بالتأكيد ليس الأمر بحثا عن «عقدة نفسية» ما، تستوجب تدخل الأخصائيين في هذا المجال وتحليلاتهم. وبالتالي ليس الأمر كنوع من استعادة لصورة «هاملت» في علاقته مع والده الغائب، التي تطلبت، في النهاية، «اندثار» تلك السلالة. كذلك يمكن لنا أن نضيف أمرا ثالثا لم نكن نبحث عنه أي هذه العلاقة البطريركية التي تحدث عنها هشام شرابي بكونها تتمثل في صورة الأب. ومن جهة رابعة، لم نفكر بالطبع في رسم صورة مخالفة لهوميروس في سيرة «أوديب». بهذا المعنى، بالإمكان أن نضيف العديد من الإحالات التي لا بد أن تطرأ على بالنا من جرّاء سؤال مماثل: «هل ثمة صورة للأب في حياتك وأدبك وما هي؟».
السؤال الذي طرحناه، لا يحتمل كونه أكثر من سؤال، يبحث عن هذه الصورة للأب ـ إن كانت موجودة أصلا ـ في حياة وأدب بعض الكُتّاب والمبدعين، وإن كان ذلك لا ينفي، وعلى الرغم من كلّ ما تقدم، أن السؤال، لا بدّ له أن يقود المجيب، إلى أمكنة أخرى يرغب في التفكير بها، إذ أن السؤال في محاولة بحثه، لا بدّ أن يثير العديد من الإشكاليات، حتى وإن كنا لم نبحث عنها. ربما لأن الأدب يثير دائما هذا اللغط وهذا التأويل، الذي من دونهما، لا يستقيم ولا يقود إلى طرح المزيد من التساؤلات ومن التأملات.
هذه التأملات، ربما، قد تكون هي التي قادت الشاعر الفلسطيني موسى حوامدة لأن يغير في اللحظة الأخيرة عنوان مجموعته الأخيرة. يقول: «في اللحظة الأخيرة غيرتُ عنوان مجموعتي الشعرية الجديدة (الأخيرة) من «للخديعة طعم الأبوة» إلى «سلالتي الريح عنواني المطر». شعرت أن العنوان يحمل قدرا كبيرا من القسوة، رغم أنني ولأول مرة أهديته المجموعة كاملة على هذا النحو: «ترقيةً لهذا الأَثر / رَحَلا دون أن أراهما، وَدُفِنا وأنا بعيدٌ عنهما؛ /إلى محمد حسين حسين جابر؛ /أَبي، الذي رحلَ في 1-5- ,2003 /إلى مَليحة سلامة أبو عقيل؛ /أمي، التي رحلت في 18-5-,2003 /إليهما معا أُرَقِّي هذه الريح،/آملاً أن تنعشَ روحيهما، وهما يهيئان لي قبراً جميلاً بينهما».
طعم الخديعة
لكن ذلك ليس كل شيء، لأن الأمر عند حوامدة يتخطى الإهداء، إذ كتب له «القصيدة التي أفتتح بها المجموعة» والتي تبدأ على الشكل التالي: «للغيوم نهار آخر/ للخديعة طعم الأبوة/ للمشانق حكمة تخفيها الرهبة». يقول الشاعر إن في ذلك استذكارا «لتلك العلاقة المركبة والمعقدة بيني وبينه. كانت علاقة صعبة جدا، تبلورت أكثر بعد رحيله. الذي دفعني لإعادة إحياء صورة الأب بدلا من قتلها، ربما كنت أفكر بقتلها حينما كان قويا، وصاحب سلطة، أما حينما صار ضعيفا واهنا، فقد تحولت إلى حب عنيف من طرفي تجاهه، وربما ساهم افتراقي عنه منذ المدرسة وابتعادي عنه، قبل أن أبلغ العشرين من عمري، ربما سبب نوعا من الشعور بالذنب فأقبلتُ عليه، ولكن جاء ذلك متأخرا».
من هنا يحس حوامدة بهذه الحرقة: حرقة الذكرى، «تحرقني نعم، وتؤلمني فكرة غيابه، وقد حاولت التعايش مع رحيله الذي لم أشهده، بسبب وجودي في الأردن وبقائه في فلسطين ومرضه ووفاته هناك وعجزي عن زيارته وتقبيل رأسه وتوديعه أو التمتع بشعور الأبناء وهم يحملون نوعا من الشماتة والتحرر لحظة وفاة آبائهم، كل ذلك حرمت منه، فنزفت دمعا كثيرا».
برغم هذا الافتراق القسري هل كانت صورة الأب، صورة حسنة في كل ما كتبه الشاعر الفلسطيني (المقيم في عمان)؟ يجيب حوامدة بأن لا. «ليست صورته كلها حسنة فيما كتبت، لكن ظل رحيله يحفزني للعودة إليه، وإلى طفولتي التي فرت من بين يديه ومن بين يدي، بسبب قسوته مبكرا، فحملت شيخوختي معي وهربت بها من سطوته، وحينما كبرت وجدت أني أحمله هو لا أنا، لكن ما يعزيني ويخيفني أنني أذهب للتحول إليه يوميا، حتى أن شكلي صار يقترب من شكله، وكل يوم أراه معي وفيّ، وفي كل ما أحاول التخلص من ثقل ذكرياته أكتب، وقد كتبت الكثير، سردا لم أنشره وشعرا نشرت بعضه، وحتى في قصائدي التي كتبتها للأم أجد أنني أحاول هدم تلك الصورة القديمة للأب في الكتابة لها، وحتى سلالتي الريح كتبتها بعد أن شعرت بانقطاع جذوري، بعد موته هو، فقد كنت أشعر بان هناك قوة أحاول التمرد عليها والثورة عليها، وحين مات خسرت جدارا آمنا كنت أتكئ عليه، لكني خسرت حافزا على التمرد، واليوم كسبت حافزا للندم، لذا كتبت سلالتي الريح بعد أن مات جذري فوجدت مهربا منه إلى وحدة الوجود في انتمائي لسلالة بشرية أوسع، لكن ذلك لم يطفئ عطشي له، ولا رغبتي في الكتابة عنه مجددا».
إذا كان والد موسى حوامدة، يحضر بهذه القوة في مجموعته الأخيرة، كما في العديد من الكتابات الأخرى، على الأقل من حيث هو صورة عن هذه الجذور التي يفقدها الشاعر، فإن الشاعرة السورية جاكلين سلام، (المقيمة في كندا) ترى بأن «صورة أبي قصيدة يتيمة. شرشف مطوي في خزانة مغلقة على أسرارها وذاكرتها الغامضة». إلا أن صورته تأتي «متناقضة»، على خلاف صورة والد زميلها، فهي ترى أن «له في مرايا الروح صورا متناقضة. العصبية والحكمة، الجدية الصارمة، عناد الفلاحين وطيبتهم. أبي قوقعة منكفئة على نفسها. كان يثير حنقي بقدر ما يثير شفقتي ويستدعي حبي له. كانت حياته الشقية الدرس الأول في الهجرة التي لم استوعبها حتى الآن، ومازلت أحاول أن أفك عقدها المتتالية. كبر أو سرقت منه طفولته باكراً. صورته التي تطالعني كلما فكرت بالجذور والأجداد، هي صورة ذلك الطفل الذي يتركه الدهر يتيما، فيجبر كما غيره من أهالي منطقة «آزخ وعين ورد» للهجرة أو النجاة. طفل يمثل دور الرجل ورب العائلة أيضا. يقود حماراً، يضع في البردعة أخته وأخيه الأصغر، كل في جانب، ويمضي للالتحاق ببقية الأهل في ديريك. وبقي أبي محافظاَ على دوره كـ«رب» للأسرة فيما بعد. أبي قلّما يضحك بصوت عال. يرتبك ويعبس وربما يخجل من آلة التصوير الخبيثة. أبي لم يكسر أغراض البيت، لكنه كان يكسر قلب أمي، وكلما التأم الجرح، عاود كسره. أبي يحب أولاده بصمت وسخاء ومازال صوته يرن في أذني ويقول «سأبيع لحم أكتافي كي تدرسوا». أبي لا يعرف قبر أبيه وأمه. أبي أصبح عجوزاً حنوناً الآن يساعد أمي في شطف أرض الدار، يغسل الخضار ويسمع نشرات الأخبار 24 ساعة في اليوم». هي صورة الحياة التي تتحدث عنها جاكلين سلام، لكن هل له صورة في أدبها؟ يبدو جوابها قاطعا «لم أكتب عن أبي بعد». ربما تكون البداية هنا.
الدراما الجنوبية
الصورة أيضا موجودة عند الشاعر العراقي شاكر لعيبي (المقيم في تونس)، على الرغم من أنه يجدها اليوم صورة غائمة ورمزا للدراما الجنوبية. يجيب شاكر لعيبي بالقول: «نعم، ثمة صورة للأب في حياتي وقد كتبت نصين صغيرين في فترة سابقة عن أبي بعد موته، لم يمرّ أحدهما عرضاً في ضميري «يتململ كبطاطا في تربته». رغم أن هذه الصورة غائمة اليوم فهي صورة فيها شيء مجازي: إنه رمز للنبل، وفي حالتي المخصوصة، رمز للدراما الجنوبية للعالم المثقلة بالتضحيات. وإذا كان هناك شيء من الإفراط في هذا الكلام فقد كان بالفعل هاجسي الأساسيّ أمام الأب».
إلا أن هذا الرمز لم يدم كثيرا، إذ كان لا بد من عملية إلغاء لتستمر المغامرة الفردية في الحياة. يرى لعيبي بأنه قام: «بعملية قتل رمزي له في وقت مبكر. كان عليّ إلغاؤه بسرعة لكي أصل إلى مغامرتي في الوجود. على أن صورته تظل غائمة تماما اليوم لكي تظل مشرقة على ما يبدو. لم يكن أبي يكبرني كثيرا بالسن بسبب زواجه المبكر لذا فصورته الراهنة هي كذلك صورة الأخ الكبير أيضاً، بكل ما في ذلك من مشكلات تراتبية شرقية». هل هذا القتل الرمزي في الحياة، هو الذي قاد لعيبي لأن «يغيبه» أيضا من النص الأدبي؟ يرى الشاعر أن «لا صورة للأب عندي في الأدب. لا أحد من الشعراء يريد أن يكون أباً أو أخاً كبيراً لأحد. ما ينقص الثقافة العربية هو الرحمة والتواضع. وقد علّم آباء الشعر العربي الحديث الجميعَ فنون النفاجة والكِبَر والتفرّد الافتراضي والكبرياء الزائد عن الحد. لا صورة للأب البتة في الشعر العربي المعاصر. وإذا كان يوجد آباء فهم قساة للغاية، وإذا كان من أخوَةٍ كبار فهم أشدّ قسوة وضراوة، إلا القلة التي لا تشكل ظاهرةً. عندما أتكلم عن الرحمة فلأنني أظن أن الثقافة مجالٌ رحب لتعبَّر فيها عن نفسها، وهذا أحد أوهامي الكبرى التي أصرّ عليها إلى النهاية. في الثقافة العربية الجميع يريد أن يلعب دور الأب الرمزي، وإذا تطلَّب الأمر بعصا غليظة من نوع آخر».
بدورها تأتي صور الأب (وعلاقتها بها) عند الشاعرة اللبنانية (المقيمة في الولايات المتحدة) أمال نوار، علاقة ملتبسة، ولطالما كانت كذلك «يختلط فيها الشعور الفطري بالشعور القصري، السلوك الانفعالي بالسلوك العقلاني، المحبة بالنقمة، العصيان بالامتثال، الأُنس بالمهابة، التوقير بالسخرية... وفي المحصّلة أدّت تداعيات هذه الحال الإنفصامية إلى انعكاسات كارثية على حياتي، وعلى المستويات كافة، وخصوصاً النفسي منها، ورسمتْ لها مساراً مصيرياً حتمياً استحال تغييره باستحالة العودة إلى الوراء وإزالة مسبباته أو تبديلها، حتى جاء وقت لم يعد يُلام الموت إنْ اقترح نفسه، وعرض خدماته المجانية».
لنقل إنها «صورة قاسية» إذ كانت البذرة الأولى من هذه الغربة. ترى الشاعرة اللبنانية أن «أبي دمعة من حجر، شجرة مَلْمَسها فأس. هناك في عمق تُربته تربّت جذور غربتي، ولم يكن جمر يديه إلا درسٌ أولُ في البَرْد، ولم تكن رقّتي إلاّ من سماكة قسوته، ولم تكن زرقتي إلاّ سماءٌ مقلوبة لفرط ما أطبقَ أنفاسه عليّ. ومع هذا، يأتيني بسلال التفاح وأنا نائمة، فأشمّ في دمها رائحة قلبه. ومع هذا، يرسم على جبيني أَمارة السهر، ويورثني موسيقى ترفعني فوق الحصى كما لو فوق النجوم».
إزاء ذلك كله كان من المؤكد أن «كتابتي لن تنجو من تأثيره البالغ في حياتي سواء سلباً أم إيجاباً، وفي تكوين شخصيتي، هذا إن لم يكن أحياناً سبباً رئيساً في إشعال فتيلها. فالكتابة تستحضر أبي بقدر ما يستحضرها، على أن حضوره فيها لم يأخذ شكل نفسه وحدودها، وإنما تجسّد عبر استعارات غير مفتعلة، تشي برغبة دفينة في الانسلاخ عن الواقعي إلى وَهْم لا تطوله يده، والتسلّح بالخيال واللغة كجناحين لمشاعر لطالما رزحت تحت أثقاله. يندر أن تختزن أشعاري توصيفاً مباشراً لعلاقتي بأبي. فهي ليست مسرحاً لعرض كَدَمَات النفس وجروحها، وإنما فضاء لممارسة الانفعال، يتّسع لترجيعات وتأويلات ما خلّفته تلك العلاقة من سوائل دموية حارّة تشرّبها الوجدان حتى تجمّر، وبات لألمه جسد وردة إنما بخبرة الشوك».
من هنا لم تتوقف الشاعرة ومنذ طفولتها عن «معاتبة القدر على جحوده وتجبّره وإيثاره بشرا على بشر وحجرا على حجر، ولم أتوقّف عن لومه ولوم أبي إلا بعد أن اكتشفت مقدار حبي لذاتي، وأنّ لو قُدّر لي خلق نفسي لما استبدلتني بشخص آخر. وما مردّ هذا الوصال مع الذات إلى انفعالية نرجسية تشمخ فيها النفس إلى شاهق الجمال والكمال، وإنما إلى تعاطف وجداني مع نفس سحقتها المعاناة، فبات للبّها طعم الخسران لا الجمال، ولقشرتها شكل النقصان لا الكمال. اكتشفت أني لا أختلف كثيراً عن القدر وتحديداً في خاصيّة الإيثار. فأنا كنت ولازلت أتمسّك بالدُمْية المبتورة الساق والممزّقة الثوب، ولا أُؤثر عليها شيئاً باستثناء تلك المصنوعة من عيدان الشجر والتي ثوبها مِزْقة من سَمِلٍ بالٍ». إلى أين يقود ذلك كله الشاعرة؟ وهل من صورة أخرى تتمناها»؟ تقول: «لا، لا أحبّ أن أكون شخصاً إلاي وتالياً أن يكون أبي غير أبي".
السفير
24- 9-2007
إقرأ أيضاً:-