من الرؤية الكلية للفضاء الشعري الى الرؤية المقتطفة للمفردة الواحدة، يختبر الياس لحود أدواته في الكشف عمّا تخفيه اللغة وراء جدران المشهد. ولعل في هذا الانتقال من العام الى الخاص، من الكل الى الجزء، إذا جاز التعبير، ضرب من إحداث بلبلة في الأولويات. أو لعله إنحياز الى أولويات محددة على حساب أخرى. قد يغدو النص الشعري، في هذا السياق، حالة هلامية مائعة ما لم يكن مشدود العصب الى المفردة. أو أنه قد يتحول، بشكل أو بآخر، الى كتل مفككة من الصور تفتقر الى الذاكرة. المفردة هي النواة التي ترمي بثقلها على النص. والأرجح أنها هي عينها النص المفترض الذي يبحث عن حصته المستحقة له في إعادة تشكيل العالم. قد تبدو هذه التصورات الأولية، أو شيء من هذا القبيل، من التداعيات المحتملة التي يوحي بها الإصدار الأحدث للشاعر الياس لحود بعنوان "الأعمال الشعرية" في مجلدين عن "دار الفارابي" في بيروت. يقع المجلدان في ألف صفحة وأكثر يتخلل كليهما مقتطفات وفيرة من المقالات النقدية التي تناولت هذه النصوص عندما صدرت للمرة الأولى منذ فترات متباعدة. والأغلب ان لحود قد تعمّد بثها هنا وهناك في الجزءين المشار اليهما بغية ان يستبق، على الأرجح، ما قد تخلّفه هذه النصوص من آراء وانطباعات. أو أنه قد آثر ان يلجأ الى اقحام كهذا على نحو من قراءة مسبقة للنصوص قد لا تشكل إضافة نوعية في هذا المجال.
جمهرة غفيرة من النصوص يصعب حصرها للاستدلال بها عليها، يودعها الشاعر الدفتين الانيقتين لهذين المجلدين. ولعل ما يُسمّى الأعمال الشعرية، أو الأعمال الشعرية الكاملة، أو مختارات من الأعمال الشعرية، وسوى ذلك من المصطلحات والعناوين، أمر من شأنه أن يرضي غرور الشاعر بما هو أجدر به من غيره. يحق للشاعر ان يزهو طرباً بحفرياته في اللغة وبصوره التي يعيد بها تغيير وجه العالم بقسماته الرتيبة. ومع ذلك، ينبغي التساؤل، على الأرجح، عن الجدوى المدهشة من إقدام الشعراء على إلقاء نتاجهم أثناء حياتهم وفي عزّها دفعة واحدة في بوتقة واحدة. وكأن النصوص قد وُضعت معاً في غفلة من الزمان والمكان. أو كأنها باتت من المقتنيات التي ينبغي إيداعها في مثواها الأخير.
فلا يعود ثمة فرق استثنائي بين نص ونص. بين رؤية ورؤية. بين مفردة وأخرى. هذه من الطبائع الكامنة في النصوص المحشورة جنباً الى جنب.
يختنق النص بزميله. يصادر فضاءه. يضيّق عليه الأمكنة. يقطع عنه الهواء. وقد يسعى الى مزاحمته ليستولي على مكانه. ليزعم أنه وحده ذو زمان متفرد. ومع ذلك، يفترض الشاعر، أو يخيّل إليه ان لا بديل من ذلك. وقد يبدو محقاً في ما يذهب إليه باعتبار أنه تمكن، في نهاية المطاف، من أن يجمع شتاته الشعري في مكان واحد يطمئن إليه. يأنس به في جغرافيا متقاربة هي القدر الجديد للنصوص.
مؤونة المفردة
آراء هي من جنس الانطباعات غالباً ما تبعث على إثارتها الأعمال الكاملة أو ما لفّ لفها. ولأنها كذلك، على الأغلب، لا مناص من ان يُستلّ منها النص الشعري وكأنه قد وُلد للتو في فضاء شاسع من حرية الحركة وانكشاف الرؤية على ذاتها، وعلى اللغة، وعلى العالم. ولأن الأمر كذلك أيضاً، فإن العودة الى نصّ بعينه دون سواه، يشكل، في آن، اكتشافاً جديداً لفرادته من الداخل. واستعادة حيوية للرؤية التي تسري في مسامه. والأهم إعادة الاعتبار الى ما ينطوي عليه من ذاكرة لا تزال تتوغل عميقاً في الرؤية التي تحمل اللغة على الانتقال في التعبير من بعد الى آخر. شيء كثير من هذه الايحاءات في تلك الكثرة الكثيرة المتناثرة من نصوص الياس لحود. يقاربها صاحبها من زاوية عريضة للغاية، تتمثل في استسلام مثير للدهشة لمنظومة واسعة من المفردات التي تتشظى، من دون تلكؤ، على الأغلب، لمنظومة أخرى من المفردات المستولدة منها. الملاحظ ان للمفردة الواحدة في معظم نصوص المجلدين، مؤونة وافية من مخزون الذاكرة يفسح المجال أمامها لتنتقل على الفور الى مفردة أخرى تنبثق منها. ما أن تولد المفردة في النص، حتى لا تعود هي إياها. تتقمّص شخصية أخرى تستدرجها إليه من مفردة أخرى. على هذا الأساس المحتمل، لا تتقوقع المفردة حول نفسها. لا تغتر بذاتها. لا تُعجب بكينونتها طويلاً. ولا تسترسل في أنانيتها. يمهد لها الشاعر الأجواء المناسبة لتخرج من ذاتها وهي تتطلع، في داخلها، لترتدي ذاتاً جديدة. لتقتبس منها ما لم يكن في حوزتها. ليست المفردة في نصوص لحود أنانية بمعنى الانكفاء على ما تمتلكه من ايحاءات لحظة خروجها الى النص. غير أنها أنانية بما يكفي لتبتكر ذاتاً جديدة لذاتها لا تتوافر لها إلا في ما تلتقطه من مفردات أخرى على طريق الانتقال بالنص من معنى الى آخر.
يبدو لحود مولعاً بهذه التقنية بالقدر الذي تسير به المفردة على دروب المتاهة. لا يتوارى عن التعبير عن دهشته بما يقع عليه من تجليات ناتجة عن الرؤيا المتحولة في لعبة المفردات. على نقيض ذلك، كلما استدرجته المفردات الى جاذبيتها، انصاع لها. وذهب في اتجاهها من دون تردد. ولأنه دأب على ان يسلك هذا المسلك في الأكثرية الساحقة من نصوصه، باتت المفردة لديه مركز الاستقطاب، على الأرجح، الذي يدور حوله النص. في الوقت عينه، باتت المفردة نقطة الجاذبية التي تشدّ إليها شتات النص ومكونات الرؤية. وقد يُثار تساؤل، في هذا السياق، حول ماهية النص لدى لحود وصيرورته وهويته أيضاً في الإطار الشعري العام إذا ما استبعدت المفردة من هذا التصور.
أو إذا ما قوربت النصوص من زاوية الرؤية الكلية للحالة الشعرية بعيداً عن الدور الذي تؤديه المفردة في هذا المجال. يبدو، وفقاً للتصور المشار إليه أعلاه ان لحود لا يعوّل كثيراً على الرؤية الشعرية المتدفقة، ككل، في فضاء المعنى، بقدر ما يميل الى الابتعاد عن هذه الرؤية والاقتراب من المفردة. يظهر هذا الأسلوب بوضوح حتى في النصوص التي نُشرت في البدايات الأولى، في السبعينات الماضية وفي الثمانينات أيضاً. ولعله لا يبدي اكتراثاً ملحوظاً للرؤية الشعرية في بنيتها الكلية. والمقصود بذلك، الرؤية التي تسعى الى اختطاف المعنى الى ظلاله القريبة أو البعيدة. والنتيجة، وفقاً لهذه التصورات، أن لا رؤية كلية تحوم حول النص. وبالمثل لا ضباب منبعثاً من هذه الرؤية يفتح لها المسالك ويزيل من أمامها المعوقات والحواجز من أجل ان تنتقل بسلاسة الى ظل الرؤية، الى ظلال المعنى الى تلك المنطقة الصامتة في اللغة. بدلاً من ذلك، يتوجه الشاعر الى المفردة. يحفر في ذاكرتها قدر ما يستطيع، وقدر ما تمكنه من ذلك أدوات الحفر لديه من أجل ان يستبدل الرؤية بالمفردة. وظل الرؤية بظل المفردة. ودلالات الرؤية بدلالات المفردة.
الرؤية الكلية والمفردات
ومع ذلك، هل ما يشير الى انسجام من نوع خاص بين الرؤية الشعرية بطبيعتها الكلية من جهة، والمفردات التي يتكوّن منها النص، من جهة أخرى؟
الأغلب، أن الرؤية، في هذا الإطار، لا تتكوّن بالضرورة من الدلالات والإيحاءات والصور العائدة إليها. لا رؤية موحّدة في معظم النصوص. رؤى متعددة، مختلفة، متفاوتة في الدلالة والمشهد والتأثير. ولربما بدت، بين نص وآخر، أقرب الى التفكك منها الى التوحد، من دون أن تفقد صدقيتها وأهليتها وتألقها أحياناً كثيرة. قد يعزى هذا التشرذم وضعف الانسجام في الرؤية الشعرية الى تعدّد المفردات وتكاثرها في النص الواحد، وتعاقبها بوتيرة متسارعة، إضافة الى استقلالية إحداها عن الأخرى. كل منها يشكل، بدرجة أو بأخرى، رؤية شعرية متكاملة أو متناقصة. لا يصاب النص، والحال هذه، بنكسات مؤلمة، أو مجحفة، أو قاسية نتيجة لهذا التكامل أو التناقص المحتملين. طالما أن الشاعر يستهدف هذه الميزة في حد ذاتها. نصّ واحد تتخلله رؤى متعددة، ومع ذلك يبدو متماسكاً الى حد كبير على الرغم من تراخي أواصر الائتلاف التي تجمع بين مكوّناته المختلفة. يجتهد الشاعر في أن يستخدم المفردة تعويضاً مناسباً لما يمكن اعتباره خللاً أو تفككاً على نحو افتراضي. يبدأ النص بالمفردة، ويشق طريقه في المتاهة الشعرية بالمفردة، وينتهي بالمفردة. ولعلّه لا ينتهي إذا ما استمرت المفردة في الانفتاح على ذاكرتها وذاكرة غيرها، وتوقها الى التعبير عن دلالاتها بأن تتقمص غيرها وتتجسد في هذا الغير تمهيداً لاستدراج غيرها إليها. أو الارتضاء بأن تُستدرج هي الى غيرها.
رؤى مفككة منسجمة
يبدو النص مفككاً للوهلة الأولى، ولعله كذلك، بشكل أو بآخر، بدليل أن الشاعر ما أن يقفز من مفردة الى أخرى، حتى يحجم عن الاهتمام بالأولى وكأنها لم تكن. ينصرف الى إيلاء المفردة المتعاقبة الاهتمام الذي يجعلها قادرة على استجلاب مفردة ثالثة. وهكذا دواليك. رؤى مفككة ينسج لحود بخيوطها النصوص المكدسة في المجلدين. غير أنها، على تفككها لا تحيل النص خراباً مهشماً.
يحاول لحود ألاّ يضيع بوصلة النص في دوامة الرؤى المتهافتة على النصوص. يدرس حساباته جيداً مرجحاً في هذا كفة الربح على الخسارة. نصّ مفكك على هذا الغرار لا يعيد إليه اللحمة إلا مفردات، كل منها منفتح على ذاكرته وعلى ذاكرة مفردات أخرى. كلما أحسّ الشاعر أن المفردة قد لحقها الإرهاق أو الضجر، أو الاستنزاف، أو حتى الاختناق، أتبعها بأخرى على الفور. المفردة تنقذ أختها من الموت. ثم تأتي مفردة ثالثة لتنقذها هي من المصير المحتوم. يحفر الشاعر عميقاً وسريعاً في المفردة الواحدة. ولا يفعل الشيء عينه في الرؤية الكلية للنص. الرؤية النابعة من المفردة أهم لديه من الرؤية النابعة من الرؤية. المفردة، في هذا الإطار، قد تؤول الى الرؤية المحتملة، والعكس ليس صحيحاً. كل الدروب في النص تؤدي الى المفردة حتى لو أسفر ذلك عن تجزئة للرؤية الواحدة. هل يبقى النص واحداً موحداً في سياق من تعدد الرؤى الشعرية وتشرذمها؟ الأغلب لا. ولكن على نحو يمكن القول فيه إن النص الواحد متعدد الأوجه والنصوص، يستوعب رؤى كثيرة متعددة الأوجه والدلالات. ليس ضرورياً والحال هذه أن تصطدم رؤية بأخرى. أن تلتقي بها مباشرة أو مداورة، أن تحاكيها، أن تتطلع إليها. لا توحي أكثرية النصوص بشيء من هذا القبيل. بالمثل، فإن تناثر المفردات بالوتيرة الملحوظة في النصوص، لا يؤدي بالضرورة، الى أن تشكل جميعاً ضرباً من القطع الفسيفسائية في لوحة واحدة. الأغلب أن لكل مفردة رؤيتها، ولكل منها ظلالها، ولكل منها استقلالها الخاص بها. ما أن تتحول المفردة مفردة أخرى حتى تستنشق هواءها هي لا هواء غيرها. النص، في هذه الأجواء المفككة، المتنافرة، المتشابكة، المتناقضة أحياناً، المنسجمة أحياناً أخرى، ينقلب نصوصاً في بوتقة واحدة. قد يجمعها النص باعتباره مكاناً مفترضاً للصور ودلالاتها، وقد يفرق في ما بينها أزمنة الرؤية المنبثقة من كل مفردة على حدة. نصوص متفرقة هو النص الواحد. ورؤى متفرقة هي الرؤية الواحدة. نص حمّال أوجه يميل الى الكثرة وإن بدا أنه يسعى الى الوحدة. ومع ذلك، فإن النص يبحث عن ظلاله في هذا التنوع. نص افتراضي مثير للجدل والمخيلة.
مختارات من الأعمال الشعرية
بوق مقلوب
قلبَ البوق ونفخ فيه
وفي مكبّر للصوت
أعدم غابة
أخرس مدينة
وسحب جميع ألسنة الضوء...
ضوّأ جميع ألسنة العصافير
قلبَ البوق
وركض فيه
من آخر البيت الى آخر البيت
من أول الشعر الى آخر البحر
من أول الصوت الصامت
الى آخره
في البوق
هكذا عاش طافياً
على أوراق "نوتا"
وحزمة بيارق حمراء..
وبواريد
وفي أسفل الشوكة (أسفل شجرة العائلة)
علّق البوق وصعد منه
كما تنزل الحيّة من جلدها الماسي
ومشى... إلخ.
نقطة التعجّب
مُعلّق
بين الخيبة والخيطان الشجرية
مُنتشر
بين الساحل والنافذة
مُتدلّ كشاقول الإجاصة
يجمع أزهار البابونج نبضة نبضة
يأخذ كاساً من حنطة والده
يشربها.. مرتجفاً
يمسك بالكأس (يقذفها فزّاعة في طاحونة الهوّة)
يقلع حذاءه.. يغرف حنطة يُطعم العصافير المقيمة
أما العصافير المهاجرة فتراه وحيداً تحت قبّعة الظهيرة
كنقطة التعجّب!
ملحق عشاء
] مساء
يتعشيان ديكاً ويصيحان
في الخارج
تتسكّع قنبلة كسولة
في الداخل
تُقطع شرايين الكهرباء بلحظة يصلعان ويبردان
... ويبدأ البحث عن "طربوش القنديل"[
مشهد من القصيدة
فتح الباب ولم يُبصر أحداً..
فتح الباب ولم يسمع أحداً
فتح النافذة البكماء ولم يبصر أحداً
كان الشارع مسدوداً بالظلمة..
سمع البحر يقول بصمت من أسكتني
أبصر بين يديه رأساً مقطوعاً وخليج
أقفل فكّيه بيديه وراح يصيح بصمت:
من يُبصرني
وأنا في قبضة قنديل البحر
وفي أشداق الحوت
كيف أموت.. أموت.. أموت
- فتح الباب ولم يُبصر أحداً...
- فتح النافذة الصمّاء.. ولم يسمع أحداً.
أغنية خلف مقبرة جماعية
ذرفوا عليه بقسوة مطر الرصاص
وودّعوه في أغانيهم ورقصات اليباب
أعطوه أرقام الموانئ والشوارع.. والعيون
زرعوه في عَلَم من النيران
غنّى من شبابيك المدينة
من مفارقه وأفران الأزقّة
واستردّ دماءه
غنّى لمقصلة التراب
لمسوه في عرق الثياب
غنّى لكل جميلة في الحيّ حين رأوه يسكن في العيون
ولدت حبيبته ربيعاً ميّتاً في كل باب
المستقبل
2 ابريل 2012