تشكل الروائية البلجيكية آميلي نوتومب مشهدا خاصا في الرواية الراهنة المكتوبة بالفرنسية، إذ إنها منذ أن أصدرت كتابها الأول العام 1993، لم تتوقف عن إصدار كتاب جديد كل عام، ما جعل عدد رواياتها يصل اليوم إلى 19 رواية.
في آخر إصدارتها «شكل للحياة» (منشورات ألبان ميشال) تتحدث عن قرائها الذين يرسلون إليها الرسائل من شــتى أنحاء العالم، وكما العادة بدأت الرواية تثــير القراء وحتى لجان تحكيم الجوائز كما الصحف التي تناولتها بإسهاب.
حول روايتها هذه أجرت مجلة «الاكسبريس» الفرنسية حوارا مع نوتومب، نقدم ترجمة لأبرز ما جاء فيه.
الشخصية الرئيسة في كتابك الأخير هي أحد الجنود الأميركيين، السمينين، الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية، وقد تم إرساله إلى العراق، حيث قرأ العديد من رواياتك. هل أنت على هذه الدرجة من الشهرة في الولايات المتحدة؟
كلا، أبدا، أقوم هناك بجولات صغيرة جدا، لكن أن تتم ترجمة كاتب بلجيكي في تلك البلاد فهذا شيء مميز. أميركا مكان مهم بالنسبة إليّ، إذ عشت هناك ثلاث سنوات، وكانت ما بين الإقامة في الصين الشعبية وبنغلادش، كنت في الثامنة من عمري آنذاك. يعود أصل الرواية إلى مقالة قرأتها في شباط 2009 في فيلادلفيا عن مرض السمنة في الجيش الأميركي المتمركز في العراق. أثارني الموضوع، وظل في روحي. وبما أني أمضي قسما كبيرا من حياتي في هذا المكتب وأنا أتلقى الرسائل، تخيلت، وكي أتحدث عنه، ان هذا الشخص يكتب إليّ.
السمنة
هل تقصيت عن قصة السمنة هذه في العراق؟
بالتأكيد لا، «أبحاثي» هي أبحاث «داخلية». أتخيل نفسي جنديا أميركيا وأكتب عن شيئين أو ثلاثة أشياء يمكن أن تكون حقيقية. مثل أن هذه الحرب لم تجلب أي شيء إيجابي لأحد، لا للعراق ولا لأميركا.
على مرّ الكتاب تصبح هذه السمنة عملا تخريبيا حقيقيا...
في البداية، أصبح الجندي ملفين مابل شخصا سمينا، إلا أن شكله سرعان ما أخذ شكل التخريب اللاواعي، إذ أصبح يسخف الجيش. في الواقع، يقول ملفين إنه يحمل في داخله أجساد الضحايا.
لِمَ تتحدثين غالبا عن أشخاص سمينين في كتبك؟
أظن أن لذلك علاقة بمشاكلي الغذائية، لعل أوضحها مشكلة عدم تناول الطعام التي تعرضت لها، وكانت تجربة قاسية، غير مريحة، لكن هناك أيضا تلك اللحظات من الهلوسة التي قد تكون قريبة مما يحس به الشخص الشره بعد إصابته بنوبة طعام: أزمة من عدم المتعة بل من عدم الإحساس بالراحة. يمكن أن نضيف أيضا واقع إقامتي في اليابان إذ كنت متعصبة لمصارعي «السومو»، أي أن ذلك لعب دورا في نظرتي إلى السمينين، كنت أراهم نصف آلهة يثيرون الخوف.
لكنك تظهرين التعاطف تجاههم، لا الاحتقار. هل أنت كذلك في الواقع؟
لدي حساسية تجاه الاحتقار، لكل أنواع الاحتقار. من هنا، لا أحتمل أبدا أولئك الذين يفكرون في أن السمنة هي التي أصابتهم في نهاية الأمر. ثم إني إنسانة ذات مسامات، وقد فهم الناس ذلك، إذ كيف أقرأ إذاً كلّ هذه الرسائل التي تصلني؟ لا تشكل شهرتي شرحا كافيا. أنا ضحية لهذه «المسامية»، إذ تصيبني عذابات الآخرين، مع العلم بأني لا أعرف ماذا أفعل تجاه ذلك.
إنها مشكلتك، إذ اعتقدت نفسك «ذات قوى غامضة» في حين أنك لا تستطيعين القيام بالأعاجيب؟
تعرفت الى بعض حالات الفتيات المصابات بمرض الامتناع عن الطعام وقد استطعت مساعدتهن فعلا. جعلني هذا، فجأة، أحس بالرغبة في متابعة الأمر، لكن يجب الانتباه لذلك. أحد الأخطار يكمن في التعرض لبغض الآخرين: إذ، بعد أن يكون مليئا بالأمل، يكتشف أنك لست سوى كائن بشري، حينذاك يمكن لي أن أقول لك إنه يصبح يكرهك لدرجة لا تصدق.
2000 رسالة
تقولين إنك تستلمين تقريبا 2000 رسالة يومياً. إن توقف ذلك أيعني أنك أصبحت غير محبوبة؟
بدا الأمر كذلك في بداياتي، لكن ليس الآن. إذ بعد سمات الإعجاب في الرسائل الأولى غالبا ما تأتيك الكلمات بنبرات متحررة من كل أوهام. إن كان في الأمر ما يتطلب الوقوع في الحب، فالسياسة الأضمن تكمن في عدم الإجابة مطلقا.
هذه العادة الطويلة أحدثت عندك نوعا من الاحتفالية في فضّ الرسائل، وهذا ما تكتبين عنه بمرح؟
أفتح الرسائل بالمقص، أضع إلى اليمين تلك التي لا أرغب في قراءتها، وغالبا ما تكون الرسائل الطويلة، في الوسط الرسائل التي لا أعرف خط كاتبها، وإلى اليسار أفصلها، أي تلك التي أتركها للنهاية كي أقرأها، كأنها الحلوى. يتطلب هذا الأمر 4 أو 5 ساعات يوميا. يطلبون في الرسائل كل شيء: المال، أن أجد لهم عملا أو أن أسهل لهم موعدا، مثلما طلبت مني مؤخرا راهبة بلجيكية أن أتدبر لها موعدا مع بريجيت باردو. مع كل التضامن البلجيكي الذي يمكن أن أبرهن عنه، إلا أنني لا أعرف كيف نلتقي بريجيت باردو! هناك أيضا طلبات للقاء آميلي موريسيمو (بطلة فرنسية في لعبة كرة المضرب) وجان ميشال جار وشارون ستون...
ألا يشكل الأمر دوامة ما؟
يمكن أن أصاب بالإعياء ذات يوم، هذا صحيح. وكما أني لا أقوم بنصف الأشياء يمكن أن أوقف كل شيء. في الواقع تكمن العقبة الأساسية في إرادة البعض بلقائي. هنا، أتوقف عن الاجابة كليا. يقولون لي: «إذاً لسنا سوى علاقة ورقية». بالنسبة إليّ لا تزيد العلاقة عن ذلك، إذ ليس فيها أي نوع من الصداقة. إن ما نقوله عبر رسالة لا يمكن لنا أن نقوله بطريقة أخرى. في رواية «نظافة القاتل» نجد هذه الجملة: «الكلمة والكتابة ترتبطان ولا تعودان لتنقطعا أبدا». أحب كل هذه الرسائل، إذ كنت محرومة منها لفترة طويلة، ما بين العاشرة والعشرين من عمري لم يكن هناك أحد.
ولا أي شخص؟
كنت وحيدة جدا. لغاية عمر السابعة عشرة. ولأسباب جغرافية لم تكن صديقاتي الضائعات في البلاد الواسعة يجبن عن رسائلي أبدا، من ثم في الجامعة، في بلجيكا، كنت لا أجيد أن أقيم علاقات صداقة. اليوم، أثمن كل هذه العلاقات، بيد أني أصطدم دائما بجدار الحدود: ما الذي يهمني فعلا كي أتقاسمه مع الآخرين؟ تناول العشاء مع الأصدقاء تسع مرات من عشر؟ أجد أنه الأمر الأكثر سأما في جميع الأزمنة.
«وصفات»
«اللغة بالنسبة إليّ هي أعلى درجات الواقع»: ألا تشكل هذه الجملة أحد مفاتيح الكتاب؟
نعم، أميل إلى ما يسمونه في علم الألسنية بُعد اللغة المناجز: يتحقق الشيء حين نقوله. لقد تحدثت فيرجينيا وولف عن ذلك جيدا: «لم يحدث شيء منذ زمن طويل لم نكتب عنه». لم اشعر بأني عشت حقا ما حدث لي في كتاب «ذهول وارتجافات» إلا في اللحظة التي كتبت ذلك.
متى ولد هذا الميل إلى التراسل؟
لقد فرض علي في البداية. منذ أن كنت في السادسة، فرض عليّ والداي أن أكتب كل أسبوع صفحة كاملة إلى جدي البلجيكي الذي لم أكن أعرفه. لم أكن أعرف ماذا أروي له، في تلك الفترة عرفت فقط القلق من الورقة البيضاء! انتهى بي الأمر أن أفهم أنه عليّ التعليق على رسائل الآخرين، وقد أصبح ذلك تمرينا «تلموديا»، أي التعليق على تعليق التعليق...
لم تشعري أبدا بالقلق من الورقة البيضاء؟
- بدأت كتابة الرواية وأنا في السابعة عشرة من عمري، وأنا الآن في الثانية والأربعين وما زلت أكتب.. ثمة أشياء تأتي دائما، ما زال الصنبور يعمل.
من أين تأتيك هذه الانسيابية في الكتابة؟
إن كانت موجودة فعلا فهي تأتي من الممارسة الكبيرة.. لشدة الكتابة اكتشف كل ما يمكن أن يحدث لي: جملة أو بعض الكلمات، مشهد ما.. لا يتوقف المبتدئون عن سؤالي عن «الوصفات». النصيحة الوحيدة التي يمكن لي أن أقدمها تكمن في معالجة صعوبة الكتابة بالكتابة. في العمل فقط يمكن أن نحل المشاكل. نصيحة أخرى: اقرأوا كتاب ريلكه «رسائل إلى شاعر شاب».
الرفاهية المستحيلة
تقولين «اكتب في التقشف وفي الجوع»
أكتب دائما قبل أن آكل، أي أشعر دائما بالجوع. والتقشف هو في استيقاظي كل يوم عند الرابعة صباحا، حتى في أيام الشتاء. حاولت أن أكتب في فترة متأخرة، لكن لم تكن نتيجة الكتابة هي نفسها. ألعن قدري! لكن بعد أن أشعل جهازي، تأتي اللذة بأكملها. خلال عشرين سنة، أعطيت لنفسي مرة فرصة لأتعرف الى رفاهية الناس العاديين. جاء الأمر بمثابة رعب حقيقي، أحسست بأنني عدت لأعيش أزمة مراهقتي كما كنت في الثالثة عشرة.
ما رأيك بالكتاب الذين يقولون إنهم يكتبون في العذاب؟
أعتقد أن هذا الجزم ولد في القرن التاسع عشر، زمن الثورة الصناعية، ثمة لحظة من الذنب الكبير أحس بها الكتاب، من هنا هذا القول: «إننا لا ننزل إلى المناجم لكن الكتابة تشكل عذابا».
«إن كنت أكتب بهوس فلأني في حاجة إلى باب نجاة». ماذا تقصدين بذلك؟
لا أعرف مما أحاول الهرب. أمن نفسي؟ أمن الفطور العائلي؟ دائما هناك شيء نهرب منه. يمكن للكتابة أن تساعد على إيجاد الحل. وكي أحل مشاكلي، يجب عليّ أن أجد الكلمات الصائبة. أعيش مع فكرة أنه يمكن لفترة توقف أن تحدث، أستمر في الاعتقاد بالطمأنينة الممكنة.
الكلمات عندك لا تمر عبر الانترنت، لماذا؟
لدي غياب للرغبة، وهــذا الأمر لا علاقة له بالرفض أو الاحتقار. أتبــع سديــم التكنولــوجيا الكامل، ويصدمني تقلــص كمية اللغة، فقر الكلمات المستعــملة في البــريد الالكتروني. قبل أن تكتب الرسالة يفكر البشر فيها لمرّات، لكن ما يظهر في البريد الالكتروني لا يوحي بهذا.
كدت تحصلين على جائزة غونكور لمرتين، هل ما زلت تأملين ذلك؟
ليس كثيرا، وأقسم لكم بدون أي حزن. غالبا ما يقال لي إن أفضل جزء من حياة الكتّاب هو ذلك الذي يسبق الحــصول على غونكور. هذا يعني أني جزء من أولئك الذين يتمتعون بجوائز الخريف.
السفير
3 -9-2010