مفردات تسرع الخطى الى حتفها ولا تموت
يخيّل الينا انها تولد من رحم الرؤية مثقلة بسنين لم تعشها بعد. تنهمك، منذ اللحظة الأولى في مغامرات استباقية، توظفها عن سابق تصور وتصميم لتتخطى ذاتها. لتختصر المسافة نحو السقوط، عن عمد، في جحيم اللغة. والأرجح انها تفعل ذلك على ايقاع النفور الدائم من الاستسلام للاستكانة، للتعب المبكر، لفتور الهمة.
والأرجح كذلك انها دائمة الخشية من هذه "المخاطر" التي قد تداهمها وهي لا تزال في منتصف الطريق. هذه ايحاءات اولية تبثها مجموعتان من النصوص صدرتا في كتاب واحد عن "دار النهضة العربية" في بيروت، للشاعر الأردني أمجد ناصر. أولاهما بعنوان "سرّ من رآك"، وكانت نشرت للمرة الأولى في العام 1944. والثانية بعنوان "مرتقى الانفاس". وقد ظهرت للمرة الأولى ايضاً في العام 1997.
زيارة الى الماضي
الكتاب، على هذا الأساس، استعادة لنصوص كانت وضعت ونشرت منذ سنوات مع اضافات يسيرة هنا وهناك. قد يعزى هذا الأمر الى اسباب تخص الشاعر وحده. فهو أدرى بما يؤثر من مخلوقاته الشعرية على مثيلاتها. قد يستبشر خيراً في بعضها ويستبعد أخرى من دائرة الاهتمام والذاكرة. هو صاحب الكلمة الفصل في هذه القضية. ومع ذلك، فان سلوكاً شعرياً كهذا كمثل قيامه بزيارة غير مفاجئة الى الماضي، من شأنه ان يثير تساؤلات غير مريبة، والأغلب موضوعية، حول هذه الالتفاتة الى زمن ينبغي ان يتحول ارثاً هاماً لأمجد ناصر.
الرؤية الشعرية، في هذا السياق، قلما تعود القهقرى. والأرجح انها قد تتنكر له، تنقلب عليه، تشمئز منه، غير انها لا تخجل منه. قد يغدو الماضي في ذاكرة الشاعر، ضيفاً ثقيلاً يفتح الباب من دون استئذان. يجلس على اول كرسي يراه بوقاحة. يتدخل في ما لم يعد يعنيه. لا يعترف أبداً بان الوقت يموت ايضاً. لا نلحظ، على الأرجح، شيئاً من هذا القبيل في الكتاب المذكور. نكتشف حقيقة أخرى، هي ان الانتقال عكس الزمن الى الماضي، يكاد يكون سفراً ممتعاً الى مستقبل الرؤية الشعرية. ولربما بدا هذا التجول بين الأزمنة هو مآل الشاعر. ولربما كذلك، يصبو الشاعر الى قراءة للماضي في ضوء حركة الحاضر الى الحد الذي يجعله ضنيناً، حتى الاستملاك، بالتفريط بجزء عزيز من ذاكرته. قد تملي عليه ظروفه التي ينبغي ان تكون لغزاً يحتكره بمفرده، العودة الى فضاءات لم ينقطع عنها في الأصل. او انه يشعر بذنب ما اقترفه ازاءها. أو انه انتقص من قيمتها فلم يمنحها في رؤيته الراهنة ما تستحق من توهج يفيض عنها.
تساؤلات مشروعة
على هذه الخلفية من التساؤلات المشروعة اذا جاز التعبير أو المزعومة، ينبغي، على الأغلب، النظر في هذه النصوص بما هي وليدة لزمن ولّى الأدبار وتوجه قسراً الى حيث تختبىء الدقائق الهاربة من سطوة الآتي الى مسرح الرؤية المتجددة. وفي اي حال، قد تبدو مجموعات تنشر، هي عينها، للمرة الثانية أو الثالثة، ضرباً من مغامرة غير محسوبة العواقب بدقة.
وذلك لأسباب مختلفة، من بينها: ان صاحبها، وقد أخذته العزة بالنفس يتوهم بأنه يفعل ذلك نتيجة لانبهار تلقائي يتملكه على حين غرة. يزعم، بدافع الامتلاء او الدهشة او الاعجاب الشديد بما ملكت يداه، انه يقع على اسرار في الذاكرة كانت مغلقه عليه وان كان هو نفسه من صنفها كذلك. يتذرع بأعذار كهذه ليحمل نفسه على الاعتقاد بأن رؤيته الشعرية قد ولدت كاملة، الى حد بعيد، وان ما يعقبها من توظيف مستجد لمضامينها لا يعدو كونه اضافات في الشكل تمليه "ضرورات" من قبيل اثبات الوجود في الساحة الشعرية. ومع ذلك، تبقى هذه الحجج من نوع الذرائع الواهية او الكاذبة، والأرجح المضللة التي تنطلي على أصحابها قاطبة من دون استثناء. مرّد ذلك على الأغلب، الى الطبيعة المخادعة للشعر وهو المحترف في اختلاق أدوات الغدر واستخدامها اولاً في عملية الايقاع بالشاعر نفسه. يتفّنن الشعر، وهو الشيطان الأكبر في ابتداع أصناف القول، في التسلل متخفياً الى المناطق المحظورة في الذاكرة ليوحي بأن ليس ثمة حاجة تذكر لاستدراجه من جديد والاستعانة بخدماته. فقد سبق له وأن وهب الكثير من دون مقابل وآن للطرفين ان يستغرقا في فترة هدوء طويلة الأمد. قد تنطلي هذه الحيلة الجهنمية على السواد الأعظم من الشعراء. ولا تنطلي، في الوقت عينه على القلة القليلة منهم. ومع ذلك، لا يقدم الشعر نفسه بالمجان. لا يعطي من دون مقابل. والأغلب انه يأخذ اضعاف ما يعطي من النزر اليسير. يشترط، بقسوة المستبد الحصول على ضريبة باهظة لقاء تبرعات قليلة أو متواضعة قد يغدقها على من يستحقها فقط. ولكن ينبغي على هؤلاء المشمولين بهذه "النعمة" النادرة ان يكونوا من طينة مختلفة، من معدن محصن، في الأساس، من الاعيب الشعر وحبائله وخبثه. ولعل المقصود بذلك ان يكون الشاعر من طينة الشعر. خبير في صناعة الغدر وممارسته. ضالع في حماية نفسه من السقوط في افخاخ الوهم المبتذل. صبور على اي قطيعة مفتعلة يتسبب بها الشعر ليحمل صاحبه على تقديم استقالته من الكتابة بذريعة انه استكمل مهمته بنجاح. والأغلب ان معادلة كهذه لا تنتهي بغالب أو مغلوب. فلا الشاعر الحق يعلن هزيمته. ولا الشعر يعلن استسلامه. الطرفان يتوافقان على تسوية معرضة للاخلال اذا ما أقدم احدهما على التمكن من الآخر. والأرجحية هنا للشعر. فهو المعروف عنه بمزاجه العنيف بالحاق الأذى المتعمد بصاحبه من دون رحمة.
الجدوى من اعادة النشر
تستولد هاتان المجموعتان اللتان ينشرهما أمجد ناصر، للمرة الثانية على التوالي، ضرباً من التساؤلات الالزامية اذا صح القول. ما هي الجدوى الحقيقية التي يسعى الشاعر الى استدراجها من جديد، من نصوص ولدت منذ سنوات غير قليلة وآن لها ان تستريح في كنف اللحظة التي استفاقت منها، بانتظار ان تبعث الى الحياة ثانية في نصوص آخرى. والأرجح ان الشعر، على نقيض سائر "الكائنات" الحية، يولد ميتاً في رحم الرؤية التي تحمل به. عمره قصير.
والأغلب يخلق بلا عمر. هذ هو قدره الظالم. لا يعيش لذاته ابداً. يخرج من نفسه الى العالم ليعيد تشكيل كل الاشياء من دون استثناء. ولأن الأمر كذلك، يستهلك قدراته بلمح البصر. يستنفد ذاته من أجل ان يحيا العالم بحلة جديدة. يمارس انتحاراً تلقائياً ما ان ينتهي من هذه المهمة. يمهد الطريق لرؤية اخرى لن تفلت من المصير عينه، من العقاب عينه الذي يلحقه الشعر بنفسه. لذا لا يقاس عمره بالزمن بل بحجم التغيير الذي يخلفه وراءه قبل ان يذهب الى حيث لا يعود ابداً.
هل تنطبق هذه التصورات الأولية على كتاب امجد ناصر بمجموعتيه المنشورتين منذ سنوات؟ نعم ولا. نعم، لأن النصوص المتضمنة في الكتاب هي استعادة، على الأغلب، لرؤية شعرية نالت قسطاً وفيراً من اعادة تركيب العالم والأشياء والكائنات على نحو غير مألوف. استشرفت الاحتمالات المختلفة التي يمكن استخدامها كمادة اولية تعيد توظيف المكان والزمان والأحداث على نحو يستولد صوراً في تجلياتها الأولى قبل ان تتحدد الاشياء بأسمائها ووقائعها ووظائفها الرتيبة المعهودة.
ومع ذلك، وفقاً لطبيعة الشعر ودوره وانحيازه الى الموت الفوري، فان هذه النصوص قد استنفدت ما جاءت من اجله. وهي تترقب انبعاثاً جديداً لن يحصل الا في رؤية مستجدة تنقلب على سابقتها، تمزقها ارباً، ليس بدافع الحقد والانتقام والالغاء، بل نتيجة لمشروع مغاير تحمله في جعبتها لانقاذ العالم من موته البطيء. قد لا تتعايش رؤية مع رؤية أخرى بسهولة. فلكل منهما اسباب الحياة والموت. ولكل منهما ايضا مشروعه في تفكيك العالم لإعادة صوغه في متاهة الحلم والكشف عن حقائقه البعيدة في عالم الظلال. ولا غرابة، والحال هذه، ان يقدم الشعر على اغتيال نفسه ما ان تسنح له الفرصة بذلك. يفعل ذلك على جناح السرعة ليموت بسرعة، لينهض بسرعة من تحت الرماد. الموت والحياة في هذا السياق وجهان لعملة واحدة هي الانطلاق مع الريح الجارفة لاقتلاع العالم من جذوره، لاطلاق رصاصة الرحمة عليه لتمكينه بعد ذلك من ان يتكون في رحم آخر في شكل آخر.
بالمثل، قد لا تنطبق هذه التصورات الأولية على نصوص الكتاب الا في حدها الأدنى، والأرجح أن أمجد ناصر يدرك، بغريزته الشعرية، هذه المفارقة على نحو لا يعرض فيه مجموعتيه لتساؤلات فظة كهذه. ولربما جاء استدراكه استباقياً في هذا السياق، بمعنى ان رؤيته الشعرية تنطوي على تشابك مرهف بين الصورة ودلالاتها اللغوية العميقة. ان اعتناءه الشديد باختيار مفرداته ومن ثم قدرته على تعريتها من قشورها الخارجية يقيم توازناً مدروساً، الى حد كبير، على هذا الصعيد.
مختارات
هنا مقتطفات من كتاب أمجد ناصر:
ولدت بهذا الاسم لتكون لك ذكرى
ترددها أمطار
طويلة
صامتة،
بهذا الاسم ليأتي اليك عابرون
سيماهم من ليلك على وجوههم
مستوحشين
خاسرين
***
نعود الى يديك لنروي اطلاعهما على الحطام
وغلبتهما على الحب
الذي تلمسينجرح فيند
جرح
الحب
الطويل
بظلال
خضراء
من
فرط
الندم
لتتلطف الأكف وهي تدفعنا بين الأعمدة
قانطين من الوصول الى الثمرة المضاءة
بوهج الأعماق.
***
وحدك
في النور العازل
الذي يمشي فيه العابر فلا يرى
مندفعاً بظهري قدماً
كانت كمشة تراب تثقل جيبي
***
لن نعرف كم غفونا هناك
تحت ظلال وموشنا
وكم دارت بنا الأرض
في كتب تداولها مقتنون عديدون
لكننا رجعنا اخف ما نكون
ولم نجد من تركناهم على الأبراج
يصدون رياحاً من سبع جهات
المستقبل - الاربعاء 2 أيلول 2009