بين «الخاتمة» التي استهل بها الشاعر عقل العويط ديوانه الجديد «أنجيل شخصي» (دار النهار والدار العربية للعلوم – ناشرون) و «البداية» التي اختتم بها الديوان حال من «التطابق» الذي لا يداني مفهوم الطباق «الموضوعاتي» بقدر ما يقترب من مبدأ «التراسل» ولكن ليس بين الحواس، كما قال به بودلير، بل بين الانتهاء والبدء اللذين يكمل واحدهما الآخر انطلاقاً من الجوهر الكامن فيهما. ولئن سمّى الشاعر الخاتمة في المطلع «مانيفست لآخر الكون»، فهو سمّى البداية في المختتم «مانيفست لأول الكون» وقد استبق هذه العبارة بحرف جر هو «من» وفي قصده أن هذا المانيفست التكويني هو جزء من مانيفست آخر لا يمكن حصره أو استنفاده. إلا أن هذين المانيفستين (أو البيانين) يلتقيان حول ما يمكن تسميته بحسب مقولة الفيلسوف الفرنسي موريس بلانشو «كتابة الكارثة».
وفي «النص» الأول الذي يمثل الخاتمة تلوح ملامح «الكاووس» أو السديم الذي يدفع الشاعر الى الاعتراف جهاراً بأن «ليس من بدء إنما غبار». ويمضي في هذه الحال السديمية الى ذروتها حتى ليعترف أيضاً بأنه هو «كيمياء الغبار». وفي وقفة «أبوكاليبسية» تذكّر على رغم سوداويتها بـ «رؤيا» القديس يوحنا يسأل الشاعر: «من أين جيء بهذا الغبار كله؟» ثم لا يلبث أن يوحّد بين رؤيا يوحنا ومراثي إرميا وقد هاله ما يرى من «علامات» الأزمنة فيمعن في رثاء العالم معتمداً ما يسميه «تدبيراً شعرياً لهندسة اليأس الكوني بالكلمات» قائلاً: «لن يكون ثمة حاجة الى الفصول ولن تمطر. لن تأتي الشمس لتجفف المآقي ولن يكون صيف ليرفع عن الشجر أعباء الثمر... سيكون العالي خفيضاً... وسيكون هناك النوم الى أن لا يكون من ضرورة لاستيقاظ». ويستعير الشاعر مقولة عودة المسيح ليقول على لسانه: «سأعدل عن المجيء مرّة أخرى». ثم يتلبس الشخصية المتنبئة السلبية معلناً أن الوصايا «إنما لتُنقض» وأن ثمة جهنماً «ولا سماء». ويستعير أيضاً العنف المطهّر الذي عرف به الناصري ليقول: «أتنبأ لأنقض ليس لأهدي».
لكن النقض هنا لن يكون إلا نقض الشاعر والهدي هدي العاشق: «ليس عندي سوى الشعر لأنقض وليس ليس سوى الحب لأهدي». ولئن كان الشاعر يخفي «صوت العدم» كما يعبر فهو بـ «الشعر يضربه» وبـ «ظمأ الحب» والموت والحياة، الموت الذي هو الحياة والحياة التي هي الموت بحسب قوله أيضاً. وهنا يستثني الشاعر «العدم» القائم خارج منزلتي الموت والحياة.
قد يبدو عنوان الديوان «أنجيل شخصي» غريباً كل الغرابة وربما مستهجناً إذا تمت قراءته على ضوء «البشارة» التي تمثل أحد مرادفات الانجيل. لكن النصوص أو القصائد نفسها توضح معاني هذا الانجيل الشخصي الذي ليس سوى انجيل الشعر ممزوجاً بالحب. إنه الانجيل الذي يحمل بشارة أخرى أو الذي «يعارض» البشارة الاولى هاتكاً المحرمات التي طالما كانت حجر عثرة بين الانسان وذاته، بين الانسان وبارئه. على أن الهتك يجب ألا يفهم في معنى الجحود التام بل في معنى المواجهة الأليمة. «هذا انجيل القصائد» يقول الشاعر ثم يضيف: «هذا هو شعري لأحظى بما ليس له يقين بدء وبما ليس له انتهاء». لعل الشاعر يقول عبر الترميز ما لا يؤثر أن يجهر به: هذه هي بشارتي... وليس الانجيل الشخصي بنظره إلا ذاك الانجيل الذي يكتبه «كي يربي القصائد». والتربية هنا لا تعني أن يجعل لها مسلكاً إتيكياً أو أخلاقياً بل ان يحمّلها مهمة البشارة، البشارة الخالية من أي رسالة معلنة.
غير أن «جمال الخراب» الذي يحضر في نصوص الديوان يقابله ما يمكن أن يُسمى جمال البناء أو الجمال بذاته أو الجمال بروحه، أي الجمال الذي يتخطى تخوم الشكل لينفذ الى الجوهر. إنه الجمال الذي تصنعه الطفولة المستعادة والحب والحلم. وقد تمثل الطفولة الحال الفردوسية التي يكاد العالم أن يفقدها، طفولة مشرعة على عالم نقي، طبيعي وروحاني: «هناك ما يكفي من عشب الدروب، من حقول العنب والذكريات، من الظلال، من خدوش الطفولة». هذه العناصر قادرة فعلاً على مواجهة الخراب والجحيم والعتمة «البرانية»، وعلى الانتصار عليهما مجازاً أو ظرفياً. وإن كان الشاعر يمتدح «الدجنة المدلهمة» على طريقة نوفاليس أو يوحنا الصليب انطلاقاً من كونها الجزء الخفي من النور أو الوجه الآخر لليل، فهو يميّز بينها وبين العتمة العابرة التي يمحوها «سطوع الطفولة» أو الرغبة التي هي الحب في أبعاده كافة. فالعينان اللتان لا تبصران هما اللتان تهديان هذا الكائن، كما يعبّر، أما العينان اللتان تبصران فلا تقودان إلا الى الخارج الذي يعني – في ما يعني – الخراب والمأساة والكارثة.
لا يغيب ظل المرأة عن هذا «الانجيل الشخصي» مثلما لم يغب عن شعر عقل العويط سابقاً. ظل المرأة لا يعني حضورها الطيفي فقط بل حضورها العجائبي أيضاً. فالطيف هو من لحم ودم مثلما هو من رغبة وشوق، من نار ونور... إنها المرأة التي لا يكتفي الشاعر بصفتها التاريخية كحبيبة كما قالت الكتب، إنها المراة التي أكثر من حبيبة وأعمق وأرحب وأشد احتراقاً وأشد تجلياً. إنها جسد «يرتديه» الشاعر و «يخلعه»، بل هي ماء وخبز، «يشربها» و «يلتهمها» متلذذاً بعطشه وجوعه كما يقول. وليس مستغرباً أن يحس الشاعر حيالها بالعجز عن حبّها أولاً، وعن تحمل وطأة هذا الحب: «لم أعشق مَن يُعشق قدر ما يستحق وقدر ما يجب أن يُنعم عليّ وقدر ما استطيع». إنه الحب في عدم اكتماله أو في اكتماله المتوهم يمثله الجسد الذي «يشعر بالحبر ولا يبحث عن اكتمال المعنى». إنها الرغبة أيضاً تلك التي يسائل الشاعر المرأة عنها واصفاً إياها بـ «الورقة البيضاء»، رغبة امرأة «تتحقق وتظل رغبة» في الحين عينه، ولعلها شبيهة الرغبة التي تحدّث رينه شار عن استحالتها لأنها «رغبة في رغبة»، ولعلها أيضاً شبيهة الجسد المعشوق الذي قال فيه أنسي الحاج «الجسد الذي لا يتجسد».
لا يكون الشاعر إلا عاشقاً، هذا ما يسعى عقل العويط الى المجاهرة به والى تحقيقه، عاشقاً بالحب وعاشقاً باللغة وعاشقاً بالرغبة الأشبه بـ بـ «الهاوية». الشاعر العاشق لا يتوانى عن مخاطبة المعشوقة قائلاً: «أحب أن أكون هنيهة فراشك» معلناً اكتفاءه بتلك اللحظة الضئيلة التي تحمله الى الجوهر المفتقد، جوهر الحب مشفوعاً باللذة والموت أو الامحاء. هل ثمة ما هو أقصر من «هنيهة فراش»؟ العاشق أيضاً «يتزوج امرأة لينجبها» يقول الشاعر، ينجبها بالمجاز أو باللحم والدم، يصبح أمها لا أباها، لأن العاشق يحمل حمْل الأم. وفي نص أو قصيدة تشبه «حواراًَ بين رجل وامرأة» تبلغ المسارّة بين العاشقين أقصى أحوال الشغف فيقول لها: «سأنامكِ» وتجيبه: «سأنامك». لا تكمن قوة هذين الفعلين في خرقهما قاعدة الفعل اللازم وفي تعديته بل في كيمياء الحب التي يفيضان بها والتي جعلت فعل الخرق فعلاً رغبوياً أو عشقياً. والشاعر أصلاً يمارس الكثير من هذا الخرق أو الهتك اللغوي، مقطّعاً أوصال اللغة بشفافية ووعي، فإذا الجُمَل التي تبدو ناقصة نحوياً تكتمل افتراضاً. والأمثلة على هذه اللعبة الخطرة كثيرة ومنها مثلاً: «وسوف ها هنا الحياة... وسوف لغة ليس إلا... وسوف المياه والرأس في المياه... وسوف الجنين...».
إنها اللغة التي تكتمل في نقصانها، اللغة التي لا تكون إلا في استحالتها. لكن الشاعر لن يني يكتب قصائد حب صرف أو «مقاطع» حب صرف (إذا تذكّرنا رولان بارت) تكتمل بنفسها: «أداري عينيك لئلا ينظروني فيهما. أنظرني لا أرى سواهما». أو: «في عز الليل تقفين وراء نافذة لتسألي عما تفعله شجرة في ليل عندما تأوي غابة الى نوم مفترض». ويكتب أيضاً مستوحياً اسطورة «الأنا» المتعددة بحسب فرناندو بيسوا قائلاً: «كلما احببتك كنت تفوزين بواحد مني. كم أحبك عندما أصير لا أحد». هذه القصيدة القصيرة جداً والبديعة حقاً تجعل التعدد تعدداً بالحب وتجعل الكثرة كثرة بالعشق. أما صفة «اللاأحد» فهي تدل هنا على امّحاق العاشق في المعشوق وعلى موته في المعنى الصوفي والرغبوي.
لا يخلو ديوان عقل العويط من بضعة أنفاس رثائية، ولعل مرثيته المهداة الى سمير قصير من أجمل ما كُتب عنه شعراً، وكذلك تلك المرثية التي يتوجه بها الى من يسميها «جارة الأخت» وكأنها في منزلة «الأخت» الغائبة وقد استهلها قائلاً: «دخلت امرأة غرفة النوم لتريح عينيها فبقيت فيهما الى الأبد». وعن الكاتب القتيل المفتون بالجمال والمعرفة يقول: «أهو وجهك محمولاً على مجهول وضوء كمن على شمس أم على سحاب أم ذلك من شدة البصر الذي ليس للعين؟».
أما اللافت في ديوان «أنجيل شخصي» فهو هدم الشاعر الجدار القائم بين القصيدة والنص، فلا هو يكتب قصيدة ولا هو يكتب نصاً، بل يكتب قصيدته أو نصه، متخطياً المعايير الرائجة والثابتة التي طالما حملتها قصيدة النثر أو النص المفتوح. يكتب عقل العويط بشغف هو الوعي نفسه، وبقوة هي الشفافية نفسها وباندفاق هو الكثافة نفسها... وقد يسأل سائل: من أين يأتي الشاعر بهذه العناصر كلها ليكتب ما يكتب، خائضاً في جحيم اللغة وفردوسها في آن؟
الحياة
11/12/2008