إثنا عشر نصاً، معظمها مطوّل، تنفتح بتلقائية على الذاكرة المثقلة أحياناً بتداعيات التجربة. تراوح بين الإقامة الدائمة في الحلم. والعبور السريع بمحاذاة لحظات قد تبدو أكثر إشراقاً من مثيلتها التي تخيّم على النصوص المسهبة. وفي كلتا الحالتين يجتهد الشاعر بشير البكر في كتابه الصادر عن "دار النهضة العربية"، في بيروت، بعنوان "ليس من أجل الموناليزا"، في أن يستدرج أحداثاً وذكريات ومشاهد الى حيث يعيد تشكيلها على نحو مغاير.
الملاحظ، في هذه المعادلة، أن الشاعر يترقّب صوره ومشاهده من حيث يشعر بالإطمئنان والسكينة. والمقصود بذلك، منطقة الصمت التي يستهدف استكشافها في النصوص جميعاً. يقترب منها حثيثاً، أحياناً، ثم نراه يتلمسها من البعيد أحياناً أخرى. وفي مرات أخرى، يتكبد المشاق قبل أن يطأ الدرب الأسلم لبلوغها.
يبدو الصمت الذي يضفي عليه الشاعر دلالات مختلفة، من بينها الظلال والنعاس والغياب، مدعاة للرؤية الأوضح، ولكن الأصعب والأرهق والأكثر حزناً: (غير أني على وشك الغياب، كأني لست هنا منذ زمن طويل). والملاحظ كذلك أن تهافته على أمكنة الصمت القابعة في الذاكرة النائية، مرده، على الأرجح، الى إحساسه بضياع تلك المشاهدات والصور التي يبتغي استردادها لتشكيلها من جديد. فيتقمّص شخصيتها وهي تتفلت من ضوابط الحضور الى عالم الغياب.
يتحول مثلها ضرباً من الغياب تتقاذفه الأقدار الغامضة. يصبح من نسيجها، على الأغلب في رحلة تستهدف الكشف عن احتمالات الذاكرة واستخدامها جيداً لتغليب الرؤية الذاتية على الواقع الموضوعي: (في أيام ليست سوى الآحاد التي تمضي، كأن أحداً لا يكترث في حين يجرفني التيار، ويبقى جوعي يمد لسانه للعابرات...).
غير أن للغياب المتفاقم في النصوص على إيقاع الانسحاب التلقائي من جاذبية الرؤية المجردة الى ميثلتها الداخلية، وظيفة أخرى من شأنها أن تحدّد أجواء الكتاب وأبعاده ومناخاته. والأرجح أننا نجد لهذه المسألة الهامة تعبيراً حيوياً في الكيفية التي يتوخاها الشاعر في الاقتراب حثيثاً من بؤرة الظلال. هناك في تلك المساحة الشاسعة من المتاهات المتداخلة، يصبح بمقدوره التدخل مباشرة في الطبيعة التكوينية لعناصر الصورة الشعرية. يميتها، يحييها، يقتبس منها ما يتلاءم مع مجرى الحلم، يقتطع منها ما لا يتطابق مع الرؤية. يفعل ذلك بشروط مردها الى الحالة المتجددة لإحساسه ببناء الأشياء من حوله أو نسفها من جذورها. والأغلب، وفقاً لفضاءات النصوص التي ينبثق بعضها من بعضها الآخر، فإن السياق الشعري الذي ينتظم النصوص، يكاد لا يستقيم على النحو الذي نلحظه، من دون الطمأنينة العميقة لمنطقة الظلال. يبدو الشاعر، في هذا الإطار مرتاحاً لهذه المعادلة وجعلها أداة مرهفة لإعادة تشكيل حلمه من جهة، واستيعاب اللبس الناتج عن تشابك المتاهات وفك ألغازها من جهة أخرى: (الى ما لا نهاية أنا الساكن في ظمأ، وأنت في المشهد الآخر الذي ليس لغيري، منذ أوان بعيد نهاية الطريق الذي أسلكه وحدي. من دونك لن تأتي الأنوار في المنامات).
ومع ذلك، يتساءل الشاعر ونتساءل معه: هل أيقن أنه يسلك الطريق الأمثل لبلوغ أرصفة الغياب؟ الأرجح أن ثمة كراً وفراً في هذا السياق. يتوخى أحياناً التوغل في اللغة، ساعياً الى الكشف عن احتمالاتها بعد إزالة الغبار عنها، وأحياناً، نراه يفعل ذلك من خلال الكشف عن الإيحاءات المختلفة المتضمنة في المفردة الواحدة وصولاً الى تلمس الطريق نحو منطقة السكينة. وأحياناً ثالثة، نراه وهو يجرّد الكلمات من أرديتها المألوفة، من ألوانها وأشكالها، مما علق بها من إضافات ليست من صلب طبيعتها الأولى. وهو، في كل هذا، يختبر جدوى الحضور والغياب من خلال إصراره على اكتشاف العلاقة بين اللغة والعالم، بين المفردة الواحدة ومعانيها، بين الرؤية ودلالاتها، بين الحلم وتجلياته على ضفاف الذاكرة وفي قعرها، أو في ما قد تؤول إليه من أشكال لا تفرج عن نفسها بسهولة. والأرجح أنها لن تفعل ذلك أبداً وقد لاحت المتاهة من البعيد كالسراب الذي يتراءى كاذباً فإذا به ضرب من الحيرة والخداع. وفي أي حال، يبدو الطريق الى المتاهة، الى الظلال، الى الغياب، متلألئاً أكثر من هذه الثلاثة، لسبب بسيط هو أنه وحده يشكل الرؤية الشعرية وهي تولد وتموت لتولد وتموت.
مختارات
الآتي مقتبسات من نصوص الكتاب..
شجرة البياض
تهتز
في صباح
لا تندّ عنه سوى التنهدات،
جريها يوسع المسافات
مثل جدول
في منتصف الليل،
يتهادى
كما خفق الأجنحة،
شارد كإيقاع
قلب في الحنين،
تهزه يد الصداقة،
أقوى من خمرة
تتبرج بين عاشقين.
صار عليّ أن أشتاق
في الوهم،
للظل في اللوحة
والألوان.
مرآة نفسي المحطمة
في مهرجان الأسرار
التي تلح بالألم
ولا تبرح.
بين الضوء والليل
حب يرمي تاريخه
قلق في السعادات الضائعة،
يتقدم في أدراج الكلام
ولا يصل.
المستقبل
الاربعاء 1 تموز 2009