لا يوجد دليل أكثر سطوعاَ على حالة الأدباء السعوديين من إحصاء تلك المؤتمرات التي عقدت من أجله. ففيما عقد مؤتمرهم الأول قبل ما يناهز أربعة عقود، فإن مؤتمرهم الثاني الذي عقد قبل أحد عشر عاماً، قد تبخر من الذاكرة دون أن يتذكر أحد منا اليوم، ماذا بقي من توصياته ووعوده...!
ورغم التنادي اللحوح في أكثر من صحيفة ومنصة أدبية حول ضرورة عقد مؤتمر أدبي محلي يضع فيه المثقفون والأدباء مطالبهم ورؤاهم، فإن مناخ التشاؤم لا يزال يطبع الضجة التي تستبق المؤتمر وما يمكن أن يسفر عنه من مخرجات، فضلاً عن اليقين المسبق أنها لن توضع موضع التطبيق.
والحقيقة أن الجدل الذي دار بين المثقفين على الصفحات الثقافية وصفحات "الفيس بوك"، يضع جملة من المقترحات البراقة أمام المعنيين بالشأن الثقافي والإبداعي، بينها مثلاً: أن تولد وزارة مستقلة للثقافة، وأن تتشكل رابطة مفردة للأدباء، وأن تتحقق حماية حقوق الأديب، وأن يتفرغ لمهنته الإبداعية حين تتوافر فيه الشروط القاطعة، وأن ترعاه الدولة في حالة مرضه أو عجزه أو فقره، وأن تطبع وتسوق نتاجه الفكري، وأن تسعى للتعريف بالمنجز المحلي، وأن ترعى ترجمته إلى اللغات الأجنبية.
هذه مطالب أثيرة للجميع، أو انها ثمرة التفكير الطوباوي الذي يعيش تحت سمائه ثلة من مثقفينا. ماذا لو ولدت تلك الرابطة بأنظمتها وهيئتها الاستشارية ومبناها الأنيق وقاعة محاضراتها ذات الدورين (أحدها للرجال والآخر للنساء) لتمر عليها روح البيروقراطية المعهودة في مؤسساتنا الحكومية، ويلفها القحط المادي، لنكتشف أن ليس أمامنا أكثر من ناد أدبي مكبر؟. ماذا لو اختارت الوزارة أولئك الكتاب المعتقين الذين نجد كتبهم، تعمر بها أجنحة معارضنا في الخارج لكي تترجم وتسوق؟ ماذا لو تفرغ أولئك الذين يكتبون خطراتهم وسوانحهم في ردهات صحفنا ليصبحوا واجهتنا الثقافية ويصبحون هم ممثلينا يتنقلون من منتدى إلى آخر ومن أسبوع ثقافي لآخر عبر القارات؟
لننظر مثلاً إلى مأساة أخرى حلت وتحل بنفر من مبدعينا هي سقوطهم في قبضة المرض أو الإعاقة فرغم يقيني الشخصي من أن صحة كل مواطن في الدرجة الأولى مسؤولية وزارة الصحة، بما يستتبع ذلك من عقود تأمين صحي توقعها مؤسسات الدولة العامة والخاصة، فإننا نفترض في غياب هذه الخدمة المشروعة، أن تلعب الوزارة هذا الدور فتسهر على صحة هؤلاء الذين يتعرضون لمحن قاسية وتبادر إلى تذليل العقبات التي تعترض إسعافهم ورعايتهم في المراكز الطبية المتخصصة.
لا رادع لأسئلتنا وإجاباتنا الافتراضية بإزاء مؤتمر نفترض في صانعيه أنهم يمهدون لمرحلة جديدة تكون فيها لثقافتنا الوطنية راية وعلامة، وأنهم يفرشون بساطاً رحباً لحوار حر وشفاف.
نريد هذه المرة أن نذهب بمطالبنا إلى الجهة المستحيلة، أي إلى الجهة التي يكون فيها الخيال وسحره أكثر إغراء من الواقع وكائناته المقترحة!
لنقل إننا نطالب بفضاء أرحب للكتابة، نريد حرية أكبر للقول والمعنى، نطلب أن تحقق ثقافتنا منجزاً مشهوداً على أرض إبداعها، وألا نمنح الرقيب مضمراً ومعلناً فرصة أن تطلق يده في ساحتنا الأدبية رفضاً ومنعاً وتشذيباً.
في كل المهن التي تعجّ بها حياتنا اليومية، لا يقبل من غير المختصين أن يحكموا في أعمال غيرهم. لا يسمح لطبيب قلب أن يفتي في تشخيص كسور في العمود الفقري، ولا لمهندس ميكانيكي أن يتخذ قرارات نافذة في شؤون المسح الزلزالي، ولا لأخصائي التجارة الإلكترونية أن يدير شبكة معلوماتية. أورد هذه الأمثلة الشديدة الاتصال بعضها بالبعض، لأقول إن حدود التخصص تقف بالمرصاد لكل من يستخف أدوار غيره أو لا يعترف بها. ما يحدث على صعيد صناعة الكتاب والكتابة وباقي صناعات المعرفة الأخرى هو العكس تماماً، فكثيراً ما نعثر على موظفين وطواقم بيروقراطية تصدر أحكامها الفادحة على إبداعنا وعلى منتجاتنا الفكرية أو تلك المنتجات القادمة إلينا، دون أن تمتلك أية دراية حقيقية بطبيعة تلك المنتجات أو سياقاتها أو مقاصدها.
لقد تكفل هؤلاء المراقبون بتشكيل هوية النتاج الثقافي المحلي وفقاً لأهوائهم ومعينهم الثقافي، وبوضع سياجات صلبة تحدد سقفاً للمسموح والممنوع وتفرض لغة ومعجماً شديدي الضيق والقِدم، وهو ما حدا شريحة كبيرة من أدبائنا (حدث هذا منذ أكثر من نصف قرن) على طباعة أعمالهم في الخارج. ولقد تعثرت بكل أسف أنديتنا الأدبية في تبني طباعة نتاج أديباتنا وأدبائنا الذي حقق مبيعات لم نعتدها من قبل، بل تركت أثراً اجتماعياً وإقبالا على القراءة مفاجئاً ضمن مقاييس الرواج والانتشار المعروفة في بلادنا، فيما فضلت مؤسساتنا الأدبية، وبعض الدور الطالعة، نشر أعمال متواضعة المستوى، وتلكأت في نشر الدراسات والأبحاث المعمقة التي تدرس ظواهر حياتنا الاجتماعية والفكرية، هذا مع اعترافنا أن عدداً محدوداً من هذه الأندية يجاهد لطبع نتاج حر بمواصفات طباعية وتسويقية متفوقة.
الأمر الثاني الذي نضعه فوق منصة هذا المؤتمر، هو ضرورة إعادة بناء العلاقة بين وزارة الثقافة والإعلام ووزارة التربية والتعليم، بوجه خاص، فمهمتا هاتين الوزارتين متشابكتان، ولا بد من أن تتبنيا إستراتيجية تربوية وتعليمية وثقافية منذ مراحل الدراسة الأولى، لكي نتمكن لاحقاً من الانخراط في مجتمع المعرفة ومجتمع حقوق الإنسان ومجتمع الثقافة المتعددة.
لا بد من أن تدخل منتجاتنا الثقافية المعاصرة إلى مناهج الدراسة والفصول ووعي المعلمين والمشرفين، أسوةً بنتاجنا الثقافي الكلاسيكي، الذي لا يزال يصوغ عقول الجيل الجديد ولغته ونسيجه اللفظي والثقافي. وآخر ما نطلبه هنا أن ينشأ صراع على ما يصنع ذاكرة هذا الجيل. المطلوب – ببساطة شديدة – أن تتضافر الثقافات الكلاسيكية والمجددة في صنع ذاكرة جديدة تمتص من التراث هويته وحكمته وعمقه التاريخي، فيما تستقي من الثقافة المعاصرة الجديدة روح التجديد، وفهم مفردات العالم الذي نتأثر بكل مفرداته ومنتجاته، ونتخالط مع عولمته، وتطاردنا مخلوقاته الفضائية والتقنية.
دور الوزارة أن تصبح شريكة استراتيجية في صناعة أطرنا وبرامجنا التربوية والتعليمية، أي أن تبادر إلى بلورة باقة واسعة من الملخصات الفكرية والعلمية، والنصوص الإبداعية، والرؤى الاجتماعية المتجددة التي تربط الأجيال الجديدة بالمتغيرات التي ندور في فلكها، ويمتلئ بها وقتنا، وتؤثر في كل خطوات حياتنا.
الأجدى أن تصل نتاجات نصف قرن من مجددي الفكر والأدب والكتابة في بلادنا إلى أبناء مدارسنا وبناتها، قبل أن تجرفنا الحماسة إلى ضرورة ترجمة أدبنا إلى لغات عالمية.
أما الأمر الثالث الجدير بالعرض فهو أننا نعيش في عالم تبنى أركانه من أشكال وقنوات ثقافية وفنية عديدة تتضمن فنون السينما والتشكيل والموسيقى والمسرح والفوتوغرافيا وفنون العمارة والتصميم ومفردات المتاحف والآثار، وهي فنون ترتبط بالأدب ومناشطه أعمق ارتباط.
لا نرى إذن أي معنى لتجاهل هذه المنظومة الفاعلة من المؤثرات، ولا جدوى من الصمت الذي يتجلى في سلوك الجهات المعنية بالثقافة والفنون أمام تعطيل عروض سينمائية ومسرحية وموسيقية وتشكيلية في أكثر من مدينة دون أن تفزع تلك الجهات لأحد.
والخلاصة أننا لا نضع هنا سوى آمال وأمنيّات تتلبس رداء المقترحات، أما المطلوب فهو أن يخرج هذا المؤتمر بخطة شفافة ذات توصيات محددة وعملية يمكن تنفيذها، وأن نمتلك الشجاعة أمام كل مؤتمر قادم لكي نضع أمام مرأى الجميع ما تحقق منها، وإلى جوارها جردة حقيقية بكل الخسارات.
افتتاحية العدد الجديد من مجلة “دارين” التي يصدرها نادي الشرقية الأدبي