غيّب الموت يوم الثلاثاء، في 3 حزيران الماضي، في موسكو، الشاعر الروسي الكبير أندريه فوزنيزنسكي عن عمر 77 عاما، بعد صراع طويل مع المرض. ويُعتبر فوزنيزنسكي، أبرز شاعر من حقبة وجيل «ذوبان الجليد»، في الستينيات (مع يفغيني يفتوشنكو وبيلا أخمادولينا..) الذي تبنّى يومها مواقف «معادية للاتحاد السوفياتي» بشكل واضح وصريح وعلني. حتى أنه اتخذ موقفا مضادا لمسؤولي الحزب، وعلى رأسهم الأمين العام، يومها، نيكيتا خروتشيف. قد يكون هذا «النقاش» مع خروتشيف (الذي أعلن أنه لا يفهم الشاعر مقترحا عليه مغادرة البلاد)، هو الذي جعله شهيرا قبل أن ينتبه العالم بأسره إلى شعره الكبير، الذي أسس لتيّار طليعي في الشعر الروسي، لاحقا. «نقاش»، كانت سمته المعارضة والثورة على نظم المجتمع وأنساقه، حتى أنه لم يتورع عن الاحتجاج ضد الاجتياح السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1968، كما أنه أخذ مبادرة الدفاع عن ألكسندر سولجنتسين، لكن من دون أن يلعب لعبة «المنشق الصريح»، مثلما فعل غيره من كتّاب «الاتحاد السوفياتي» وشعرائه، في تلك الفترة. من هنا رفضه الذهاب إلى «الغرب» حيث بقي في بلاده، معتبرا أن الابتعاد عن الجذور والمحيط، لا بدّ من أن يشكل خطرا في أن يفقد المرء روحه. وهذا ما دفعه إلى التوقف عن الكتابة لمدة عام، ليعود بعدها إلى الكتابة والنشر «عارفا كيف لا يذهب بعيدا إلى أقصى الأمور».
ولد أندريه فوزنيزنسكي في موسكو العام 1933، وقد بدأ الكتابة باكرا. أرسل وهو في الرابعة عشرة من عمره باقة من قصائده إلى الشاعر الكبير بوريس باسترناك ـ الذي كان يعتبر وجها كبيرا من وجوه الشعر الروسي في زمنه ـ الذي سرعان ما أبدى إعجابه بهذه الموهبة الصاعدة، طالبا منه المجيء لرؤيته. وكان اللقاء بمثابة «صدمة جديدة للوعي»، كما يقول فوزنيزنسكي في كتابه «في الهواء الافتراضي» وهو كتاب «بحث يقترب من السيرة الذاتية». ومع ذلك، كان فوزنيزنسكي يكنّ إعجابا كبيرا وخاصا للشاعر ماياكوفسكي الذي شكل لفترة طويلة مصدر إعجاب ووحي له، بمعنى أن شعره الأول، كان يقع ضمن الخط الشعري «الطليعي» الذي كتبه ماياكوفسكي، قبل أن يطور الشاعر الراحل، تجربته في ما بعد. هذه التجربة التي وصفها ليون روبيل في «قاموس الكتاب الروس» (منشورات «لافون ـ بومبياني») بالقول: «في شعره، عرف فوزنيزنسكي كيف يصبح المدافع العازم عن التجديد وعن الانفتاح على العالم» ويضيف الناقد: «لقد تمت محاكمته على أنه شخص متكبر ويلعب لعبة النجوم، كما أنه شخص خان القيم الوطنية. لكنه بالرغم من ذلك كله، لم يتخل عن صوته الخاص، بل بقي يبحث عن أنماط تعبيرية جديدة»...
الامبراطورية الستالينية
دخل فوزنيزنسكي إلى الشعر في منتصف القرن الماضي إذاً، ومن أولى قصائده التي عرفت الشهرة واحدة بعنوان «وداعا للهندسة»، التي فسرها القراء بأنها قصيدة وداع «للأشكال الفاخرة» التي كانت سائدة في عهد «الامبراطورية الستالينية» كما أنها إعلان لنهاية «حقبة التوتاليتارية». شعره في تلك الفترة الأولى، حمل الكثير من الآمال والتطلعات، تماما كما يصفه المسرحي بوريس ميسيرير، إذ يقول: «لقد انتظرنا بفارغ الصبر هذا الصوت. لقد ظهر كأنه عنصر جديد في اللوحة التي رسمها مندلييف. كنا ننتظر بالضبط هذا العنصر، هذه الخاصية الشعرية الجديدة».
هذا الصوت شكل منعطفا هاما إذاً، في القصيدة الروسية الجديدة، لكن للاسف، لم ينتبه له العالم، إلا بفضل الموقف السياسي، الذي جاء، عقب الاجتياح السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا، كما أسلفنا.
لو حاولنا اليوم فعلا، أن نقرأ شعر فوزنيزنسكي ونحدده ضمن تجربة أو جيل ما، لوجدنا أنه ـ في العمق ـ لا ينتمي إلى جيل محدد. إذ ان القيمة الشعرية كانت بالنسبة إليه هي الأهم. من هنا، شكلت قصائده واحة حقيقية للشعب الروسي ولمن يحب آداب تلك اللغة. بهذا المعنى لم يكن فوزنيزنسكي شاعرا ينتمي إلى الماضي أو إلى الحاضر. بل كان شاعرا ينتمي إلى المستقبل. ربما من هنا نفهم قول الممثلة الروسية الشهيرة ألاّ بوغاتشيفا حين قالت بعد سماعها خبر الوفاة: «لن تذبل في روحي أبدا ملايين الورود التي وهبني إيّاها عبر شعره. أنا حزينة وأعتقد أن ملايين الأشخاص يشاركونني في إحساسي هذا».
نشر فوزنيزنسكي أكثر من عشرين ديوانا خلال مسيرته، يصفها الكاتب الروسي فيكتور إيروفييف بأنه عرف فيها «كيف يُخرج العبارة الروسية من السجن السوفياتي».
حوار مع أندريه فوزنيزنسكي
في نهاية التسعينيات، وبعد التحولات الكبيرة التي عرفتها روسيا، أجرت مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية حوارا مع الشاعر الروسي، تحدث فيه عن جملة من القضايا، التي برزت على سطح المجتمع الجديد. هنا ترجمة له:
في روسيا اليوم، التي تحررت من الشيوعية، وحيث الرأسمالية الأكثر توحشا تتحد مع الجريمة المتنقلة، أي مكانة يمكن أن تدعي الثقافة أنها تشغلها؟
سأقول إنها تمثل أملا أخيرا. ولا يشكل الأمر وجهة نظر روحية. ما من مرة، كان الناس هناك متعطشين للكتب ولجميع الإصدارات مهما كان نوعها. إن مجلة مثل «كومسومول موسكو» (وقد سميت كذلك للسخرية) ـ التي تبيع أكثر من مليوني نسخة، في العاصمة وحدها ـ نشرت مؤخرا، على سبيل المثال صفحة كاملة من قصائدي. ليس لأن إدارة التحرير تحب الشعر إلى هذه الدرجة، بل لأن الشعر عندنا ـ وهذا أمر لا يصدقه أحد ـ يمكن له أن يجعل الصحيفة تبيع. إن مجلة محافظة مثل «إزفستيا» ـ أو منشورة مثل «ترود» تصدر في ثلاثة ملايين نسخة ـ لا تزال تنشر كل شهر صفحات كاملة من الشعر. من جهة أخرى، نشهد اليوم ولادة جديدة للمسرح، وكل مساء في موسكو يشكل إطارا لحدث ثقافي مميز، تنتجه الطليعة عندنا. حتى تلفزيوناتنا ـ على الرغم من تلوثها بالمسلسلات الأميركية ـ نجدها تخصص نصف إنتاجها للأعمال الثقافية. إذ ان الثقافة تشكل حجة للبيع: تبدو بمثابة الحصن الوحيد الذي يمكنه مواجهة الانهيار والانحلال.
ما عليه اليوم المكانة الاجتماعية للفنانين؟
من بين «الروس الجدد» («نوفي روسكي»)، وهي التسمية التي تطلق على الأغنياء الجدد عندنا، والذين هم في غالبيتهم من المجرمين، نجد بينهم بعض الجامعيين القدامى. في حين أنهم يستطيعون شراء اليخوت والسيارات، إلا أن البعض منهم يفضلون اقتناء الأعمال الفنية. بالتأكيد يقومون بذلك، قليلا، من أجل أن يستعرضوا، لكنهم أيضا ـ وأعتقد ذلك ـ يفعلون ذلك لأنهم في شبابهم كانوا يسبحون في مناخ كانت الثقافة فيه أمرا مقدسا. في روسيا، يظهر الفنان كأنه شخص مختار من الله. إذ هو شخص محبوب، يعجبون به، كما أن واقع أنه لا يكسب الكثير من المال، في غالب الأحيان، لا يعني شيئا لهؤلاء «الروس الجدد»، كما بشكل ما، بالنسبة لمجموع الشعب.
وسيلة العيش
نرى اليوم أن المساعدات العامة تتضاءل، من هنا، كيف يعيش اليوم الفنانون الذين كانوا «محميين» لفترة طويلة؟
لقد غرقوا في قلب النظام الجديد. نصف هؤلاء لم يستطيعوا المقاومة فانهاروا. الآخرون يبيعون أنفسهم كي يعيشوا. على سبيل المثال، نجد أن الفنانين التشكيليين، يغتنون عبر بيع سلاسل مكررة من أعمالهم بمعدل مئة دولار للوحة. في الماضي كانوا يشربون مثل القوقازيين، يتركون المجال لأنفسهم كي يفكروا، كي يصقلوا مواهبهم وليحققوا في كثير من الأحيان الكثير من الروائع. لكن، ما الذي لن نفعله من أجل مئة دولار، الذي يمثل راتبا جيدا في جميع الأحوال؟ الأمر أشبه بمأساة، لكنه ثمن الحرية التي حصلنا عليها. المبدعون الأصليون وحدهم يعرفون كيف يقاومون ذلك كله. سأقول لك بدون مواربة: أشعر أنا نفسي بذنب ما. كنت واحدا من أولئك الذين ظنوا أن الحرية هي أجمل شيء في العالم. بيد أننا لم نكن نعرف بلدنا جيدا، كنا نجهل أن هذه الحرية ستأتي بهذا الانهيار.
على سبيل المثال، نجد أن الكُتاب، الذين كانوا يجتمعون في ما مضى في اتحاد الكتاب، الرسمي جدا، كانوا يجدون أن كتبهم تشترى بشكل آلي من قبل الدولة، بدون أن يهتموا بأمر البيع مطلقا. أما اليوم، فعليهم أن يعتادوا على العمل في مكان آخر، أن يدّرسوا على سبيل المثال.
الوسيلة الأخرى للعيش، التي يجدها الفنانون والراقصون والمصممون، تكمن في العمل بهستيرية، أي في مضاعفة عدد العروض والجولات. وهي جولات بأسعار زهيدة في أغلب الأحيان، وهذا ما يفسر هذه الموجات المتلاحقة التي تنهمر فوق أوروبا الغربية حيث تأتي الفرق من أتعس مسارح المقاطعات. وهنا نكتشف أسوأ جوانب روسيا. إذ، بشكل مواز لهؤلاء الأغنياء الجدد، الذين يتدفقون إلى الغرب، نجدهم ينهبون كل شيء كما أنهم يتصرفون بفظاظة. هناك فنانون يعيشون مثل البؤساء، يوفرون أقل قرش كي يشتروا من الغرب أشياء يمكن أن يبيعوها بسعر أغلى في روسيا. هل تعلمون أي وسيلة وجدها أعضاء البولشوي كي «يشووا» قطعة اللحم في غرفهم بالفندق؟ يضعونها بين مكواتين لاهبتين.. أضف إلى ذلك، أن ليست رحلاتهم إلى أوروبا أو إلى الولايات المتحدة هي التي تحمل إليهم المال الكثير...
وما يمكن أن نقول إذاً عن كل هؤلاء الفنانين الذين يهاجرون لأسباب اقتصادية؟
يقال انه كانت هناك في الماضي هجرة سياسية نبيلة وهذه الدوافع النبيلة قد عاشت. يقال إن الفنانين والشعراء الذين يرحلون ـ ويمكن قول الأمر نفسه عن الموسيقيين والراقصين ـ لم يعودوا فنانين، بل أصبحوا تجارا. بالتأكيد، إنهم يحييون ماديا بشكل أفضل، لكنهم يخاطرون بذلك بفقدان أرواحهم. كل مبدع ينقطع عن ينابيعه لا بدّ من أن يتعذب. وفي أتعس الأمور نجدهم يذوون. بالتأكيد ثمة استثناءات، وكل واحد يفعل ما يشاء. ربما يبدو كلامي سوفياتيا، أتظن ذلك؟
السفير- 2 يوليو 2010