«سأسبح في اللغة بدون شروط» يقول عقل العويط. ولعلّ كتابه «وثيقة ولادة» هو بحق غرق في اللغة التي هي ماء الشعر، ماء الحب وماء الكون.
إنها إذاً «سردية شعرية» أو «سرد شعري» هذه «الوثيقة» التي كتبها عقل العويط ليقول إن وثيقة الولادة لا تحدّد الولادة بقدر ما تجعلها عرضة لإشراك الزمن. بل هو يجرؤ على أن يجعل من الولادة فعل «موت» قائلاً جهاراً: «متّ لا ولدت في الثامنة من صباح السادس من آذار 1952 تحت قنطرة باكية». وهذا الموت الذي هو الولادة، سيظلّ السرّ الذي تكتنفه الحياة والذي سيقضي الشاعر عمره في البحث عنه، فيجده ثم يضيعه ثم يجده... لكنّ الولادة هي أكثر من ولادة، إنها الولادة بالزمن وهي هنا أيضاً ولادات عدّة (ولادة الشاعر كطفل، ثم ولادة ابنه الذي جعلته يولد مرّة أخرى معه)، كما أنها الولادة بالكتابة (لا سيما الولادة المرتبطة بكتابة هذه الوثيقة وهي ولادة تمت على مدى ثلاث سنوات: 2008، 2009 و2010)، كما أنها أيضاً الولادة بالحبّ: «يلدني الحبّ وينمّيني لأكون وليّ عهوده في الأرض» يقول. يكسر الشاعر المفهوم الزمني للولادة أو للولادات التي ولدها، فإذا الولادة «الآن» تعني الولادة في «الماضي» كما في «المستقبل»، كما تعني الولادة الدائمة التي تتمّ بالحبر أو بالكلمات والحبّ. والتعدّد «الميلادي» هذا، المتوازي والمتقطع لا يحول دون نفي الولادة وكراهيتها ولكن بصفتها ولادة في العالم وفي النسل البشري: «كرهت الولادة ذاتها. وكرهت أني سأولد وسأنضم الى قافلة النسل البشري»، يقول الشاعر مذكراً بعقدة الولادة التي عاناها شاعر مثل بودلير أو كاتب مثل جان جينه. فالبشر في نظره «وحوش» ميتافيزيقيون و «الكائن البشري مسخ مجلوّ بقبح الألم وجمال الشر». لكنّ ولادته الأخرى عبر الابن ستكون تصحيحاً لما يسميه «الغلط» وستكون «تقويماً جديداً لا ينقض السابق». إنها الولادة داخل النسل البشري وخارجه في الوقت نفسه، الولادة التي تعني الموت الذي يعني الحياة...
قد تمثل السيرة الذاتية في «وثيقة ولادة» البعد الثالث أو «الخلفية» شبه المرئية التي يقوم عليها النص. لا يكتب عقل العويط هنا سيرة ذاتية ناجزة ولا حتى متقطعة، بل هو «يشعرن» سيرته إن جاز القول، يحيطها بهالة شعرية، هو الذي لا يستطيع إلا أن يكون شاعراً، كما أكد مراراً في هذا النصّ، مركزاً على ولادته بالشعر. السيرة الذاتية تحضر حضوراً طيفياً، إنها الخلفية أو «البعد الثالث» بحق، عالم خلفي لا تلوح منه سوى أخيلة وأطياف وظلال. عالم واقعي أو شبه واقعي يتخاطف مثل السراب، متخطياً تخوم الزمن، مختلطاً بنفسه: البيت الحجر، القنطرة، الأخ الصغير الميت، الحقل، الغيم، النهر، الأخت التي أصبحت سروة، الأب، الأم، الجدّ، الجدّة، القابلة، الحرب، حتى الحرب والمجزرة... إنها الملامح أو الأطياف والوقائع الواهية التي ترسّخ صفة السيرة والتي تنفيها في آن. فالكاتب لا يروي كما يفعل الروائيون والرواة، ولا هو يجعل القارئ مشاركاً له في التلقي، إنه يزرع «العلامات» ويدفع القارئ الى التقاطها كما يحلو له، فهي علامات اللاإنتظام التي تنتهي في الختام في ما يشبه الخيط اللامرئي، المنتظم العقد.
لا يقرأ كتاب عقل العويط دفعة واحدة. قراءة هذا الكتاب يجب أن تتم على دفعات، وكلّ دفعة هي أشبه بمعاودة قراءة. فالبنية الدائرية للنص تحدث في القارئ ما يشبه الدوار، وعليه بالتالي أن يقرأه بهدوء كي يتمكن من مرافقة الشاعر في حفره اللغوي وفي غرقه داخل «الهيولى» الشعرية التي تحدث عنها وفي السفر الى الذات العميقة والإصغاء الى الأصوات الطالعة من اللاوعي... لكنّ عقل العويط مهما استسلم لفعل السرد، الحلمي والواقعي والوجداني، يظل الشاعر أو الشخص الذي ولد شاعراً، شاعراً «يتكلّمه الحبر»، كما يعبّر، الحبر الذي «ليس فيه صوت». وهذا الشاعر يستيقظ أكثر ما يستيقظ عندما يهبّ الحبّ في قلبه فيهزّ كيانه ويمدّه بغنائية شديدة السلاسة والعذوبة: «يكتبك ماء الحواس يا امرأة» أو: «أناديك من عمائي وهباء رأسي»، أو: «لا يشبهني سوى ما أنزع من ثيابك، مثلما يفعل مطر بشجرة»، أو: «قمرك نهر، نهرك قمر، وكلاهما عاريان»، أو: «ليس لعينين كعينيّ أن تصنعا ليلاً لجسد، فلجسدك ليله وينوب عن العينين»... لا تحصى المقاطع المتلهّفة بالحب، بجسد المرأة كما بروحها، بفتنتها كما بأثرها. ويبلغ الشاعر في الحبّ مبلغاً حتى ليضفي على فعل الجمع صفة المثنى: «نولدان تواً»، يقول كاسراً القاعدة بالحب أو جنوب الحب. بل إنّه يحلّ الحبيبة في موقع قدسي أو صوفي في المفهوم المسيحي حتى ليصف نفسه بـ «السابق» الذي جاء ليمهّد الطريق أمام الحبيبة التي يتخيّلها يسوع الناصري (ص 155 و156). وهذه الصورة تذكر بـ «أناشيد الليل» التي وحّد الشاعر الألماني نوفاليس في نهايتها بين الناصري وحبيبته صوفي. الحبّ لدى عقل العويط ليس نسمة تتهادى بل عاصفة تهب فتجرف معها اللغة والكتابة.
لا ينفي الشاعر عقل العويط عن كتابه «وثيقة ولادة» (دار الساقي) صفة الوثيقة إلا ليؤكد «هجانة» هذا الكتاب أو انفتاحه على سائر الأنواع الأدبية وانغلاقه حيالها. وهو إذ يصف الكتاب بـ «القصيدة» قائلاً: «هذه ليست وثيقة إنما قصيدة» فلعلّه ينفي عنه أيضاً صفة القصيدة إلا اذا كان يبتغي تحرير القصيدة من معاييرها أو شروطها جاعلاً منها نصاً مفتوحاً على الأنواع والمصادفات. وهو على يقين أنّه لا يكتب قصيدة «مغلقة» لكونه يسمّي هذه الوثيقة «ولادة بالحبر» وولادة بـ «المحو». فالمحو هنا رديف الكتابة ووجهها الآخر. «لا بدّ من المحو» يقول الشاعر مرسّخاً طبيعة الكتابة التي يرنو إليها، وهي الكتابة بـ «الماء» كما يعترف، الكتابة التي هي كتابة ومحو في الحين عينه: «بالماء أكتب، بالماء أمحو». وقد تكون هذه «المعادلة» خير مدخل الى قراءة كتاب «وثيقة ولادة»، هذا الكتاب الذي يعصى على التصنيف أو الإدراج في خانة الأنواع الأدبية. وهذه «المعادلة» قد تكون خير مرجع لقراءة لعبة التناقض التي أجادها الشاعر، توكيداً ونفياً، والتي جعلته يصالح بين المتناقضات ويوفّق بينها، حتى ليقول الشيء ونقيضه مغرقاً القارئ في الإيهام الذي هو عماد هذا النص. وهذا الإيهام القائم على ما يُسمى بعداً ثالثاً هو الذي أتاح للشاعر أن يولد أكثر من مرّة وأن يجعل من فعل الولادة فاتحة تتكرّر مرّة تلو أخرى وكأنّ في الأمر شكّاً أو ظناً.
لعل الصفة المواتية التي يمكن إطلاقها على نصّ عقل العويط هي «السردية الشعرية». هذه صفة مستلّة ممّا يُسمى بالفرنسية RECIT Poetique. اسم لا يقبل هنا أن يترجم بـ «الحكاية - أو القصة - الشعرية»، فنص العويط ليس حكاية ولا هو أيضاً «رواية شعرية» ولا يمكن وصفه فقط بـ «النص الشعري»، فهذا النص قادر على احتواء القصيدة نفسها في شتى أشكالها. «سرد شعري» أو «سردية شعرية»، هاتان الصفتان هما الأكثر تمثيلاً لطبيعة النص الذي كتبه العويط، في ما يشبه المغامرة، على رغم الثوابت التي انطلق منها والتي عوض أن تكبله منحته المزيد من الحرية: «سجّلوا أني كائن لغوي»، يقول، كما يقول أيضاً: «من خلاياي يسيل حبر، أسود بالطبع» أو: «ليس دماً ما ينزفني، إنما كلمات». لكنّ الشاعر يعي تماماً ما يريد كتابته حتى وإن قادته الكتابة الى جهات غير منتظرة وجعلته، عارياً، «أعزل ووحيداً»، مشرعاً على عدمه الشخصي، كما يعبّر.
يسمح عقل العويط لنفسه أن يكرّر مقولة الولادة، جاعلاً منها مفتتحاً لمقاطع عدّة من الكتاب كأن تتكرّر هذه العبارة مقطعاً تلو آخر في صيغ مختلفة: ها أنا أولد الآن، أولد لتوّي، عندما ولدت، بصرخة أولد، ولدت شجرة حب، تحت برج الأسد أولد، أولد سامعاً ومنصتاً، في الغرق أولد... وليس هذا التكرار إلا تأكيداً لفعل الولادة المتعدّدة المعرّضة للشك. والتكرار أصلاً هو إحدى التقنيات التي يعتمدها العويط في النصّ، اعتماداً واعياً ومقصوداً. ولعله غير بعيد عمّا قاله الناقد الفرنسي جان إيف تادييه في كتابه المرجع le recit poetique عن التكرار وضرورته في مثل هذا «السرد الشعري». فالنص «المتكسر» يكتسب في نظره، قوّة تتجلى في «استخدام إمكانات التكرار، بدءاً من المفردات أو الجمل المفاتيح، حتى الصور والوقائع». وهذا التكرار يجعل من سير أو تتابع السرد (deroulement) التفافاً (enroulement)... ينطبق هذا الوصف النقدي كثيراً على نصّ عقل العويط ذي البنية الدائرية التي كلما اتسعت التفّت على نفسها. ومع أن عقل لم يكتب «حكاية شعرية» أو «قصة شعرية»، فإنّ نصّه لا يمكن أن يقرأ إلا انطلاقاً من تقنية التكرار الذي يتفتق المعنى عن حركته وإيقاعه التكراري. ليس التكرار هنا ضرباً مجانياً او شكلياً، بل هو حيلة أسلوبية تتيح للنص نفسه إمكان التحوّل و «الانتقال» من زاوية الى أخرى أو من دلالة الى أخرى. لا يشبه نص العويط «الحكايات الشعرية» التي ارتكز إليها جان إيف تادييه (منها على سبيل المثل: «أوريليا» لجيرار دونيرفال أو «فلاح باريس» لأراغون أو «نادجا» لأندريه بروتون)، فهو لا يبتغي سرد حكاية ولو حلمياً ولا تقديم شخصيات أو أحداث، إنه يسعى الى نسج نصّ يتقاطع فيه الواقعي والمتخيل، بل يكون فيه الواقعي بعداً ثالثاً أو خلفية للمتخيل. وفي هذا المتخيّل ينفتح النص على إمكانات الكتابة كلها: السرد والوصف والتذكّر والاعتراف والشك والوهم والاعتراف والشعر والحكمة والتأمل... لكن هذه العناصر تتداخل وتلتئم في ما يشبه الموج الهادر أو الهبوب العاصف.
الجمعة, 17 يونيو 2011