لنقل، بداية، إنها من المرات القليلة التي تأتي فيها ترجمة إلى العربية لواحد من كبار شعراء العصر، من اللغة الأصل مباشرة، من دون أن تكون لغته واحدة من تلك اللغات المتداولة بكثرة بيننا وأقصد، الفرنسية، الانكليزية، الإسبانية، وإلى حدّ ما الإيطالية... تأتينا الترجمة من اللغة السويدية رأساً من دون أن تمرّ في لغة وسيطة، وفق العادة التي لجأنا إليها، مرغَمين، لردم هذا الفراغ الكبير الذي نعاني منه: النقص في الترجمة من لغات بعيدة، غير متداولة في ثقافتنا - بكثرة. كذلك تضعنا أمام مفارقة أخرى، وهي الترجمة الشعرية، التي تبدو اليوم بمثابة مشروع غائب عن جدول غالبية أعمال الناشرين، الذين يتذرعون أحياناً بأنهم لا ينشرون الشعر الموضوع، فكيف بالشعر المترجم.
من هنا تأتي ترجمة «الأعمال الشعرية الكاملة» (التي قام بها قاسم حمادي، والتي تصدر عن منشورات «الجمل») للشاعر السويدي توماس ترانسترومر، لتضعنا أمام قراءة جديّة، بمعنى أن الذي لم يقرأ ترانسترومر، لا في لغته الأم، ولا في ترجمات أخرى، لا بدّ له، أن يدور قليلاً في فلك هذا الفضاء اللغوي الذي يأتي حاملاً معه لغة أخرى، مختلفة، بعيدة عن تواتر هذه الصيغ التي عرفناها في شعر أجنبي آخر.
تقترح علينا هذا الترجمة إذاً، اكتشاف هذا الشاعر السويدي، المولود في مدينة ستوكهولم العام 1931، والذي كان يعمل محللاً نفسياً، والذي عدّه الكثيرون أحد كبار شعراء النصف الثاني من القرن العشرين، بل أكثر من ذلك، إذ يجد فيه «شيل اسمبارك» (عضو الأكاديمية السويدية) بأنه يقف «في مصاف سويدنبرغ وسترندبرغ من حيث أنهما لعبا دوراً كبيراً في الثقافة العالمية». أضف إلى ذلك أن الشاعر الروسي الراحل جوزف برودسكي (نوبل للآداب 1987) قال عنه ذات مرة «أعترف أنه شاعر من الدرجة الأولى، يمتلك ذكاء غير معقول، وقد استعرت منه العديد من الصور». قد تكون الصورة، نقطة أساسية في عمل ترانسترومر الشعري، إذ يعترف الجميع بأنه عرف كيف يجدّد فن الاستعارة. وهي نقطة يشير إليها أدونيس في مقدمته للأعمال الكاملة حين يقول: «إذا كانت الصورة «فجر الكلام» كما يقول باشلار، فإننا نجد هذا الفجر في شعر ترانسترومر. ولئن كان التعبير الحيّ يرتبط بالقدرة على إبداع الصور، فإننا كذلك في هذا الشعر مثالاً فريداً عن هذا التعبير».
كلام أدونيس يتقاطع بهذا المعنى مع موقف الشاعر رينو إيغو الذي كتب مقالة «ملحقة» ومعمقة، جديرة بأن تعتبر دراسة على حدة، قائمة بذاتها - لأعمال ترانسترومر التي صدرت بالفرنسية حين يقول «إنه يشكل مرجعاً حول صور شعر غنيّ في إدراكه العالم» ويضيف: «إن ترانسترومر ينجح في قراءة هذه الهيروغليفية التي ينبثق منها قليل من النور الأصمّ. هل يشكل هذا عودة إلى الوراء؟ أبداً، بل هو قفز في المجهول الجديد، حيث أعطى العصر للشاعر، حياة عالم ليس سوى حديقة الأنواع المعروضة. بيد أن هناك رقاً ممسوحاً، مشطوباً، لا نستطيع أن نفك منه سوى مقاطع رقيقة. لقد أصبح الفضاء الطبيعي، حيث الحركات التي تتجاوب مع دورات قابلة للإصلاح مزدحماً ومجتازاً بجميع شارات الحداثة الصناعية والمدن المترامية والحشود العديدة وناطحات السحاب والمصاعد، السيارات التي تسير على الأوتوسترادات، الأحاديث العابرة على الهاتف. ثمة العديد من شارات الحداثة التي تمر في شعره، في حين كان الشعر، وفي أجزاء كبيرة منه، يحاول أن يجيب عن تعقيدات العلم والتقنيات التي تعترض الإنسان المعاصر».
دقة نادرة
كلام رونو إيغو هذا حول ترانسترومر، الذي يلخص جزءاً كبيراً من عملية الكتابة عند هذا الشاعر السويدي، يأتي ويغني النقاش من دون شك، حول خيارات «وحي» الشاعر المعاصر، أضف إلى ذلك، إن الواقع الذي يعيش فيه، يفرض نفسه حتى على القصيدة. من هنا، يتبين لنا، عبر انحيازه في الكتابة، إن قصائده لا تملك بالضرورة خاصية سياسية أو اجتماعية، بل تُظهر لنا كيف أن «الكائن» حاضر في أشكال مختلفة ومتنوعة، تماماً كما في قصيدة «سير»:
« تزحف الشاحنات في الضباب/ كظل يرقة اليعسوب الكبير/ الذي يتحرك في الماء العكر في قعر البحيرة./ (...) نأتي في الغسق من جميع الجهات ظلالاً، مراكب/ نسير بعضنا وراء بعض/ إلى جانب بعض، ننزلق إلى الأمام في/ نذير خافت/. خارجاً في السهل حيث تربض المصانع/ وتغرق المباني ميلمترين/ في السنة يبتلعها التراب ببطء...».
بهذا المعنى، نقع في شعر ترانسترومر على دقة ملاحظة نادرة، يصل إليها برهافة هادئة، أي بدون أي ادعاء: فالإنسان يعيش اليوم في عالم من الحديد والكهرباء، يعيش ويرى عبر الذبذبات. إن القياس هذا، يملك آلاف الأسماء كي يشير إلى «اليومي»، الخاص به، حيث كل شيء محدد: الزمن، المسافة، الفضاء... ومع ذلك، فإن هذه المعطيات تبدو قد تعرّضت لخضات الطبيعة الإنسانية ولتعقيد الأشياء واللحظات العائدة للصورة نفسها، إذ يقع الكل في نوع من الحيوانية التي تشير إلى وحشية العالم:
يتبدى شعر ترانسترومر وكأنه يقترح، في جانب كبير منه، كتابة سرعة الأحاسيس، ومع ذلك، لا نجد لديه أيّ حنين لأرض متناغمة يتمناها - أو يَحلُمها - العديد من شعراء اليوم. ربما كانت هذه هي حدوده. لا نجد عنده وعي ذلك الشاعر الذي يساعد الناس على الاقتراب من العالم كي يبنيه بشكل مختلف. نجده يرتع أكثر في المعاينة، بعيداً عن أيّ وهم في تغذية وجهات نظر أخرى، لذاكرة العالم، فالحدود ليست واحدة. يأخذنا الشاعر أكثر صوب المأزق، ومع ذلك، يقول لنا، كيف انه يستطيع التنفس وكيف يجد الوقت ليتخطى جنون الأمكنة وامتداد المدن المجنون. هل لذلك، يحيلنا إلى الرسم والى حب الموسيقى من حيث إنهما يقدّمان لنا فضاءات للتأمل، غنية باحتفاءات الطبيعة التي لم يفسدها الإنسان، كما في قصيدة «مادريغال» (غزلية)، يقول:
«ورثت غابة معتمة نادراً ما أذهب إليها. لكن يأتي يوم سيتبادل فيه الموتى والأحياء أماكنهم. وقتذاك تبدأ الغابة/ بالحركة./ لسنا بدون أمل. أصعب حالات الإجرام تبقى بلا حل رغم/ جهد عدد كبير من رجال الشرطة. بالطريقة نفسها يوجد حب/ كبير بلا حل في مكان ما داخل حياتنا./ ورثت غابة معتمة لكني أذهب اليوم إلى غابة أخرى،/ الغابة المنيرة. كل شيء حي يغني، يتلوى، يلوح،/ وزحف! إنه الربيع والهواء شديد القوة. أحمل شهادة من/ جامعة النسيان، ويداي خاليتان كمثل قميص على الحبل.»
المزاح
لا يغيب المزاح عن قصائد الشاعر السويدي. وما يشتت القارئ في تجديد ترانسترومر، ذلك السعي إلى القرف من اللغة المحلية كما من السخرية الفسيحة أحياناً. تبدو هذه الكتابة أحياناً دليلاً على السهولة، لكن إن كانت قد تحصنت عبر السنين، فذلك عائد لاستنادها إلى الصور التي تكتب عبر النقص في التناغم والقوة في مجمل القصيدة. من هنا، ثمة سؤال يطرح: كيف يكون المرء متناغماً حين لم يعد العالم كذلك؟ لا يكفي أبداً هذا الاحتمال، فالشاعر هو فنان التجلي والتغيير حيث يتوجب عليه أن لا يضحّي بالأثر في سبيل كثافة القصيدة. ثمة العديد من الصور الطفيلية في القصائد، قد يسعد هذا بعض عشاق هذا النوع من الأدب، وإن كانت غير كافية، لتعطينا معنى اتساع الشيء الذي يستدعيه الشاعر.
من هذه الزاوية، نشعر بقليل من الشك: فلو كانت كسور هذا النص وحرائقه ونبراته الساخرة تمتزج بين الاعتراف والوصف غير المندفعين، فهذا معناه أننا أمام أدوات شعرية جديدة! علينا قبول حداثة الشاعر كما قبلنا تعقيدات العالم الذي يشغل جزءاً منه. القارئ هنا، منذور لعمل ذي أهمية كبرى، إذ عليه أن يقوم بخياراته، وهو يشك ومعه الحق في ذلك - ببعض المقاطع. في صوره، توازن سري، توازن سعيد لانفتاح روح نادرة أمام عصرنا. نحن أمام فكر غني تنبثق منه ذاكرة العالم والأحداث والأحياء، حيث يقطف صمت العالم السحيق: «أمضي قدماً، إنهم مدفونون./ تنـزلق غيمة فوق قرص الشمس./ الجوع مبنى عال/ ينتقل في الليل/ في غرفة النوم ينفتح عمود نفق المصعد/ المظلم، نحو الأحشاء./ أزهار في الخندق. لحن بوق منتظم وصمت./ أمضي قدماً، إنهم مدفونون.../ أواني المائدة تحيا في قطيع كبير/ في عمق كبير حيث الأطلنطي قاتم». مثال آخر، أستله من شعر ترانسترومر، لأسأل إذا جاز القول كيف يمكن قراءة قصيدته المعــنونة «في آذار 79»، يقول:
تعب من كل الذين يجيئون مع كلمات. كلمات وليس مع لغة.
أرحلُ إلى الجزيرة المغطاة بالثلج
ليس للجموح كلمات
هذه الصفحات البيضاء تنتشر في جميع الاتجاهات
أسقط على آثار قوائم أيل في الثلج
ما من كلمات. بل لغة.
هل يمكننا في ذلك أن نجد محاولة من الشاعر كي يحدّد شعره، هذا الشعر الذي تتواجه فيه اللغة مع الكلمة؟ في هذه القصيدة القصيرة، هل يمكننا أن نشبه الكلمات «بآثار قوائم أيل في الثلج» وأن نزاوج بين إمكانية مسارها فوق الثلج وبين اللغة؟ لو فعلنا، لأمكننا عندئذ أن نعتبر بأن على الكلمات، عند ترانسترومر، أن تكون محددة بمنتهى الدقة وبالتالي تصبح ضيقة (فيما لو استعرت ضيق العبارة من عند النفري، حين تتسع الرؤيا) لكي تستطيع أن تبرر هذه الأحاسيس، الزائلة أحياناً، كما لتبرير هذه المروحة الواسعة من المشاعر المعيشة والحاضرة. كلمات ضيقة، لتثبت، عبرها فقط، هذا الشيء الهارب أصلاً والمبرهن عنه، لحظة إثر أخرى، في جسد الشاعر الحيّ. إذ أن اللغة، من جهتها، تحشد الكلمات في تنسيق غير مسبوق. ومثل آثلام مسار، يمكن لها أي الكلمة أن تكون شاهداً عن حياة متفردة لكائن ما. منها، ينبجس هذا الغنى، هذه القوة في الاستدعاء لكي تتشظى لاحقاً في مدى متعدد. حينذاك تسمح لنا اللغة بأن نقول شيئاً آخر عمّا كانت تقوله الكلمات منفردة، أي في تبعثرها الخاص. اللغة هي عنصر تمفصل الكلمات كما أنه هذه الطاقة التي تدفع الكائن خارج نفسه، أي ربما خارج كينونته.
الشعر هو، في النهاية، لغة فرادة حياة ما. هي أثر المسارات الحميمة في سياقات الممكن المتعدد. إذ أن ما نحياه في داخلنا كما في خارجنا لا يمكن اختصاره بكلمات فقط بل بالأحرى بتمفصلات كلمات هي اللغة عبر تشابك أحاسيس تتصادم بعضها بالبعض الآخر، لتجتمع وتتكتل أو لكي تتعارض.
أمام ذلك كله، يضعنا شعر ترانسترومر أمام طبيعة شعرية، أيّ أن الشعر هنا ربما يتموضع في هذه المسافة الموجودة بين الذات أيّ ما نشعر به وبين التعبير عما نشعر به. بمعنى آخر، ثمة مسافة ما بين المعيش وبين الطريقة التي اخترناها لنعبر عن هذا المعيش. من هنا، السؤال الذي أنساق إلى طرحه هو التالي: ما هي هذه المسافة اللغوية، الكامنة، ما بين ألم عاطفي يحرق الجسد وبين عبارته الشعرية الآتية عبر كلمات وشكل وإيقاع وصوت؟ ربما هي الكتابة التي يمكنها أن تختصر هذه المسافة ما بين «المشعور» به وبيت عبارته، فوق الصفحة البيضاء عبر استعماله لكل «سجلات» اللغة.
السفير 9
ديسمبر 2011