طالما عانى الشعر الكردي، المعاصر والحديث، حالاً من العزلة و«التهميش» لأسباب عدة قد يكون في طليعتها المأساة الوجودية التي عاشها الأكراد، ماضياً وحاضراً وأسفرت عن مآسٍ أخرى كالاغتراب أو الاستلاب والاقتلاع والاضطهاد السياسي وربما العرقي... إلا أن حال «التهميش» أو العزلة هذه لم تطفئ جذوة هذا الشعر الذي ظل أسير لغته الأم فترة طويلة، بل لعلها ساهمت في إذكاء ناره الداخلية مضفية عليه سمات وخصائص استطاعت أن تميزه عن سائر الشعريات المحيطة به، والمقصود بها الشعرية العربية والتركية والإيرانية. وإن تركت هذه الشعريات أثرها في الشعر الكردي المعاصر والحديث فهو تمكن انطلاقاً منها ومن بعض الشعريات الحداثية في الغرب أن يبني هويته الفريدة وأن يحقق ذاته. هكذا يمكن إدراج الشعر الكردي الراهن بين سائر التجارب الحديثة التي تخاض هنا وهناك، في العالم العربي كما في الشرق والغرب على السواء. وما يجدر التوقف عنده هو أن هذا الشعر، كما يُجمع معظم النقاد والمؤرخين، لم يملك تراثاً أمكنه الركون إليه وتطويره وتحديثه. فالتراث الكردي الكلاسيكي لم يكن مترابطاً أو متواصلاً حقبة تلو حقبة، بل شهد مراحل أو «نقلات» متقطعة ومتفاوتة، كما يعبّر الكاتب الكردي نزار آغري.
ولعل القرن العشرين هو الحيّز الزمني الذي تبلور فيه هذا الشعر جامعاً بين النهضة والحداثة بأجيالها المتعاقبة. وقد سعى شعراء الحداثة الأولى الى تطوير جهود شعراء النهضة الذين لم يتخلّوا عن الأساليب التقليدية والأشكال القديمة ومنها البنية العروضية الصارمة والأوزان والتفخيم اللفظي والبلاغة...
قد يكون كتاب «أرواح في العراء - أنطولوجيا الشعر الكردي الحديث» الذي أعده وترجمه وقدّم له عبدالله طاهر البرزنجي (دار المسار، بغداد، 2008، توزيع المركز الثقافي العربي، بيروت) أول عمل أنطولوجي يجمع بالعربية هذا المقدار من الأسماء والقصائد في ثلاثمئة وخمس وسبعين صفحة. أما الشعراء فيبلغ عددهم مئة ومعظمهم من الأجيال الجديدة، علاوة على الرواد النهضويين والحداثيين. يتيح الكتاب فعلاً فرصة للقارئ العربي كي يطّلع على الشعر الكردي وعلى مراحله وخصائصه وجمالياته خلال القرن العشرين الذي يمكن اعتباره قرن هذا الشعر بحق، ففي هذا القرن «نهضت» الشعرية الكردية ثم انتقلت الى الحداثة في حلقاتها المتعاقبة. وإن لم تشمل هذه الأنطولوجيا الشعراء الأكراد الذين كتبوا بالعربية وهم كثر، فهي ضمّت أسماء عدة دأبت على الكتابة بالتركية والإيرانية بحسب انتمائها الجغرافي. ولعل هذا ما يرسخ طابع «الشتات» الذي يتسم به هذا الشعر، الموزع بين أرض طالما كانت مسلوبة ومنافٍ لم تستطع أن تحلّ محل هذه الأرض. وقد يكون هذا «الشتات» على مأسويته إحدى ميزات الشعر الكردي إذ شرّع أبوابه على لغات شتى وشعريات شتى، وبدت اللغة الكردية أشبه بالخيط السحري الذي يجمع شمل هذا الشعر ويصنع من تجاربه مشهداً شعرياً واحداً. غاب الشعراء الأكراد العرب أو الذين يكتبون بالعربية من أمثال بلند الحيدري وسليم بركات ولقمان ديركي وسواهم ممن يجاهرون بهويتهم الكردية أو يخفونها. لكن غياب هؤلاء لا يعني حذفهم من الخريطة الشعرية الكردية. بلند الحيدري أحد رواد الشعر العربي الحديث وقد نافس الرواد الآخرين في كتابة القصيدة التفعيلية. أما سليم بركات فواحد من الشعراء الكبار في جيله العربي وكان عربياً من الناحية اللغوية أكثر مما كانه الآخرون.
لكنّ مَن يقرأ القصائد المنقولة الى العربية لا بد له من أن يلمس هذا «الأفق» المختلف الذين يرين على الشعر الكردي وتلك النبرة الخفيضة التي تسمه. حتى القصائد الملتزمة والمناضلة، التقليدية و «التفعيلية» التي برزت خلال المرحلة المأسوية تبدو على مقدار من الهدوء والكآبة والتأمّل. وقد يعود هذا الطابع الى الحلم الذي راود الأكراد وأجهضته الدول المحيطة بهم، الدول «الشقيقة» التي مارست عليهم أشدّ الحملات عنفاً واقتلاعاً. أما المقارنة بين الشعر الفلسطيني المناضل والشعر الكردي المناضل مثلاً فتحتاج الى مقاربة خاصة توضح نقاط الالتقاء والاختلاف بينهما. وما يجب الانتباه إليه هو تأثر الشعر الكردي بالشعر التركي والإيراني، علاوة على العربي. والتأثر لا يعني هنا أن الشعر الكردي لم يستطع في أحيان تخطي هذه الشعريات والتميز عنها. فالقرن العشرون هو العصر الذهبي للشعر الكردي واللغة الكردية التي ارتقى بها الشعر أكثر من القصة أو الرواية. وتكفي استعادة أسماء مثل عبدالله كوران ونوري شيخ صالح وإبراهيم أحمد من الجيل التجديدي الأول أو اسم شيركوبيكس من الجيل الثاني وهو شاعر كبير عالمياً وليس كردياً فقط، حتى تترسخ الصورة الفريدة لهذا الشعر.
ثلاثة أجيال
المقدمة التي كتبها عبدالله طاهر البرزنجي لهذه «الأنطولوجيا» بدت أقرب الى القراءة التاريخية والأفقية ولكن الشاملة. إنها مدخل أساسي لفهم الشعر الكردي خلال القرن العشرين، ولا بد من الانطلاق منها للتوسع في مقاربة خصائص هذا الشعر. وقد ركّز على الأجيال الثلاثة التي تعاقبت صانعة «قاعدة» الشعر الكردي لا سيما بعدما التحمت كلها، بعضها ببعض، وبدت كأنها تكمّل نفسها. مرحلة «الحداثة الأولى» أو مرحلة الروّاد استطاعت أن تشكل «مشهداً شعرياً خصباً ومتميزاً» وخلالها تمّ التمرّد على الإرث التقليدي بأغراضه المستهلكة ولغته الجاهزة وبلاغته الثقيلة. وفي طليعة هذه المرحلة أو هذا الجيل يحل الشاعر عبدالله كوران الذي تمرّد مع رفاقه على القصيدة التقليدية وأنقذها من ركودها وجمودها لغوياً وجمالياً. وقد طرأ مع هذا الجيل تغيير على البناء والصورة واللغة ولم يبق الشعر وقفاً على موضوعة أو غرض بل «أصبح تجربة حية». وركّز شعراء هذا الجيل الأول على روح النضال ضد «الجبهات» الخارجية كافة وضد الاستعمار والظلم، وضد الطبقية والواقع المزري والهيمنة الذكورية في «الداخل». أما شعراء الستينات فقاموا على تخوم الثورة الكردية التي اندلعت في أيلول (سبتمبر) 1961 وافترق هؤلاء الشعراء بعضهم عن بعض أو انقسموا الى فئتين: فئة انخرطت في صفوف الثورة والتزمت النضال السياسي، وفئة انكفأت على نفسها وزهدت في النشر. ولعل الظروف المأسوية للثورة انعكست سلباً على الشعر الكردي في الستينات حتى بدت هذه الفترة من الفترات المظلمة في الشعر الكردي على خلاف مرحلة الستينات في الشعر العربي والإيراني، كما يعبّر البرزنجي. إلا أن مرحلة السبعينات لم تلبث أن حملت معالم الحداثة الثانية في الشعر الكردي وظهرت عبرها أصوات بارزة كانت على بيّنة من الثورات الحداثية في العالم العربي والغرب. إنها أصوات سعت الى التحرر من سطوة عبدالله كوران ورفاقه ومن الأثر الذي تركوه فيها. هذه السطوة كانت شملت مثلاً شيركو بيكس ولطيف هملت وعبدالله باشيو في بداياتهم، لكنهم ما فتئوا أن تخلّصوا منها متجهين الى «ثورتهم» الخاصة. وأصدر بضعة شعراء من جيل السبعينات «بيانات» أعلنوا فيها رؤياهم الشعرية ونهجهم، جامعين بين النظرية والكتابة نفسها. وبدا نتاج هذا الجيل بمعظمه حافلاً بالأساليب الجديدة و «الانحرافات» أو «الانزياحات». وقد أفاد هؤلاء الشعراء من الأسطورة والقناع والحلم والتقنيات الحديثة (السينما والدراما) وتحرروا من العبء الثوري والأيديولوجي وانصرفوا الى همومهم الخاصة، الإنسانية والذاتية، الحياتية والماورائية. إلا أن إخفاق الثورة الكردية اللاحقة عام 1975 انعكس سلباً على الشعر في تلك المرحلة، فخابت الآمال وانكسرت الأحلام. وكان لا بد من أن يخرج شعراء الثمانينات من هذه «الخيبة» حاملين معهم بعضاً من عبق الشعر السبعيني. لكنهم «تميزوا بهدوئهم» مبتعدين عن الصخب والعنف والصراخ، ملتفتين في آن واحد الى ذاتهم والى ما هو خارجها. أما الجيل الثالث فيرى البرزنجي أنه انطلق في التسعينات وقد حمل هموماً جديدة تختلف عن هموم الأجيال السابقة. فالتحولات التي شهدتها المنطقة أحدثت شرخاً في «الجدار» وتركت آثاراً في الحياة والثقافة الكرديتين. وقد استثمر شعراء هذا الجيل المخيلة وركزوا على الظواهر اليومية البسيطة وعلى التفاصيل والأشياء والبصريات والمشهديات وانفتحوا على الأجناس الأخرى وخاضوا كل الأنواع الشعرية من قصيدة «الهايكو» الحديثة الى النص المفتوح وقصيدة البياض والشعر التجريبي والشعر الصوفي الحديث.
يصف علي حسن الفواز الشعر الكردي بأنه «شعر الإنسان المتسائل عند حافاته عن مصيره وحريته». كم يبدو مصيباً هذا الوصف لا سيما بعد قراءة القصائد التي حملتها هذه الأنطولوجيا الضخمة. إنه شعر «الحافات» فعلاً، شعر الكائن الحاضر والتائه، شعر الإقامة التي ليست سوى المنفى نفسه، شعر الاغتراب الذي يبدأ في المكان وينتهي في الروح. شعر تنصهر فيه المأساة الشخصية والمأساة الجماعية، تراجيديا الإنسان المقتلع وتراجيديا الأرض المقتلعة، ناهيك عن أحوال الحنين والعبث والخيبة والسخرية المرّة والأليمة: «هي الأرض مرة أخرى/ كتفاحة عفنة» يقول شاعر. ويقول آخر: «كان الوطن قبعة/ على مقاس رأس الشهداء». ويقول شيركوبيكس: «لم أكن معكم حين بدأت تضحك/ نافذتي الناجية منذ آلاف السنين».
ما أصعب اختصار المشهد الشعري الكردي المعاصر والحديث، هذا المشهد المتعدد الذي صنعته ثلاثة أجيال خلال ما يقارب قرناً هو القرن العشرون. وقد يكون كتاب «أرواح في العراء» أول عمل أنطولوجي شامل «يختصر» هذا المشهد ويشكل منطلقاً لقراءة هذا الشعر بخصائصه وجمالياته. وليت معدّ هذا الكتاب ومترجم قصائده أولى فعل الترجمة المزيد من الاعتناء، لا سيما لغوياً بغية الحفاظ على جوهر القصائد. فالقرّاء العرب يحتاجون فعلاً الى تلمس هذا الشعر الذي جاور الشعر العربيّ ورافقه خلال القرن العشرين.
الحياة
26/07/2008