري للشعر، ويسيران في خطين متوازيين. من هنا، تصير معظم المقاربات الخارجية لعمله تنويعاً محكوماً بالحَراك داخل الحدود النظرية التي وضعها الشاعر نفسه، وتصير كل محاولة تأويلية للخروج عليها مجازفة، نتائجها غير موثوق بها.
ما سبق تمهيد لا بدّ منه للاقتراب من الانطولوجيا الشعرية للشاعر الفرنسي بعنوان "الصوت والحجر" التي انتخبها محمد بن صالح وترجمها وحاور صاحبها. في الكتاب الصادر اخيراً عن منشورات "الجمل" و"آفاق" للنشر والتوزيع في اربعمئة صفحة من القطع الوسط، نجد في الصفحات العشرين الاولى تقديماً سريعاً وحواراً مع الشاعر، يعطي القارئ العربي مفاتيح اولية لقراءة الشاعر الذي يُعتبر من الاكثر صعوبة. يلي ذلك منتخبات تغطي مساراً شعرياً فريداً لم ينفك منذ منتصف الاربعينات يبحث عبر اللغة - وذلك في مفارقة شديدة البلاغة - عن اللحظة التي تسبق اللغة، في محاولة لاسترجاع ما يسمّيه "الوحدة مع العالم".
واذا كان بن صالح يقدّم في عملية الترجمة جهداً كمياً ونوعياً لافتاً نسبياً، فإنه يبدو في مسألة رفد البعد الترجمي بآخر نقدي وتأويلي انه آثر الخيار الاسهل والاقل مجازفة. هذه الحال ما كانت لتكون في حد ذاتها حكماً تقويمياً سلبياً، لو اضطُلع بها في شكل اكثر دقة وإحاطة. لقارئ غير معتاد على شعرية إيف بونفوا، لن تكفيه المفاتيح العامة والأولية التي تتضمنها المقدمة والحوار ولا الملحق التعريفي ب"الاعلام والاماكن والاعمال" في آخر الكتاب، للقبض على مستويات هذا الشعر المتقدمة، لكنه لن يتمكن خصوصاً من الربط بين الشذرات النظرية المقدَّمة له وما سيقرأه في ما بعد. ان ترجمة واحد من اصعب الشعراء المعاصرين لا يمكن الا ان تترافق مع جهد تفسيري وتأويلي ونقدي لا يتورّع عن الامساك بيد القارئ وتوجيهه داخل عوالم الشاعر، وهذا ما تفتقر اليه هذه الانطولوجيا في شكل خاص.
في التقديم السريع الذي يفتتح الكتاب، يحاول المترجم ان يرسم الخطوط العريضة لمسار بونفوا وأبعاد شعريته، الا انه يسقط احياناً في اعطاء احكام قاطعة في موضوعات لا يمكن مقاربتها بهذا المقدار من الحسم. كأن يشير في شكل يقطع الطريق على اي امكان للتأويل، ان "دوف هي الارض"، في حين ان "دوف" هي اكثر تعقيداً من ان تُختزل بطريقة تهمل كل أبعادها ومحمولاتها. فهذه الكلمة، او هذا الاسم، على ما يقول جان ميشال مولبوا، تتضمن كل موقف بونفوا من قضية المَفهمة: "دوف" تعاكس المفهوم وتبطله، "هي اسم يقاوم الهوية وفي الوقت نفسه يحددها".
بعيداً من هذه المسألة، يقدّم بن صالح نبذة عن سيرة الشاعر منذ تخليه عن دراسة الرياضيات وتوجّهه الى الفلسفة، قبل ان يتفرّغ تماماً للشعر. ويتابع مساره منذ اقترابه من السورياليين فانفصاله عنهم لرفضه "استسلامهم لسيادة الشكل على النص"، معتبراً "ان على الكلمات ان تحافظ على دلالتها الارضية التي بدونها لا وجود لعلاقة حقيقية بالعالم". ففي زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية ذاك، رأى بونفوا ان الوقت لم يعد يحتمل "الهرب الى الخيال او اللعب على الكلمات".
ديوانه الاول "في حركية دوف وفي ثباتها" (1953)، سيكون إعلاناً عن ولادة "واقعية جديدة" في الشعر تسعى الى "تجديد العلاقة بين الشعر والعالم". "واقعية" هي في مكان ما "بين الحلم والواقع"، ترفض "تعالي الصورة" واوّلية المفاهيم لأن هذه الاخيرة "ليست سوى رؤى جزئية متحَصَّل عليها باقتطاع بعض المظاهر من الموضوع على حساب الأخرى". هنا، يتطرق بن صالح الى موقف بونفوا الرافض ل"هيمنة المَفهمة"، التي تحول دون "الانصهار بالارض"، و"تخلق مسافة بين الحسي والفكري تصل الى حد ابتذال الاول وانكاره". فخلافاً للرؤية الافلاطونية التي تقدّم المفهوم على المحسوس ولا ترى في المظهر الا انعكاساً، يقترب بونفوا "من عالم ما قبل السقراطيين واعياً بالقيمة النموذجية للميثولوجيا اليونانية في نزوعها الى مطلق المصادر الاولى".
يعيد بونفوا في حواره مع المترجم، التشديد على هذه المسألة، معتبراً ان المفهمة تؤدي الى ايجاد شبكة من العلاقات بين المظاهر المختلفة للاشياء بحيث "تصبح تدريجاً عالماً ذهنياً قابلاً لأن يبدو كأنه الواقع ذاته، لكنه ليس الا صورة عنه"، وذلك في تجاهل تام لخصوصية الاشياء والكائنات و"تناهيها"، اي توافقها مع لحظة وجودها ومكانها. من هنا، ليس الشعر في رأيه تجريباً بسيطاً على مفردات اللغة، بل هو "ارادة استعادة العلاقة مع هذا التناهي المنسي". من هذه الزاوية يمكن مقاربة ما يسمّيه بونفوا "الحضور" الذي هو في تعبيره "العلاقة التي تتأسس في داخلنا مع اشياء او اناس عندما نكون نجحنا في تخليص فكرنا مما هو تمثّلات انشأناها عنهم بوسائط الفكر المفهمي". هنا يبرز دور الشعر من حيث كونه "خرقاً للمفهومي".
تضم الانطولوجيا اكثر من ثمانين قصيدة تشكل عيّنات شديدة الدلالة الى شعرية بونفوا، وتقدم رؤية بانورامية لمساره وكيفية تطوّره، اسلوباً وموضوعات. هكذا نجد قصائد من المراحل الاولى حتى الاكثر حداثة، ومن معظم مجموعاته: "كتاب العازف" (1946)، "في حركة دوف وفي ثباتها" (1953)، "أمس السائد القفر" (1958)، "حجارة مرسومة" (1965)، "بلد الاعماق" (1972)، "في سراب العتبة" (1975)، "ما كان بلا ضياء" (1987)، "اول الثلج ثم آخره" (1991)، "هناك حيث السهم يقع" (1991)، "العيش التائه" (1993)، "معاينات في الرسم" (1993)، "الألواح المقوّسة" (2001). هذه كلها يستهلّها المترجم بمقطع من قصيدة "ذهبٌ بلا سيماء" يقول فيه بونفوا: "... وكم غريبة هي بعض الكلمات/ بلا افواه هي، بلا اصوات، بلا وجوه/ نلاقيها في العتمة/ نمسك بأيديها، نقودها/ لكن الليل يحطّ على الارض من كل مكان/ كما لو ان الكلمات كانت رجلاً أصابه البرص/ من بعيد نسمع جلجله يدقّ. رداؤها/ على جسم الارض مشدودٌ، لكنه/ يسمح للضياء بأن يتسرّب...".
هذه الرؤية للعلاقة مع الكلمات سوف يتلمّسها القارئ على طول القصائد في شعر يمجّد الحضور، بوصفه "التجربة الفورية والصافية والمتّحدة بالعالم" التي ترفض اختزال الاشياء الى نظام علاماتها. تجربة تجهد لتلافي "كذب الكلمات التي تهب اكثر مما يوجد/ او تقول غير ما يوجد". فاللغة هي "السقوط" واستخدامها سبب "القلق" و"العنف": "ايها الكلام القريب مني/ غير صمتك ما الذي نطلبه؟" يقول بونفوا في قصيدة عنوانها "اشارات اخيرة". من هنا، نراه يؤثر اصغاء اكثر حسية الى العالم ومعاينة للواقع في تجلياته الاكثر صفاءً، حتى لو اتخذ هذا الواقع شكل سرد حلمي ذي ابعاد ابوكاليبتية حيث للموت حضور حسي لاذع: "... وحيداً بعد ذلك في الحديقة/ كنتُ أصرخ، قرون الموت قد خلبت وجهي،/ من الكواكب الباهتة في وضح النهار عليّ كان الغمّ ينهمر./ ... على يقين كنتُ،/ من ان في البستان من كان يمشي وأنه في لحظة،/ ستظهر على العتبة، هازة رأسها المسخيّ، امرأة بائسة لا اعلم من تكون/ وطفلها بالريح مدفوعٌ كما الغسيل بالفضاء يمتزج".
في كتابةٍ مكثفة تعرف مع ذلك كيف تحافظ على شفافيتها، تعود في شكل متواتر صور ورموز ميتولوجية لا تنفك تجد لنفسها مكاناً في تعبير عن توق عميق للعودة الى "مطلق المصادر الاولى" كما سمّاها بن صالح في المقدمة، حيث الاشياء لا صورها. ها هو الشاعر يخاطب دوف قائلاً: "وجهكِ هذا المساء بالارض مضاءٌ/ لكنني ارى التعفّن في مقلتيكِ/ ولفظة وجهٍ أضاعت المعنى./ البحر في داخلنا تضيئه نسورٌ تحوّم،/ هذه صورة./ أتملّككِ باردة في عمقٍ حيث الصور لا شيء باتت تقول". والنتيجة: شعر من خبز وخمر، من ماء وعشب وحجارة، شعر له "طعم الثمار التي تقع".
"جمال لحظة الصاعقة هو سكونها" يقول بونفوا، كما لو انه يعيد صوغ دعوة الفيلسوف اللاتيني سينيك بضرورة تمييز الاشياء من الضجيج الذي تحدثه. ضجيج اللغة على الارجح.
Sylvana.elkhoury@annahar.com.lb
النهار
20 يوليو 2007