ليس أخبث من الشاعر، على الأرجح، الا الشعر نفسه، يخيل الى الأول انه يمتلك من الدهاء ما يجعله قادراً على لي اعناق الكلمات لتنصاع اليه، ثم تأتمر بأوامره، ثم تكشف له اسرار القول. يصدق اشاعر هذه الكذوبة الجميلة. ثم يتراجع عنها بعد ان يصطدم بجدار المفردات ليعيد النظر بهذه العلاقة الملتبسة في الأصل، يحاول من جديد ان يدخل الى المتاهة وقد القى ما في جعبته من اوهام الهيمنة على من في يده مفاتيح الرؤية وتغيير وجه العالم. تصبح العلاقة، والحال هذه، بين الشعر والشاعر خاضعة لشروط مختلفة: ايهما اكثر تواضعاً من الآخر لتقديم التنازلات القاسية اذا جاز التعبير. قد يسبق الشعر الى القبول بهذه التسوية. غير انه خبيث، مضلل، يستدرج ضحاياه الى ساحة المعركة ثم ينصرف عنهم تاركاً اياهم لاقدارهم الموحشة. بدوره، ينساق الشاعة الى هذه المغامرة وفي ظنه انه تمكن اخيراً من الشعر. علاقة انتهازية لن تستقيم بهذه الأدوات الرخيصة. يسقط الشاعر. يكتئب، يتعرق من الاحباط. يستبدل الشعر بالطريق اليه فقط. وقد يحقد عليه، او يسعى للانتقام منه، غير انه لا يقوى على ذلك. هل يمكن قراءة المجموعة الجديدة للشاعر علي زراقط، وفقاً لهذه التصورات الأولية؟ نعم ولا، على الأغلب، باعتبار انه يتهيب الموقف في هذه النصوص، متجنباً، قدر المستطاع، الاستسلام لقدر السقوط في الماساة الاغريقية. يسير بحذر شديد في ارض مزروعة بألغام المعاناة والخيبة والانهيار حتى لا يتعثر في أول الطريق.
جاذبية الرؤية
النصوص الجديدة بعنوان "كانت الحياة رخوة" صادرة حديثاً عن "دار النهضة العربية" في بيروت. وتتكون من اربع عشرة قصيدة تتفاوت في الحجم ولا يشذ بعضها عن بعضها بالايقاع المتريث الذي يتحول صاخباً أحياناً كلما سولت نفس الشاعر اليه بالاقتراب من جاذبية الرؤية التي تبعث على الدهشة، او القلق، او الخوف من ان تكون من أضاليل الشعر وأوهامه. على هذا الاساس، لا يبدو علي زراقط مستعجلاً قدره الشعري وهو يتنقل، بهدوء حيناً وبعصبية حيناً آخر، بين خزان الذاكرة وكواليس الواقع. الأرجح، في هذا السياق المتيقظ، انه يبدو متمهلاً يخشى على نفسه من ان يذهب بعيداً في طريق لا يرغب فيه. نلحظ احيانأً انه يمضي خطوة الى الامام، ثم يستدرك فيعود القهقرى خطوتين. ثم يسلك درباً اخرى غير عابىء بما بذل من وقت وجهد. واللافت انه قادر على استصلاح اي ارض وعرة تقوده اليها المغامرة. يكر ثم يفر ثم يعاود التجربة من جديد. لا فرق لديه اذا اجتاز المتاهة دفعة واحدة او على دفعات. ولا أهمية تذكر لديه اذا انسحب من هول المشهد طالما انه يعاود الكرة من جديد بثقة اكبر بالنفس، وبوسائل فاعلة في اختصار المسافات اذا أمكن له ذلك.
يستخدم زراقط في مغامرته الشيقة هذه "اسلحة" تقيه شر الدفاع عن نفسه، ولا يلجأ اليها بقصد الحاق الأذية. لا يظهر عدوانية حيال ما يقع عليه في دروبه الموحشة وهي قد تطول او تقصر وفقاً لما يستهدفه في تجواله السريع. ولا نلحظ ابداً انه قد يقدم على اطلاق النار اذا زلت قدمه فانكفأ او تهالك فوقع. لا يسعى، على هذا الاساس، الى وضع يده عنوة على ما لا يعتبره حقاً مكتسباً له في مجال الصورة الشعرية او المعاني البعيدة او المشاهد الداخلية التي لم تنقشع ملامحها بعد. لذلك لا يستعرض بالقوة ما لا يحصل عليه باليسر. وفي الاطار عينه، لا يقتحم النص بأصناف وضروب من المفردات والأشكال التعبيرية إثباتاً لما لا ينسجم بالضرورة مع طبيعة التوجه نحو المغامرة حيث تتجلى في مناطق عميقة في الذاكرة أو على وشك أن تصبح كذلك. الأكثر أهمية، على الأغلب، في ما قد ينطوي عليه هذا السياق، هو ألا يضطر علي زراقط الى حزم أمتعته على جناح السرعة وإقراره بوجوب المغادرة من حيث ألقت به الريح في الدروب الصعبة. على النقيض من ذلك، نراه متشبثاً بما حقق واكتسب في هذه التجربة المرهقة. وفي هذا دليل، على الأرجح، على إصراره على أن يتقدم حثيثاً نحو الرؤية المختلفة، وهو يدرك، في الوقت عينه، أن هذا لن يتحقق بقدرة الشعر على التضليل، بل بغريزة الشاعر على أن يحسن فن اللعب والمناورة مع الشعر. يقول في مقطع من نص بعنوان "عن كل الموت والذكريات": (يتساقط المطر، أما العيون فتتراقص على نغمات بعيدة. العيون حدقات تسع المطر، الموسيقى والكثير من الذكريات. ذكريات أقوى من أن تبدأ. ذكريات تتراقص، وتحكي عن عيون تسقط في الموت تباعاً).
مناخات التحول
يبدو هذا النص نموذجياً، على الأرجح، في دلالاته على الكيفية التي يصطاد بها زراقط صوره الشعرية. يمهد بمفرداته المتحولة الطريق التي يسلكها لبلوغ مسافة أبعد في الكشف عما تختزنه من مضامين دفينة. المطر ينقلب نغمات ثم حدقات ثم ذكريات قبل أن تسقط العيون في الموت. إن كلاً من هذه المفدرات تخرج من نفسها الصغيرة الضيقة لتحتل مساحة أوسع في المعنى الشعري. لا تعود هي إياها أسوة بكرة الثلج المتدحرجة. غير أن الشاعر لا يفعل ذلك لاستكشاف الفضاء الداخلي لكل منها فحسب، بل يبتغي ذلك في محاولة لإيصال بعدها الداخلي الى إيحاءات أقوى.. الى الموت الذي يتربص بكل الأشياء. إنه القدر التلقائي الذي لا يهيمن فقط على مفردات العالم، بل أيضاً على صيرورة هذا النص ومساره ونهاياته. يطلق زراقط سراح كلماته من أسر الأشياء الى مناخات التحول ليعود ويسقطها دفعة واحدة في جعبة الموت. ومع ذلك لا يصطدم المعنى المتحول، في هذا النص بالحائط المسدود وإن آل الى الموت. فالزوال، في هذا الإطار، متحول كذلك بدليل ما سبقه من أجواء متحولة.
يشير هذا النص، بشكل أو بآخر، الى قلة اكتراث زراقط بما قد يؤول إليه نصه، وإن كان يميل أحياناً الى إيصال صورته الشعرية الى المأزق.. الى مكان في الذاكرة يحاصره الصمت من كل الجهات. وهو لا يستهدف بذلك التخلّص مما قد يتراءى إلينا حملاً ثقيلاً راح الشاعر يضيق به وهو يتحيّن الفرص ليقذف به بأي شكل كان خارج حدود الذاكرة المتعبة. ليس هذا، على الأرجح، ما يتطلع إليه. ولو كان الأمر كذلك، لأسرع الخطى مباشرة نحو المأزق المذكور الذي قد ينطوي على بلوغ الإيحاء الشعري شيئاً من حدوده البعيدة، أو لا ينطوي أبداً على شيء من هذا القبيل. الأهم في التقنية المستخدمة لرسم جغرافيا الصورة وهي تتجزأ، على نحو من الحركة الدائمة، أن يحافظ الشاعر على موقعه الثابت داخل التدفق الشعري. وإلا أخرج نفسه من إيقاع اللحظة الى أمكنة أخرى قد تبدو اقتراباً من فراغ محتمل.
منطقة الصمت
ومع ذلك، ينبغي التساؤل، على الأرجح، عن إحجام الشاعر عن التسلل العميق الى منطقة الصمت تلك حيث تتكثف الظلال لتنجلي الرؤية عن مدى أوسع وأبعد وأكثر شفافية للمعنى الشعري. ولربما عثرنا على إجابات محتملة عن هذا السؤال في المعادلة التي يسعى زراقط الى استثمارها وفقاً لرغبته في الابتعاد عمّا قد يحدث في نصه ثقوباً فتختل جاذبيتها وتفقد توازنها. الأغلب، في هذا الإطار، أنه لا يضع في حسبانه مسبقاً وجوب الدفع بصوره الشعرية الى حافتها القصوى خوفاً من السقوط في متاهة غامضة لا يبدو أنه يطمئن إليها. يفضل بدلاً من ذلك أن يعبّد الطريق إليها على نحو من الإمساك بزمام أموره، ثم يفسح في المجال لتدفق المعنى بأشكاله التلقائية. لا يرسم خطة جاهزة للوصول ولا يضع مسودة للبدء. والأرجح أنه يحتفظ بشيء كثير من هذا التوازن الدقيق في سائر نصوص المجموعة. وقد يعمد في مجموعات لاحقة الى تغيير هذا الأسلوب أو تطويره أو الحد منه. وهذه مسألة لا يتحكم بتفاصيلها إلا قدر الشاعر والشعر. يقول في مقطع من نص بعنوان: "حكايا سوف تأتي": (ولد الموت على رصيف أعمى. ممدّد في مهده.
رأى الموت الرصيف. أرجل تجري على الغبار. لا شيء يبقى الا السماء. الموت يرى من أسفل: لم يتبق احد كي آخذه معي، الكل ذهب.
ايقاع متحرك
يفجر الشاعر، في هذاالنص المكثف، فكرة الموت انسجاماً مع ايقاعها الداخلي الغامض. كلما ازداد الايحاء التباساً تكشفت اسرار الموت عن خبايا هي أشبه بالمشاهد التي تبعث على القشعريرة. يتوغل الشاعر في دينامية الموت باعتباره ضرباً من الزوال الابدي. يتخطى زراقط، في هذه الصورة القاتمة الحد الفاصل بين الحياة، في بعدها الواقعي، وبعد أن تتحول غباراً عندما يصبح الموت عاطلاً عن العمل لانقراض الاحياء جميعاً. يلاحظ ان الصورة الشعرية تقف عند هذا الحد باكتشاف ماهية الموت وطبيعته ووظيفته. يصل الشاعر الى تلك التخوم ثم يتراجع قليلاً او كثيراً الى الوراء وفي ظنه انه يحمي صورته الشعرية من خطر التقدم الى ما لا تحمد عقباه. يكفيه، في هذا المجال ان يلقي نظرة سريعة لكن متفحصة، على الموت وقد انجز بالكامل فعل الابادة. هل يعني ذلك، ان الشاعر لم يتجرأ على اسعاف صورته مخلفاً اياها في منطقة الصمت تلك وهي تعجز عن الصمود في تلك البؤرة المأزومة. الأرجح لا. بدليل انه لم يترك اياً من نصوصه عارياًَ ضعيفاً بين يدي الريح العاتية. صحيح انه ينسحب من المنطقة المأزومة حيث تعبث الظلال بملامحها كاملة، غير ان الصورة لا تستسلم لقدر من خارجها. تبقى متماسكة في ايقاعها المتحرك، قادرة في الوقت عينه على ان تستولد من اجوائها الايحائية ما يمكنها من الحفاظ على ديناميتها.
ولربما امكن الاعتقاد، في هذا السياق، ان زراقط يستبدل التعجل لبلوغ منظقة الصمت حيث تنكشف الصورة على احتمالاتها المختلفة، بالسير اليها، لا فرق، على الأرجح، بين هذه وتلك، طالما ان المضي نحو الظلال الصامتة يسلك الطريق المؤدية اليها. هذه تقود الى تلك والعكس صحيح ايضاً. تتوزع هذه النصوص شيئاً كثيراً من هذه وتلك. فالصورة المشحونة، منذ انطلاقتها، بنهم الوصول الى التخوم البعيدة قد تصل وان لم تفعل ذلك. الوصول هو السقوط في الموت. الايقاع المتحرك هو اختراع للحياة بأشكال أخرى.
المستقبل
الثلاثاء 18 تشرين الثاني 2008
العدد 3140
ثقافة و فنون
صفحة 20