لم يشغل الغرب أي ميل للنفس البشرية زمناً طويلاً وبشكل مستمر كما شغلته الكآبة ( Melancolie ). وإلى حد اليوم يبقى هذا الموضوع في صلب المشاكل التي يواجهها الإنسان، ويطال ميادين مختلفة: الفلسفة، الأدب والفن، طب الأمراض العقلية، الدين، الخ. وهذا ما يمنح المعرض المقام حالياً في "القصر الكبير" (باريس) كل أهميته. فمن المسلات الإغريقية وحتى الأعمال الفنية المعاصرة، مروراً بفنانين كبار مثل ديورر وبوسان وغويا وفريدريش ودولاكروا ورودان وفان غوغ ومونخ ودو كيريكو وبيكاسو، يقدّم المعرض الذي يتألف من 250 تحفة فنية تتراوح بين رسوم ولوحات ومحفورات ومنحوتات، نظرة شاملة لتمثيلات الكآبة في الغرب، مبيّناً كيف أن هذا الطبع الخاص سيكيّف العبقرية الأوروبية.
والكآبة التي تسبّب الألم والجنون هي أيضاً، منذ أرسطو، طبع الشخصيات العظيمة. وتشهد تسميتها بـ"المرض المقدّس" على هذه الازدواجية. غامضة، لا تزال الكآبة تحمل هذه الصفة إلى حد اليوم، وإن أُخضعت منذ فترة قصيرة لمقاربة طبية وعلمية تحت تسمية "اكتئاب" أو "إعياء نفساني" ( d?pression ). ومن الرومانسية إلى ما بعد الحداثة، شكّلت جميع الطوباويات الاجتماعية إعلانات حرب على "شعور التعاسة"، كما حرّمت أيديولوجيات التقدّم مشاعر النفس، وبشكل خاص عنف الكآبة. ولكن منذ بضع سنوات، حصل تغيير في عملية تفسير هذا الطبع. إذ بدأ مؤرخون، مثل جان ستاروبينسكي، بالنظر إلى الكآبة كمحاولة للابتعاد بالنفس عن "خيبة الأمل" التي يخلّفها العالم فينا. وهي النظرة التي يتبناها القيّمون على المعرض الحالي من خلال كشفهم عن غنى التمثيلات الصورية المذهل لهذه الحالة النفسية وتنوع المشاعر التي تعبّر هذه الصور عنها، كالرقّة والعنف والوهن والهيجان والحلم والغضب واليأس. ولهذا لا نعجب أن يقوم تاريخ الفن ـ مع مؤرخين مثل ريمون كليبانسكي وإيرفين بانوفسكي وفريتز ساكسل ـ بمنح أسس المقاربة الجديدة لتاريخ الكآبة.
الصالات
يتألف المعرض الذي يحترم التسلسل التاريخي لظهور الأعمال الفنية المعروضة، من ثماني صالات:
الصالة الأولى مخصصة للكآبة في العالم القديم ويتقدم الأعمال المعروضة فيها سؤال أرسطو الشهير: "لماذا جميع الذين تميّزوا في ميادين الفلسفة والسياسة والشعر والفن كانوا أشخاصاً كئيبين، حتى ان بعضهم عرفوا ألماً شديداً مصدره "المِرّة السوداء" (مٌىق مْىَُ)؟ ويشير المعرض في هذا السياق إلى تثبيت نظرية الطباع الأربعة في كتابات هيبوقراط في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد اعتُبرت الكآبة كأخطر هذه الطباع نظراً إلى تقلّباتها. ونشاهد في هذه الصالة عدداً من المسلات والأنصاب التذكارية والتماثيل الإغريقية والرومانية التي تتميّز بخصائص تشكيلية توحي بالكآبة.
وتنتقل الصالة الثانية بنا إلى تمثيلات الكآبة في القرون الوسطى، فيشير القيّمون على المعرض فيها إلى ابتعاد عدد من المسيحيين عن مجتمعهم انطلاقاً من القرن الثالث ميلادي وانعزالهم في الصحاري المصرية والسورية حيث سيتعرّضون لشتى أنواع الأفكار السوداء والتجارب، الأمر الذي يُغرقهم في وهنٍ يُطلق عليه اسم "أسيديا" الذي سيعبر كامل القرون الوسطى ويقود، وفقاً لعلم اللاهوت آنذاك، إلى كسلٍ في القلب والعقل. وستُعتبر هذه الحالة لفترة طويلة كإحدى الخطايا العظيمة. وسيظهر عند نهاية القرون الوسطى تمثيلات عديدة لتجارب القدّيسين النُّساك، وخاصة القديس أنطونيوس، تبرز فيها اضطرابات النفس ورؤى وهواجس مخيفة ينسبها البسطاء إلى أفعال الشيطان وتعود في الحقيقة إلى ظروف العيش القاسية في الأديرة والصوامع. الأمر الذي سيُحضّر إلى مجيء حركة الإصلاح البروتستانتية. كما ستظهر في فن الأيقنة المسيحية وفي اللوحات التي تعالج مواضيع دينية صور الحزن والحداد والألم، كالطفل يسوع نائماً على خشبة الصليب أو القديس يوحنا متألماً تحت رجليّ المسيح مصلوباً أو نساء محزونات في وضعية ستصبح مرجعا لتمثيل الكآبة، أي ارتكاز الرأس على اليد اليسرى. ومن الفنانين المعروضين في هذه الصالة جيروم بوش ومارتين شونغاور ولوقا كراناش.
وتحتل الصالة الثالثة تمثيلات الكآبة في عصر النهضة الأوروبية. ويتوقف المعرض هنا عند العلاقة التي سيقيمها علم الفلك بين الكواكب والطباع، وبين كوكب زحل والمزاج الأسود بشكل خاص. كما سيتم تسمية الأشخاص المنحطين والهامشيين، وبينهم الفنانون، "أبناء زحل". لكن في نشيد "الفردوس" يستحضر الشاعر دانتي زحل ككوكب التأمّل والحكمة. وفي فلورنسا يُعاد النظر بالكآبة كعلامة عبقرية. فبالنسبة إلى مرسيل فيسين يخضع الجنون الإلهي والبطولة الروحية لتأثير كوكب زحل. أما محفورة الرسام الكبير ألبرخت ديورر "الكآبة" فأثارت تفسيرات متناقضة ارتكزت على جميع حقول المعرفة. وفي القرنين السادس عشر وبداية السابع عشر، يشهد موضوع الكآبة تمثيلات غنية ذات طابع رمزي. ويتبيّن ذلك خصوصاً في موضوع "الطبيعة الميتة" أو في مشاهد الأطلال التي ستعرف رواجاً كبيراً في القرن الثامن عشر. ومن الفنانين الحاضرين بلوحاتهم في هذه الصالة: ديورر، جوزيبي أرسيمبولدو، نيكولا هيليار.
وفي الصالة الرابعة المخصصة للكآبة خلال الحقبة الكلاسيكية في أوروبا، يتبيّن انحسار تعظيم هذا الطبع خلال القرن السابع عشر. إذ سيؤدي صدور كتاب "تحليل الكآبة" للقس روبرت بورتون عام 1621 إلى العودة إلى مفهوم طبي لها وإلى التركيز على الآلام التي تسببها. وفي الميدان الفني، يفقد موضوع الكآبة خصوصياته فلا يعود يوحي إلا بأفكار الوحدة والتأمّل. ففي كتاب سيزاري ريبّا "شرح الرموز" (1593)، تتمثّل الكآبة بشابة متوحّدة جالسة على صخرة. ونجد هذا النموذج، الذي سيصبح مبتذلاً، طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر. ومن الفنانين الحاضرين بأعمالهم في هذه الصالة: نيكولا بوسان، دومينيكو فيتي، جورج دو لا تور، مايكل سويرتز.
الصالة الخامسة من المعرض خُصصت لعصر "الأنوار" الذي يتم فيه إدراج الكآبة في ميدان الجنون. وبالفعل، يتحدث ديكارت في كتابه "تأملات ميتافيزيقية" عن هؤلاء "المخبولين ذوي العقول المختلة بسبب بخار الكآبة الأسود لدرجة يؤكدون فيها باستمرار بأنهم ملوك، في حين أنهم مساكين". كما تتحول الكآبة مع ديدرو إلى ضعف فكري وجسدي: "الكآبة هي الشعور المعتاد بنقصنا. (...) إنها غالباً نتيجة لضعف النفس والجسد ولفكرة الكمال الذي لا نعثر عليه لا فينا ولا في الآخرين ولا في مواضيع ملذاتنا ولا حتى في الطبيعة". لكن هذه العقلانية لن تلبث أن تخلّف ذاتية جديدة. فكل ما لن نستطيع إدخاله في نطاق العقل سيتم تجميعه في منطقة تسمّى فيما بعد السريرة ( l_int?riorit ?). وستتحول الكآبة البرجوازية في القرن الثامن عشر إلى انحراف مزاجي عام، إطارها الطبيعة التي تسمح الوحدة فيها بالابتعاد عن العالم والإحساس بالذات. ورائد هذا التوجه الرومنسي هو شاتوبريان مع رواية "رونيه". ونعثر في هذه الصالة على أعمال فنية لرسامين مثل غويا وأنطوان واتو وجوهان فوسلي...
وفي الصالة السادسة المخصصة للتيار الرومنسي، يقارب القيّمون على المعرض مسألة إعلان الفيلسوف نيتشه موت الألوهية وبالتالي نهاية عالمٍ يضمنه الإيمان، الأمر الذي سيدفع الإنسان إلى الشعور بوحدة كاملة على الأرض. وانطلاقاً من هروبٍ أمام واقع مخيّب للأمل، تتحول حالة الكآبة إلى رفض مأسوي للعالم. وعند نهاية القرن التاسع عشر، تأخذ الكآبة بعداً راديكالياً وتؤدي إلى يأس ميتافيزيقي يتم التعبير عنه بقوة في الأدب، من بودلير إلى جوريس كارل ويسمانس. وعندئذ، سنشهد عودة المفردات القديمة للكآبة، كالاهتمام من جديد بصورة الشيطان والكوابيس والرؤى التي تتميّز بإيروسية مفرطة وتمجيد الجنون. ولكن بدلاً من محاربة التجارب للمحافظة على الإيمان، يتم التعبير عن معاناة الإنسان ومأساة الوضع البشري. وتتضمّن هذه الصالة لوحات لرسامين مثل دولاكروا وجيريكو وكاسبار فريدريش وأرنولد بوكلين.
ذهان اكتئابي
وتقارب الصالة السابعة من المعرض عملية التطبيع التي ستشهدها الكآبة عند بداية القرن التاسع عشر. إذ سيتشكّل علم الأمراض العقلية داخل الطب فتصبح الكآبة وقطبها الآخر، الهوس، موضوع دراسة هذا العلم الجديد بامتياز. كما ستعرف الكآبة تسميات عديدة قبل أن يُطلق عليها اسم "ذهان كتئابي" أو "إكتئاب ثنائي القطب". ومع أن انعزال الكآبة وإخضاعها لطب الأمراض العقلية وعلم النفس سيتم خلال القرن التاسع عشر، تتواصل كتابة تاريخ الجنون، من الطبيب شاركو وحتى فرويد، طوال القرن العشرين. أما الفلسفة فستصف علاقة الرجل الحديث بالواقع بالطارئة وحالته الوجودية بالتوازن العابر وغير الثابت. ومن الفنانين الموجودين في هذه الصالة نذكر: توماس إيكنس، فان غوغ، فرانز كزافيي مسرشميد.
وفي الصالة الثامنة والأخيرة من المعرض، يتبيّن لنا كيف أن الشعور الحزين المرتبط بذاتية الشخص الكئيب سيتفاقم خلال القرن العشرين بسبب مفعول التاريخ ونتائجه الوخيمة، إن على مستوى فشل الطوباويات الاجتماعية الكبيرة والأيديولوجيات السياسية أو على مستوى الكوارث الجماعية التي نتجت عن الحربين العالميتين. كما ستشجع التوتاليتاريات الانطواء الكئيب على الذات، فتصبح اللحظة الجمالية وسيلة ابتعاد عن العالم. عندئذ، يتحوّل الحاضر إلى زمن مرهون بالمستقبل فيبدأ الحديث عن ما بعد التاريخ، بعد مرحلة التفاؤل بعملية سيره، وعن ما بعد الحداثة، بعد الابتكارات الحالمة وانحلال الثقة بالتقدّم وتبدد الآمال التي أوحى بها عصر الأنوار. ويتساءل القيمون على المعرض في النهاية إذا لم يكن باستطاعتنا تخيّل طوباوية جديدة ترتكز على الكآبة كمفارقة لمشروع تاريخي وثوري جديد. وتتضمن هذه الصالة أعمالا فنية لأوديلون رودون وإدوارد مونخ ورودان ودو كيريكو وأوتو ديكس وأنتونان أرتو وبيكاسو وكثيرين غيرهم.
المستقبل
22 تشرين الأول 2005
أقرأ أيضاً: