تزور المكان فتضاء لك غوامضه.
ثغرات كثير تنسد.
الهيكل العظمي يكتسي لحماً.
تصبح التفاصيل الصغيرة لا الخطوط العامة هي الحقيقة، أو أقرب شيء إليها.
هكذا اتضح لي الكثير من غوامض البحرين التي عدت من أول زيارة لي إليها قبل يومين. ويبدو ان العلم بالمكان لا يكفي لمعرفته ولا يرقي به إلى رتبة العيان لأن في الأخيرة تحضر حواس ومدركات لا يتوافر عليها الأول.
فمن الصعب أن يتطابق وصف المكان مع واقعه.
فاللوصف، مهما حاول الشمول والحيدة، ثغراته، نقصانه، ما احتفي به وما أهمله لسبب أو لآخر.
هذه استنتاجات معروفة لا جديد فيها.
الجديد الوحيد فيها ان تتأكد عند كل زيارة تقوم بها إلى المكان، حتى ذلك الذي تظن ان الوصف استنفده وأتى عليه تماماً كالقاهرة.
فكل زيارة لي إلي القاهرة، أعرف قاهرة لم اكن أعرفها من قبل، لا لأن العمران يتسع ويتطاول عشوائياً، بل لأنني لم أكن أرى.
تمر بالأمكنة شيء و تراها شيء آخر. هناك نظرة عابرة وهناك نظرة فاحصة. الأمكنة ليست سطوحاً مهما استوت وانبسطت، تلك نظرة من لا يتورط بالعلاقة مع المكان.
إنها طبقات متراكبة تحتاج إلي وقفة حفرية . لذلك لا أزعم أنني وقفت، تماماً، هذه الوقفة لدي زيارتي إلي البحرين.
ولكن الزيارة على عجالتها والغرض المخصوص الذي تمت لأجله أثمرت صورة أخري للبحرين، اكثر وضوحاً و قرباً من تلك التي كانت تحضر في متداول المعرفة عن هذا البلد الخليجي، خصوصاً في السياسة التقدمية العربية.
فقد رأيت، ولو جزئياً وبعجالة، بحرين من لحم ودم. لا مجرد تخطيط لها (سكتش، كروكه) سطره الصراع الطويل بين المعارضة والحكم.
كان يغيب: التاريخ، الثقافة، الناس، الروائح، أغاني النهَّام ، الشعر الحديث، التجريب الفني عن هذا الصراع المرسوم بالأسود والأبيض.
بحرين الناس، العمق التاريخي، التعدد المذهبي، الطقوس الدينية والاجتماعية نادراً ما تراءت لنا في الخطاب السياسي.
ويبدو أن من طبع السياسة الاختزال والتجريد سواء صدرت عن الحكم أم عن المعارضة، لذلك لا ينبغي ان يعوّل عليها لمعرفة المسالك والممالك، مع ان السياسة في البحرين، يا للمفارقة، لديها اليوم أنباء سارة تزفها لنا.
ولكنني لم أذهب إلى البحرين من أجل السياسة، رغم انه الشغل الشاغل للبحرينيين هذه الأيام، وتكاد تصرفهم عن كل هم آخر، ولكن من أجل الشعر.. وتحديداً من أجل قاسم حداد.
وهما كانا، لي، أول مدخلين إلي البحرين، فقد سبقت القصيدة البحرينية الحديثة صخب السياسة واستقرت عندي كأول معرفة بهذا البلد العربي ذي التاريخ المتفرد الذي انتج قديماً حلقة حضارية متميزة (دلمون، القرامطة) وحديثاً حركة سياسية واجتماعية وثقافية لا مثيل لها في أي من أقطار الخليج العربي. ولهذا كان قاسم حداد بحرينياً. أي أنه ليس وليد طفرة أو قفزة في الفراغ، بل ابن سياق اجتماعي وثقافي اتسم طويلا بالحركة والصراع واتصل، بصورة أو أخرى، بسياق عربي وعالمي أوسع.
أما سبب الزيارة (بمعية الصديقين صبحي حديدي وعبد المنعم رمضان) فهو انضمام البحرين إلى سلك الدول التي تحتفل بيوم الشعر العالمي الذي أطلقته اليونسكو العام الماضي واختيارها (أي البحرين) هذا اليوم لتحتفي فيه بشاعرها قاسم حداد وذلك لمناسبة نيله جائزة سلطان العويس.
مناسبتان ما كانتا لتتما، ربما، لولا الجو الانفراجي الذي أخذت البحرين تشهده مؤخراً طاوية بذلك صفحة مؤلمة من تاريخها. هكذا يجيء الاحتفاء بالشعر وقاسم حداد في بحرين تتصالح مع نفسها وتلتقط اتجاهات الريح في العالم وحولها.
قد لا أكون رأيت الكثير مما ينبغي أن يُري في البحرين، مثل شجرة الحياة، المدافن، مسجد الخميس، معبد باربار، ولكنني بالمقابل رأيت من لم اكن أتصور ان أراهم هناك. ففي افتتاح المهرجان الشعري وفي الأمسيتين الشعريتين اللتين تلتاه، وفي فعاليات أخرى التقيت عدداً من المعارضين والمنفيين البحرينيين الذين كانوا في الخارج وعرفت بعضهم في بيروت ودمشق ولندن وقد عادوا إلى بلادهم يمارسون نشاطاتهم السياسية من خلال أطر تنظيمية مشروعة.
كان منظراً مثيراً فعلاً ان ترى قادة المعارضة (وبعضهم شن كفاحاً مسلحاً ضد النظام) يعقدون الاجتماعات التنسيقية لمواجهة استحقاق الانتخابات البلدية المقبلة ويقيمون تظاهرات جماهيرية.
لقد ذكرني ذلك بالمشهد الذي رأيته في الأردن عام 1990 عندما عدت إلى البلاد بعد أربعة عشر عاماً من الغياب.
كان الأردن، كذلك، يشهد ربيعاً داخلياً لم يعرفه منذ عقود.
الربيع هو، أيضا، الفصل الذي تعرفه البحرين اليوم ونأمل له ان يطول.
إنه الفصل الذي يتم فيه الاحتفاء بمن صنعوا للبحرين جهة في الشعر والحرية وليس هناك، علي ما أظن، اسم بحريني ارتبط بالشعر والحرية اكثر من قاسم حداد.@
جريدة (القدس العربي)- لندنp
ليس المستحيل الأزرق الذي يتسمى به الكتاب المشترك بين الصور السعودي صالح العزاز والشاعر البحريني قاسم حداد سوى ذلك الفضاء الغامض الذي يرتفع فوق الصحراء ويصير لها أفقا مرة، سماء مرة أخرى، متاهة حيناً، وبحراً مقلوباً حيناً آخر. إنه أزرق الأبد الذي نظنه بعيداً وهو ملء العين والبصر.
من يعرف المكان الصحراوي ويرى صور صالح العزاز يعرف عماذا أتحدث، فبوسع السماء، هي الأخرى، أن تكون صحراء، ولكن أقل تيهاً من صحراء الأرض لنقل الربع الخالي، مثلاً، فالسماء، على الأقل، مخترقة ومثبتة، بالعلامات، بينما الصحراء متاهة كبيرة بلا علامة تكرار أبدي.
أنها المتاهة التي وعد بها الملك العربي ملك البابليين، الذي أذله بمتاهته النحاسية في قصة بورخيس الشهيرة ملكان ومتاهتان، وبرَّ ملك الصحراء بوعده ? ولكن إذا كان بوسع الصحراء أن تكون سماء، متاهة، مدى لا يحدُّ، فبوسعها، وهذا اكثر شبه دارج لها، أن تكون بحراً ولكن ليس من الصفرة المتموجة، كما ترينها الصور الغربية الملتقطة للصحراء، وإنما من تدرجات الأبيض والأسود والرمادي، وبهذا تخرج عدسة صالح العزاز مما هو متوقع من صور الصحراء في البدء كانت الصورة العزاز، يقلب، هنا، المأثور ويقدم لنا صورة تستجيب لها وتتضافر معها كلمة قاسم حداد الشاعرة. وجدت الصورة، في هذا العمل، قبل الكلمة، فصار على الكلمة التي لا تقبل، عادة، المكان الثاني، أن تخلق صورتها لا أن تصف، أن تنشئ لا أن تشرح، أن تقيم صورة على صورة، لا مجرد نص على صورة.
وقاسم حداد مولّد صور بارع، امتلكت كلمته دربة مع اكثر من فن فقد وقفنا من قبل على جدله مع خطوط وألوان ضياء العزاوي الملحمية ومغامرته مع موسيقى خالد الشيخ، وها هو يدخل في تحد صعب مع الصورة الفوتوغرافية التي تكتفي، عادة، بنفسها باعتبارها نصاً بصرياً لا يحتاج إلى وسيط آخر. لكن كلمة قاسم حداد ليست وسيطاً ولا هي جسر تعبره الصورة إلينا، بل هي نص آخر يتفاعل في كليته مع عمل من طبيعة أخرى.
عين صالح العزاز، كما تتبدى لنا في المستحيل الأزرق، هي ابنة المكان عين تعرف ما الذي تقع عليه وتألف ما تقتطف من تفاصيل المكان. ليس المكان، هنا، شاملا وكلياً ومصمتاً، كما هو في الصور التي تريد أن تجمع وتختصر كل شيء بل هو مكان مخترق بالتفاصيل والعلامات والآثار، وعين ترى هذه التفاصيل وتلتقطها، هي ابنة المكان لا قادمة إليه من السياحة أو الفكرة المسبقة، فلا تتعامل معه بدهشة وطرافة من يراه للمرة الأولى، رغم ما يزخر به وينطوي عليه المكان من غرائبية أحيانا. ليست المفارقة، أذن، هي زاوية نظر العزاز إلى المكان، ولا هي الغرابة، بل لعلها الألفة القائمة الراسخة. أتحدث هنا عن أفضل ما التقطته عدسة المصور السعودي، لا تلك الصور التي ضُمت إلى الكتاب من قبيل التساهل والتداعي مع طرافة عابرة أو الميل، أحياناً، إلى صنع المفارقة، لا التقاطها في عفويتها الأولى.
كتاب المستحيل الأزرق هو مناسبة، أيضا، للتساؤل عن وضعية فن الفوتوغراف في الثقافة العربية الحاضرة، الذي يبدو انه، بين الفنون البصرية والأدبية الأخرى، هو الوحيد الذي لم يصنع تراكماً و أسماء وطرقاً، وظل مجرد جهود ومغامرات فردية، معزولة، بدليل أن المكان العربي وأناسه مصوران من قبل الأجانب. فقد اعتدنا أن تأتي عين أجنبية لترينا صورتنا، وهي ليست دائماً ما نريد أو نحب، كما أنها لا تعبر، دائماً، عن حقيقتنا. العين الأخرى هي التي رأت، حتى الآن، المكان العربي وأهله، وهذه عين ترى ما تريد، أو ما تعرفه سلفاً، فالمكان العربي في العين الأخرى، لم ينج من فنتازيا وتنميطات الاستشراق.
لا أتذكر أنني وجدت في اغلب البلاد العربية التي زرتها، كتاباً مصوراً عن المكان بعدسة مصور عربي، ناهيك بطبيعة الحال، عن الكتابة حوله بقلم عربي وباللغة العربية. أتذكر، في هذا الإطار، تطوافي العبثي في الدار البيضاء والرباط وفاس ومراكش،في زيارات مختلفة، للحصول على كتاب بعدسة أو بقلم كاتب مغربي عن المكان المغربي، الذي هو ،إلى جانب مصر، من أكثر الأمكنة العربية تصويراً بعدسات الأجانب، الأوروبيين خاصة ولكن من دون جدوى. ولا يختلف الأمر عما هو عليه الحال في بلدي الأردن، حيث احتفظ بمكتبتي في لندن، بكتب مصورة عدة للمكان الأردني كلها بعدسات مصورين أوروبيين محترفين أصدرتها لهم كبرى دور النشر الأوروبية المهتمة بالأمكنة أو السياحة.
كتاب المستحيل الأزرق واحد من كتب قليلة حققها مصورون عرب عن أمكنتهم، وهو يأتي في فترة تشهد اهتماماً متزايداً بثقافة المكان و إعادة الاعتبار إلى البيئة الطبيعية التي جنى عليها الكونكريت الزاحف، عشواء، في كل اتجاهو أخيرا يكتب قاسم حداد عن فضاء أزرق شاسع تعبره قافلة من الجمال إلى ما لا نرى في إحدى صور العزاز :
( من الأزرق المستمر إلى الأزرق المستطيل من الأزرق المستقر إلى الأزرق المستحيل )
إنه أزرق المكان الأول الذي عندما نرى صوره على الأقل في مكان الهجرة البريطاني تأخذنا الذاكرة إلى طفولة شبت تحت شآبيب ذلك الأزرق البعيد.@
(المستحيل الأزرق) صدر كتاب - قاسم حداد - صالح العزاز - في روما - ايطاليا - مارس 2001 |
إقرأ أيضاُ