في منتصف الثمانينات من القرن المنصرم قدّم الشاعر أدونيس مختارات من نصوص للشاعر والمفكر الفرنسي روجيه مونييه في مجلة «مواقف». كانت المرة الأولى يترجم فيها الى العربية وربما الأخيرة. فهذا الشاعر الذي يعيش حالاً من العزلة - أو النسك - في فرنسا لم يسع اصلاً الى عالم الشهرة أو الريادة على رغم فرادة تجربته التي تجمع بين الشعر والفلسفة، بين الحدس والتأمل. وقد دأبت دور نشر فرنسية راقية منذ أعوام على نشر كتبه ومنها على سبيل المثل: غاليمار، أرفويان، فاتا مورغانا، جوزي كورتي وسواها. وكان أشرف طوال سنوات على سلسلة «الفضاء الداخلي» التي أصدرتها دار فايار ونشر فيها نصوصاً من حضارات شتى، كالبوذية والهندوسية والطاوية والإسلام، عطفاً على نصوص من الصوفية الغربية.
في الخامسة والثمانين من عمره، لكنه ما برح يكتب بنزق ممزوج بالشفافية، جامعاً كعادته بين اللحظة الشعرية واللحظة الفلسفية. ولعل كتابه الجديد «المياه العميقة» (دار أرفويان، باريس) يشهد على مراسه في اصطياد «الشذرة» التي يمكن تسميتها لديه بالقصيدة حيناً واللمعة حيناً والحكمة القائمة على التأمل والحدس في آن واحد. ولا غرابة ان تكون «الكتابة المشذّرة» الطريقة التي اتبعها في معظم ما كتب من نصوص، فهو عمل على الفيلسوف الإغريقي هيراقليط وترجمه، مثلما ترجم المتصوف الألماني سيلزيوس وكلاهما معروف بشذراته، علاوة على ترجمته مختارات من شعر الهايكو.
لكن علاقته المتينة بمثل هذا النوع لم تحل دون كتابته القصائد والنصوص النقدية في الأدب والفن والفلسفة، هو الذي كان من أوائل من ترجموا الفيلسوف الألماني هايدغر الذي كان أحد «مريديه» واصدقائه، إضافة الى ترجمته أعمالاً للمعلم ايكهارت المتصوف الألماني وأوكتافيوباث وأنطونيو بورشيا وفون كلايست وروبرتو خواريث. ولم تكن الترجمة غريبة عن مناخه و «مشروعه» الشعري - الفلسفي أو الشعري - الصوفي، فهو ترجم ما آثر من نصوص وما أثر به منها وكان مبدعاً حقاً في ما ترجم عن اليونانية والألمانية والإسبانية. ونمّت ذائقته هذه عن تجذّره في علم الفلسفة واللاهوت هو الذي كاد ينتظم في سلك الرهبنة الكاثوليكية، لكنه هجر هذا السلك في العام الذي ترجم خلاله كتاب هايدغر «رسالة حول الإنسانوية». والطريف ان هذا الشاعر الذي اصبح فيلسوفاً «ثملاً» كما يُقال، ومتصوفاً، عمل فترة غير قصيرة في مهنة استخراج المعادن وصناعتها ما حمله على السفر الى بلدان شرق آسيوية.
أصدر مونييه ديوانه الأول «الوحيد» عام 1970 وكان في السابعة والأربعين. هذا عمر متقدم في المعنى الشعري، وبعض الشعراء يبدأون فيه خريفهم، لكن مونييه من الشعراء «الهدوئيين» الذين لا يتعجلون في النشر ولا في الظهور. وعبّر ديوانه هذا عن مرحلة من النضج التي يبلغها الشعراء عادة في مرحلة متقدمة ما عدا بضعة منهم تسبق زمنها وتطلّ إطلالة شبه عجائبيه مثل رامبو ونوفاليس وسواهما.
بل ان هذا الديوان الذي كان سبقه كتاب نقدي بعنوان «ضد الصورة» (1963) يندّ عن مشروعه ويقدم للقارئ المفاتيح التي سيظل يستخدمها لاحقاً لدخول عالم هذا الشاعر، الغامض والمضيء والقائم على حافة خطرة تطل من ناحية على «هاوية» الشعر ومن أخرى على منحدر الفلسفة. وحمل هذا الديوان ملامح لغة فريدة، توفق بين الصورة والتصور (أو المعنى المجرد) وترسّخ حاجة الشعر الى البقاء قريباً من الفكر، أي الى «الثنائية» الشكلية التي يتمكن النص، سواء كان شذرة أم قصيدة، من خلالها «أن يقرأ اللامرئي في المرئي» وفق نزعة «ظاهراتية» (فينومينولوجيا) شعرية تتوجه نحو المجهول محققة ما يُسمى «صوفية الغياب». وفي العام نفسه نشر مونييه مقاطع من قصيدته شبه الملحمية وعنوانها «اورفيوس» وهي لم تكتمل إلا في العام 1994 أي بعد زهاء ربع قرن لتصبح من عيون الشعر الفرنسي. وفيها يكتب مونييه عبر فصلين مأساة هذا الشاعر والمغني الإغريقي الأسطوري مرتكزاً الى المفهوم «الأورفي» للعالم كما قال به مالارمه.
لكن هذه القصيدة البديعة تكسر حال الصمت الذي طالما عرف به مونييه لتفيض مثل نشيد يتراوح بين الغناء والرثاء.
وفي العام 1973 أصدر ديوانه «اللحظة» الذي يضم قصائد قصيرة تنطلق من أفكار كان دوّنها في دفتر مذكراته، هذا الدفتر الذي رافقه طوال حياته، وكان حافزه على كتابة الشذرات مثلما كان «مستودع» تأملاته اليومية. ولعل كتابه الجديد «المياه العميقة» هو سليل هذا «الدفتر» مثله مثل الكثير من كتبه السابقة التي رسخت كتابته الفريدة القائمة على اللحظة «الفورية» التي ينصهر فيها الانبثاق الفكري والتجلي «الظاهراتي». كتب روجيه مونييه الكثير من النصوص والشذرات والقصائد وقد اختلط بعضها ببعض في كتبه الكثيرة التي أصدرها بعد الأربعين من عمره.
واختلاطها هذا يؤكد «لا هويتها» التي سعى إليها الشاعر متحدثاً عما «لا هوية له» و «عما يُبحث عنه في الكائنات التي لا تحصى». واختلاط الأنواع يرافقه اختلاط المرجعيات أو الخلفيات الروحية والفلسفية الكامنة في صميم النصوص: الأونطولوجيا الهايدغرية، الغنوصية الصوفية، اللاهوت السلبي، الميتافيزيقيا الآبدة... ولم يسم مونييه نصوصه «تمارين على الصمت» إلا ليقينه بأن الصمت هو الأصل وليس الكلام، الصمت الذي ينتمي الى ما يصفه مونييه بـ «بُعد المجهول» الذي يؤلف الناحية الحية من الوجود. ويقول في هذا القبيل: «تحت النص هناك بياض الصفحة وفراغها - وضمن النص ايضاً. هكذا يسعى النص المكثف و «الصامت» الى تحقيق الصمت الأصلي للأشياء الذي ليس هو إلا الكلام الحقيقي للأشياء بل حقيقتها. وقد يعبر هذا الصمت عن «الاستحقاق الكبير للمعرفة المستحيلة». فـ «القصيدة يجب ألا تعلن نفسها»، و «الشعر يتجه نحو الوجود، يحاول ان يقاربه، لكنه لا يبلغه. إنه يجرّبه، ينصب له شركاً»، يقول نيمييه. هنا من عمق هذا «الصمت» تنبثق جدلية «الخفاء والتجلي» كما يقال فلسفياً، أو جدلية «الكشف والتواري»، جدلية المقاربة والحذف، وهذه «الجدليات» هي التي تصنع ظاهرة الفكر الشعري.
يسأل روجيه مونييه نفسه: «لمن تكتب؟» ويجيب: «للا أحد، لأقول، لا لشيء إلا لأقول». أما الشعر الحقيقي في نظره فهو «الإصغاء اليقظ الى الفكرة».
الحياة
19/07/0820