(صموئيل شمعون) أفعاله الاحتجاجيّة وممارساته النقديّة كادت توازي منجزه الشعري. ابن أندريه بروتون البار، الخارج من رحم الستينيات الخصبة في العراق، يعود بكتاب إشكالي، أشبه ببيان من أجل قصيدة نثر عربية مطابقة للأصل الفرنسي
لم يُقرأ عبد القادر الجنابي (1944) قراءةً منصفة. بالغ خصومه في تبخيس تجربته مقابل مبالغة أخرى لمؤيديه، وهم قلة، في تثمين هذه التجربة ومنحها صفاتٍ خارقة. لم يُوضع هذا الشاعر العراقي في مكانه الطبيعي بين مجايليه من شعراء الستينيات في العراق، ولا بين مجايليه العرب أيضاً. وقد أسهم اختياره باريس، منذ عام 1970، في تخلخل «إقامته» في المشهد الشعري العراقي والعربي. ثقافتنا تفضِّل حضور الشاعر مع كتابه. إذا غاب هو، يصبح إهمال كتابه ممارسةً سهلة وغير مدانة أيضاً. في حالة الجنابي، الأمر مختلف قليلاً، حيث يرتبط حضوره القلِق بالطريقة التي يُقدم بها نفسه للقارئ، إذْ غالباً ما يكون هذا التقديم مصحوباً بمقدارٍ غير مبرَّر من الترويج الشخصي. هكذا، ظل صاحب «مرح الغربة الشرقية» على حدة، لكن ليس بلا صدامات ومعارك واتهامات متبادلة بينه وبين الآخرين.
الجنابي شاعر سريالي أولاً. مارس سرياليته على الطريقة الفرنسية، مهتدياً بخطى أندريه بروتون ثم بيير ريفيردي وماكس جاكوب. كتب بياناتٍ، وأصدر نشرات ومجلات كان أشهرها «الرغبة الإباحية» و«النقطة» و«فراديس». بطريقة ما، عُومل شغل الجنابي كنسخة عربية للسريالية. صحيح أن آخرين سبقوه، أمثال السوريين أورخان ميسر وعلي الناصر، والمصريين جورج حنين وجويس منصور، إلا أن الجنابي بدا أكثر قرباً من الصورة الشائعة للشاعر السريالي الذي يُقرن نصوصه بأفعال احتجاجيّة وجهود تنظيرية. مُنح هذا الشاعر العراقي ألقاباً وصِفات عدة على الأساس السريالي، لكن الضجة التي رافقت تجربته بدت - لاحقاً - فضفاضة على منجزه الشعري، فضلاً عن أن السريالية نفسها كانت فقدت الكثير من بريقها في العالم، وذابت طاقتها التثويرية في أشكال وأساليب شعرية مختلفة.
لكنّ صاحب «في هواء اللغة الطلق» لم يتخلَّ عن السريالية تماماً. لنقل إنّه يمَّم شطر «قصيدة النثر»، متبنّياً نبرة تصحيحية لما شاع حولها في المصادر والكتابات العربية. تصحيح الفهم العربي للمصطلح قاده إلى التبحُّر في الدراسات الفرنسية والانكليزية التي كُتبت حول نشوء هذه القصيدة، والشروط التي ينبغي أن تتوافر فيها: التوتر والمجانية والإيجاز، وهي صفات استدعت لاحقاً صفات أخرى، أهمها صفة «الكتلة». هكذا، راح الجنابي يُراجع المنجز العربي، منتهياً إلى خلاصة مفادها أن قصيدة النثر الحقيقية هي «نقيض قصيدة النثر العربية السائدة التي لا تلبِّي مطلباً واحداً مما اتفق عليه جلُّ النقاد».
الاستنتاج السابق مستلّ من كتاب عبد القادر الجنابي الجديد «قصيدة النثر وما تتميز به عن الشعر الحر» (إيلاف/ الغاوون). لقد سبق للجنابي أن عَرَض مقترحاته وتصويباته للخطأ التاريخي الذي حصل في ترجمة مصطلح «الشعر الحر» أولاً، وللقلق النقدي والنظري الذي رافق تسمية «قصيدة النثر». الكتاب، بهذا المعنى، أشبه بتأصيل لهذه التصويبات، على أمل أن تأخذها الأجيال الجديدة في الاعتبار. القصد هنا هو تأسيس بداية جديدة لقصيدة نثر عربية مطابقة للأصل الفرنسي. لكن هذا يثير سؤالاً بل تساؤلات عديدة وملحَّة: ما الفائدة من تصويب ما كُتب من شعر عربي في هذا الإطار؟ وهل عملية مثل هذه ممكنة أصلاً؟ هل يمكن إخضاع المنجز العربي لهذا التصويب، وبمفعولٍ رجعي؟
لا يبني الجنابي كل كتابه على هذا الإجراء الذي يراه ضرورياً لاستئناف كتابة «قصيدة نثر» عربية بناءً على متطلبات «قصيدة النثر» الفرنسية. إنه مهجوس بهذه الفكرة، لكننا لا نستطيع تجاهل الشغف والثراء الواضح في شغله على الجوانب النظرية والنقدية التي أثارتها قصيدة النثر الأجنبية، ومحاولته الجدية لتخليص القارئ العربي من تبعات الأخطاء التي حدثت، وإرشاده إلى أفضل المؤلفات الأجنبية التي أُنجزت في هذا السياق.
قراءة أوليّة لـ«قصيدة النثر وما تتميز به عن الشعر الحر» (إيلاف/ الغاوون)
يوزِّع الجنابي كتابه على أربعة فصول قصيرة ومكثفة: يُعيد تعريف «الشعر الحر»، ويُبيِّن الفرق بين ويتمان وبودلير، ويشرح ماهية «قصيدة النثر»، وخلفيتها التاريخية، قبل أن يقدم لنا «مختارات تضم أهم النماذج الكلاسيكية والحديثة لقصيدة النثر الفرنسية»، مختتماً الكتاب بخمسة ملاحق صغيرة، آخرها يدور حول مصطلح «النثر المركَّز» الذي اقترحه الشاعر العراقي الراحل حسين مردان قبل ولادة قصيدة النثر العربية بعشر سنوات. وفيه، يُعيد الجنابي كتابة قصيدة مكتوبة على أسطر لمردان على شكل كتلة نصية شبيهة بكتلة قصيدة النثر، وهو ما سبق لبيير ريفيردي فعله في قصيدة له!
يريد صاحب «حياة ما بعد الياء» أن يبرهن أن ربط سطور بعض قصائد النثر العربية على شكل كتلة يجعلها مطابقة للأصل الفرنسي. الواقع أن محاولة كهذه محفوفة بمخاطر كثيرة. في المقابل، يُحس القارئ أن حرية قصيدة النثر مهددة بقوانين وقواعد لا تختلف عن قواعد الشعر الكلاسيكي العربي التي تحطمت جزئياً على أيدي شعراء التفعيلة، قبل أن تتحطم نهائياً في تجارب قصيدة النثر.
هل المطلوب اليوم أن نبارك الأصل الفرنسي لقصيدة النثر العربية، بعدما ناضل شعراؤها في سبيل نفي هذه الشُّبهة عنها وخلق أصول وسياقات عربية لها؟ وماذا عن قصائد عبد القادر الجنابي نفسه؟...
الاخبار
١١ أيار ٢٠١٠