في منتصف الخمسينيات كانت بداية هنري فريد صعب مع الشعر، إذ نشر قصيدته الأولى وكانت عمودية في مجلة الآداب البيروتية. أكثر من خمسين سنة مرت ولم تتغير بعد علاقة الرجل بالكلمة التي تشعره دوما بقلقها الأبدي، هل لذلك تأجل النشر عنده مرارا؟
عمر من الكتابة لم يصدر خلالها سوى كتابين، الأول كان العام 1999 عن دار الجديد بعنوان "في المسافة بين السهم والطريدة" والثاني صدر مؤخرا عن دار نلسن بعنوان "ظهورات في دروب الغابة". قد لا يكون العدد كبيرا، لكن متى دلّ ذلك على حدود التجربة وعمقها؟ طويلا اعتقد الشاعر انه يريد أن يكون صاحب ديوان فقط، من هنا بقاؤه، في ذلك "الهامش" ينتظر بالقراءة لغاية أن أحس بهذه الحاجة لأن يترك الكلام ينبثق ويفيض عن مساره. هل القضية هي كذلك فعلا؟
إنها محاولات للأجوبة، من هنا كان هذا اللقاء بحثا عن معنى الكتابة وعن معنى للتجربة، تجربة الشاعر، الغنية من دون شك.
"في المسافة بين السهم والطريدة"، ديوانك الأول، صدر العام 1999 وكنت بدأت الكتابة قبل ذلك بفترة طويلة. من هنا أول سؤال يطرأ على بالي، لماذا تأخرت كل هذا الوقت كي تصدر مجموعتك الأولى؟
الشعر بالنسبة إليّ هو هواية وكنت دائما أطمح إلى أن أكون صاحب ديوان واحد على غرار بعض الشعراء أصحاب الديوان الواحد، يضم كل تجاربي الفكرية والأسلوبية، هذا أولا. وثانيا كان عندي هم بلوغ الكمال في ما أكتبه، بالإضافة إلى رهبتي أمام الكلمة وشكي الدائم في قيمة ما أكتبه فضلا عن تفضيلي الدائم للقراءة على الكتابة. فأنا أعتبر القراءة الجادة نوعا آخر من الكتابة ومتعة ان لم تزد عن متعة الكتابة، تعادلها. كل ذلك كان يحد من انطلاقي نحو التأليف لأني أعتبر التأليف عملا تجاريا لا شأن له مع الفن. وأنا لا أطمح لأن أكون مؤلفا، حسبي أن أعبر عن نفسي بصدق وإتقان إذا قدر لي ذلك.
وما الذي تغير حتى تصدر كتابك الأول وقد تبعه الديوان الثاني مؤخرا. هل وجدت انه من الصعب عليك أن تكون صاحب ديوان وحيد؟ هل خانتك المتعة والرغبة ولم تستطع إطالة فترة الصمت؟
ظللت مترددا حتى وقعت عيني على نص لفرناندو بيسوا يتحدث فيه عن عذابه مع الكتابة، فوجدت عزاء لديه. ثم اكتشفت حديثا مع خورخي لويس بورخيس عندما سئل لماذا تكتب وتنشر فأجاب بأنه يكتب حبا بالكتابة وينشر كي لا يبقى يصحح مسودات فتشجعت.
قبل المتابعة، أريد أن أعود قليلا إلى الوراء، متى بدأت كتابة الشعر؟
بدأت كتابة الشعر العمودي في سن الرابعة عشرة ونشرت أول قصيدة عمودية في مجلة الآداب سنة 1954، وكانت بعنوان "الواقع المر"، ثم انتقلت من العمودي إلى الشعر الحر وقد نشرت بعض القصائد في الآداب أيضا، على وزن التفعيلة. بعدها توقفت عن النشر وأمضيت سنوات في القراءة فقط دون أن أكتب شيئا إلا في ما ندر.
ثم قدر لي أن أتقن الانكليزية والاسبانية إلى الفرنسية ورحت أغوص في أمات الكتب، في هذه اللغات الثلاث، إلى أن اكتشفت شعراء أميركا اللاتينية الذين أثروا بواقعيتهم السحرية في رؤيتي المستقبلية للنسيج الشعري والأدبي، ولا سيما من الناحية الفانتاستيكية التي تلف أعمال "أساطير من غواتيمالا" لأستورياس و"أقاصيص" خورخي لويس بورخيس التي تعتبر قصائد شعرية باعتراف أوكتافيو باث بالذات في كتابه التنظيري "القوس والقيثارة". كما تأثرت بالكوميديا الإلهية لدانتي التي أعتبرها قصيدة فانتاستيكية من لوحات متعددة، حيث السرد فيها يرتفع إلى مستوى الشعر، مطعما بالفكر. والذي يقرأ مجموعتي الأخيرة "ظهورات في دروب الغابة"، قد يلاحظ أني أحاول أن أكتب قصيدة السرد وهي أصعب بكثير من قصيدة النثر، لأن السرد خطر في الشعر. فهو يحاول أن يلجمه فيما الشعر يحاول أن يتفلت منه. وهنا الصعوبة. وعلى مالك التقية أن يوفق بين الاثنين. ولا يعني ذلك النجاح الدائم فهناك مطبات وعلى الشاعر ان يعرف كيف يتجاوزها.
قبل اكتشافك أدب أميركا اللاتينية الذي لعب دورا مهما في رؤيتك الكتابية، كما أشرت، من هم الكتاب العرب الذين أثروا فيك؟
قبل شعر أميركا اللاتينية كان لي جلسات طويلة مع الشعر الفرنسي من الرومنطقيين إلى الرمزيين إلى السورياليين وأخص بالذكر هنري ميشو الذي حاول قصيدة السرد ولكن سرده جاء جافا. إذ كان يتكل على جو القصيدة أكثر من بنائها. وشأنه في ذلك شأن فرانز كافكا في أقاصيصه القصيرة الأشبه بقصائد نثر في مجموعته "جدار الصين" وكذلك صموئيل بيكيت. أما في الشعر العربي فقد صاحبت حتى الشغف في مطلع الشباب الأخطل الصغير وإيليا أبو ماضي وفوزي المعلوف في قصيدته "شاعر في طيارة" (خصوصا) والياس ابو شبكة وسعيد عقل وشعراء العربية القدماء كالمتنبي وأبي تمام والبحتري والمعري وبالأخص أبو تمام الذي اكتشفنا متأخرين أسبقيته في تزويج الأضداد بين الأشياء التي أتحفنا بها أندريه بروتون وبيير ريفردي قبله. ودليلي على ذلك سأسمعك بيتين أو ثلاثة لأعطيك فكرة عن هذا الشاعر الذي سبق زماننا بأجيال:
وركب يساقون الركاب زجاجة
من السير لم تقصد لها كف خاطب
وأيضا:
أبديت لي عن جلدة الماء الذي
قد كنت أعهده كثير الطحلب
أو قوله:
سلوت ان كان رأيك ما تقول إذا
جعلت أنملة الأحزان في أذني
نلاحظ هنا أن هذه الصور: "زجاجة من السير" و"جلدة الماء" و"أنملة الأحزان" قد جاء بها شاعرنا أبو تمام قبلنا نحن المحدثين بعشرة قرون. فماذا أضفنا إلى ذلك.
وعلاقتك مع أبناء جيلك الذين أسسوا للحداثة الشعرية في الخمسينيات، مجلة شعر وغيرها، أين كنت تقف منهم؟
كانوا أصدقاء لي في مجملهم، ولي بينهم أصدقاء حميمون ولكني لم أنتمِ إلى الجمعيات والرابطات الأدبية التي كانوا يؤلفونها أحيانا. كنت خارج الانتماءات الأدبية والسياسية.
لماذا هذه الرغبة في البقاء على الحياد أو لنقل على هامش الحركة الثقافية التي كانت تتشكل يومذاك؟
لأنني لم أكن، كما قلت سابقا، مقتنعا كل الاقتناع بقدراتي. فالشك الذي لازمني كاد يقضي علي لو لم أتمرد عليه أخيرا. كما انه لازمتني فكرة منذ الصغر وهي إما أكون مثلا رامبو أو لا أكون.
وهل تشعر بالندم لأنك لم تنتبه إلى ذلك في وقت مبكر؟
لا أحس بالندم، ما أردت قوله باكرا قدر لي أن أقوله لاحقا. ولا يهم إن لم أترك عددا كبيرا من المؤلفات لأنني في الأساس لا أطمح إلى التأليف من أجل التأليف. فأنا أستمتع بالعمل الكتابي أكثر من إنجازه وأعتبره كالعمل الجنسي. فما أن تفرغ منه حتى يزول مفعوله. المتعة عندي إذا، هي في الكتابة بحد ذاتها.
عملت أيضا على الترجمة، فأنت تتقن العديد من اللغات الأجنبية. الملاحظ أيضا انك لم تقدم على نشر هذه الترجمات في كتب. أولا لماذا؟ وثانيا، كيف تفهم الترجمة، هل هي كتابة ثانية بالنسبة إليك؟
عندما أحب شاعرا أحاول أن أمتلكه. وأسلم طريقة لامتلاك شاعر، لتدخل إلى صميم أسلوبه هي الترجمة. والترجمة عندي هي عمل إبداعي ثان. بمعنى أني أتقمص الشاعر المترجم وأعمل على نقله بكل طاقتي، بحيث يشعر القارئ بأنه أمام عمل موضوع لا منقول. أي أنني أشتغل على المعادل النسيجي للأصل في لغتي الأم. فإذا ما توافر للعمل المترجم مثل هذه المحاولة تبطل العبارة القائلة "كل ترجمة خيانة"... من الترجمات التي قمت بها "مدائح" لسان جون بيرس مع دراسة، قصائد عديدة لبابلو نيرودا مع دراسة، أقاصيص لميغيل أنخيل أستورياس مع دراسة، قصيدة طويلة لأوكتافيو باث بعنوان "تبييض" مع دراسة، قصائد لخورخي لويس بورخيس مع دراسة، قصائد لأبولينير وقد نشرتها في مجلات أدبية وصفحات ثقافية، أما لماذا لم تصدر في كتاب فلأن دور النشر عندنا ترغب عن نشر الشعر عامة فكيف إذا كان مترجما؟
عملت أيضا كمسؤؤل عن منشورات دار النهار لفترة غير قصيرة (عشر سنوات) لكنك بقيت أيضا بعيدا عن الحركة الثقافية بمعنى من المعاني. لماذا هذا الانسحاب، إذا جاز التعبير، وثانيا، نشرت للعديد من الشعراء، كتبا أولى. ما الذي دفعك إلى نشرها؟
لم أكن أنشر إلا ما أراه أهلا للنشر. وقد نشرت لشعراء أصبحوا اليوم معروفين، أول عمل لهم. ولأني بعكس بقية دور النشر أميل أساسا إلى الشعر، لم أتورع من نشر الشعر والترويج له في »جريدة النهار« إعلانا على مدى أشهر أحيانا. بمعنى أني كنت أحب أن أخدم الشعر من خلال شعراء شباب أصبحوا أصدقاء لي. وللأسف لا أجد حاليا أي دار نشر تعنى بالشعر كما حاولت أن أعنى به. حتى أني في فترة، حين شعرت أن "مواقف" لأدونيس معرضة للتوقف، سعيت إلى تحمل نشرها لدى دار النهار مدة سنة. لكن للأسف رغم الهالة التي كانت تتمتع بها "مواقف" لم تستطع أن ترد المبلغ الذي كانت ترصده الدار لها، فاضطرني أصحابها إلى التخلي عنها آسفا. أردت من وراء ذلك أن أقول إني كنت أرى في خدمة العمل الأدبي نوعا من الإنتاج الأدبي الذي لم أكن أحبل به يومذاك. ورأيي كان دائما أن أعمل مع الآخرين بدون عقد، فأنا أسر بنجاح وبنبوغ صديق لي، وكأنه نجاح لي. ربما يجد الآخرون في ذلك نوعا من البراءة. والمسألة ليست في البراءة أو عدمها وإنما في طبعي المتأصل فيّ.
من من الشعراء الذين نشرت أول دواوينهم خلال تلك الحقبة؟
نشرت لعقل العويط أول ديوانين ولبول شاوول "بوصلة الدم" و"وجه يسقط ولا يصل" ولفؤاد رفقه وأعدت طبع ديوان ميشال طراد "جلنار" كما نشرت ديوان عبد الله الأخطل وديوان طلال حيدر "بياع الزمان"... ونشرت لشوقي أبي شقرا ديوانين "سنجاب يقع من البرج" و"يتبع الساحر..".
شعر اليوم
هل تتابع الشعر الذي يكتب اليوم في لبنان والعالم العربي؟
في لبنان طبعا، أتابع أغلب النشاطات الشعرية، أما في العالم العربي فانغلاق الأسواق العربية حدّ من تعرفنا إلى الشعراء الجدد في كل من العراق أو مصر أو سوريا، على العكس مما كان يحصل في السابق حيث كنا على اطلاع دائم على كل ما يحدث في مصر أو العراق وسائر الأقطار العربية، والكل يعلم أن لبنان كان ناشرا ومروجا ومطلقا لكل أدباء العرب تقريبا وشعرائهم. فالجميع يعرف أن السياب والبياتي وبلند الحيدري ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ونزار قباني وأدونيس والماغوط... الخ، كلهم انطلقوا من لبنان. أما اليوم فيقال إن هناك مئات من الشعراء في مصر لا نعرفهم، كذلك حدث في بقية الأقطار العربية.
يبدو شعرك، في جزء منه، وكأنه يتكئ على أساطير وملاحم، كما على شخصيات وسير، وكأنه أيضا، يذهب إلى الاحتفاء بحضارات وعوالم مختلفة. كيف تفسر ذلك؟
إنني قارئ نهم لتاريخ الديانات وأساطيرها وأجدها حقلا خصبا للرموز. والرمز عندي في القصيدة يستعيد مجده السابق إذ انه يختصر تجارب إنسانية سحيقة. وقد أعجبني كتاب لمرسيا الياد بعنوان "صور ورموز" يتحدث فيه، في مطلعه، عن إعادة اكتشاف الرمز. فنحن في نظره نعيش في غابة من الرموز، كل شيء حولنا رمز، يشير إلى الرمز، إلى ما لا انتهاء.
والذي يعرف كيف يفيد من هذا الغنى الرمزي يمكنه أن يحمل قصيدته أبعادا "موشورية" هي اليوم الهم الدائم للعمل الأدبي. يعني أن الأدب الحديث هو أدب "العمل المفتوح"، الذي لا يسلمك ذاته بسهولة. فأنت في متاهة. وكلما اشتد إغراب هذه المتاهة كان الشعر أعجب والى النفوس أطرب. إلى ذلك حاولت ان أتزود من الآثار المكرسة عاميا، من روايات وكتب نظرية وتاريخية، وبعض شخصيات أصبحت تعادل الأسطورة. على سبيل المثال، استفدت من شخصية "موبي ديك" لهرمان ملفيل، من شخصيات كافكا "جوزيف كا.." من شخصيات صموئيل بيكيت، اللص والكلاب لنجيب محفوظ، أي أني حاولت أن أخرج من الأساطير التقليدية إلى الأساطير المبتكرة الحديثة. بهذه الطريقة نخلص من الروتين في الاصطياد من الأساطير اليونانية والرومانية وما شابه.
ثمة ملاحظة أخرى، تبدو شخصياتك وكأنها تبحث عن مكان. تقول في قصيدة "حقل الدم": "لا براءة في حضن المكان". هل هو هذا الخوف الذي يجعلها في بحث دائم عن مستقر لها؟
انه القلق الوجودي الدائم في المكان الذي أنا فيه. أشبه ما يكون بالحيوان في الحجر الذي وصفه كافكا، حيث ظن أنه في مأمن من الجميع فصارت كل حركة حوله تثير قلقه. وأظن هذا هو وضع الإنسان في هذا الوجود حيث تعز البراءة في أي مكان وجد فيه. دائما، هناك شعور بأن ثمة شيئا يتربص بك.
ثمة اختلاف في أسلوب الكتابين، كما قلت، يعتمد الثاني على القصيدة السردية بينما كان الأول أكثر بحثا عن مفهوم للقصيدة. هل ما زلت تبحث عن طريقة، عن أسلوب؟ لماذا يغير الشاعر رؤيته الكتابية في كل مرة؟
كي أهرب من تكرار الذات، فالتنويع الكتابي يضعك في منعطف جديد وفي تجربة جديدة وفي تجاوز دائم لقدراتك، مما يساعدك على الاكتشاف الدائم في مجالات الكتابة لأن كل تجربة هي اكتشاف آخر. وهنا تكمن المتعة التي ما بعدها متعة.
أحب أن أضيف أن شعرك يبدو وكأنه يفترق عما يكتب حاليا، أقصد انك تأتي من مكان آخر للقصيدة، تقع على خلاف وتضاد مع القسم الأكبر مما يكتب اليوم. هل تجد ذلك صحيحا؟ من أين يأتي الشعر عندك؟
نظرا إلى اطلاعي على معظم الإنتاج المحلي العربي بحدود الممكن والأجنبي الواسع في اللغات الثلاث الفرنسية والانكليزية والاسبانية والتي من خلالها يمكن الاطلاع على بقية الكتاب الكبار، تكوّن لدي اقتناع وهو إما أن أكرر ما قاله السابقون وعندئذ فلا ضرورة لإسماع صوتي، وإما أن أنحو نحوا آخر مع ما في ذلك من مغامرة في النجاح أو الفشل، فوجدت أن المغامرة في كلا حاليها تظل أفضل من الاجترار. تحضرني هنا فكرة للكاتب الروائي الأميركي وليم بوروز يقول فيها: على الكاتب أن يقرب عمله دائما بشكل مختلف، كذلك يقول ت. أس. إليوت في مقطع من رباعياته:
ها أنا ذا في وسط الطريق، وقد قطعت عشرين عاما
عشرين ذهب معظمها سدى، أعوام ما بين الحربين
محاولا أن أتعلم كيف أستعمل الألفاظ، وكل محاولة
بدء جديد تماما، ونوع آخر من الخيبة
لأن المرء يتعلم فقط كيف يستولي على الكلمات
ليعبر عما لا يريد أن يقوله بعد، أو الطريقة التي
لم يعد يرغب في أن يقوله بها. وهكذا أفضل مخاطرة
مشروع جديد، وغارة سريعة على المبهم،
بعدة رثة تتلف باستمرار،
في الفوضى العامة لعدم دقة الشعور
وشراذم العاطفة غير المنتظمة.
نفهم من كل ذلك أن التغاير أصح وان كان أخطر من التقليد وان كان أسلم. لأن في التغاير قد تفشل، أما في التقليد فربما تنجح ولكنك مع ذلك قد يطمسك الآخرون الذين سبقوك. فإذا كتبت أنا مثلا على شاكلة فلان أو فلان فما هي قيمة عملي وماذا أضفت؟ كما أن القارئ سيتجاهلني ما دام لديه الأصل فلماذا يقتني التقليد.
ومن ناحية أخرى، كان تركيزي على تزويج الفكر والشعر. وهذا ما وجدته مهجورا لدى أغلب أترابي والذين يتعاطون الشعر أو الأدب. فشئت أن أحاول، لعلي أوفق في هذا التزويج. والأمر متروك بالطبع للزمن فهو محك كل تجربة.
إلى أي جيل تحس أنك تنتمي؟
أنا لا أؤمن بالأجيال، فالأدب عامة ليس له جيل معين. فإنك اليوم قد تقرأ النفري وتظنه من جيلك، فهل يمكن أن تضع النفري مع مجايليه؟ لقد ظهرت مثلا مجلة شعر وشعراؤها عندما كان سعيد عقل وجيله يكتبون الشعر. إن مسألة المجايلة فكرة غير سليمة.
ماذا تريد من الكتابة اليوم؟
ما أريده من الكتابة، أن أعطي عملا فنيا. العمل الفني هو تفسيري للكتابة، لذلك قسمت نشاطي إلى نوعين، التنظيري والفني، فعندما تكون الفكرة واضحة لدي أضعها في عمل نقدي أو تنظيري، أما عندما تكون غامضة ومشوشة فأضعها في عمل فني، لأن العمل الفني ليس مطلوبا منه أي رسالة إلا أن يقدم ذاته في مظهر جذاب وكفى. أما التفسيرات فهي من شأن الآخرين وليس من شأني وأمبرتو ايكو في هذا المجال كان واضحا عندما قال انه عندما يكتب في الألسنية يعمل كل جهده كي يفهم القارئ، فإذا لم يفهم فذلك شأنه لأنه ليس في المستوى. أما عندما يكتب رواية فهو ينطلق من جو سديمي لا يعرف إلى أين يوصله. حتى لو سأله القارئ فلا يستطيع أن يفيده بشيء، وان فعل فيكون من الحمق بمكان.
السفير الملحق الثقافي في 9 أيار 2003