احتفى النقد بتجربته كانعكاس للواقع والتاريخ. وقد آن الأوان لقراءة أعماله من جديد بصفتها الأدبية فقط. عودة إلى صاحب «مدن الملح» عبر كتاب مرجعي صدر في ذكرى رحيله الخامسة
حسين بن حمزة
السياسة، أو بالأحرى خيبته من السياسة هي التي قادت عبد الرحمن منيف (1933-2004) إلى الرواية. معظم المشاركين في الكتاب التذكاري «عبد الرحمن منيف... 2008» الصادر في الذكرى الخامسة لغيابه («المؤسسة العربية للدراسات والنشر» و«المركز الثقافي العربي») ينطلقون من هذه الفكرة التي تكاد تكون حقيقة مسلماً بها. كيف لا، والراحل نفسه أكَّد ذلك مراراً في كتاباته وحواراته. النقاد ليسوا ملومين. لعلَّهم حبسوه في صورة الكاتب الملتزم، لكنّ منيف نفسه زوَّدهم بكل الأسباب التي جعلت معاملته النقدية تتم على هذا النحو. المشكلة أنّ حصر منيف في الإطار السياسي جعل رواياته تُقرأ تحت ضوء وحيد هو ضوء الأيديولوجيا. هذا لا يعني أنّ رواياته ظُلمت، إلا أنّ القراءة النقدية شبه الحديدية لها أضاءت الدلالات الفكرية والتاريخية والسوسيولوجية فيها على حساب النبرة الأسلوبية وتقنيات الكتابة ومعجمها اللغوي. لعل منيف لم يُغامر كثيراً في الأسلوب والتقنيات السردية، لكن تجاهل ذلك قد يخلِّف فجوات ونواقص في أي قراءة تزدري الشكل الروائي وتحتفي بدراسة المضمون.
على أي حال، ما كان لصاحب «شرق المتوسط» أن ينجو من هذا المصير النقدي الذي كأنَّما ذهب إليه طوعاً. لقد تزامنت تجربته الروائية مع الزمن الذهبي لتأويل الأدب كانعكاس للواقع والتاريخ. كان الرجل ابن مرحلةٍ مضطربة وابن جيلٍ شهد ضياع فلسطين، وصعود الأحلام القومية إلى ذروتها في الستينيات قبل أن تنهار بهزيمة يونيو وما تلاها. السياسة التي فَسدت وانتهت صلاحيتها في الواقع وجدت متنفساً لها في الكتابة. وجد منيف في الرواية حياةً ثانية. تحوَّلت الكتابة إلى مضمار جديد لنضال سياسي وثقافي، نقي ونزيه، لم يعد له مكان في عالم السياسة. حضرت السياسة بكثافة في أعماله، وبات هو مثقفاً سياسياً في صورة روائي.
يبدأ الكتاب بمقطع من رسالة وجهها صاحب «مدن الملح» إلى الناقد فيصل دراج، ويقول فيها: «كيف يمكن أن نحوِّل الكلمة، من جديد، إلى طلقة، إلى قوة محاربة؟». لم توضع هذه الجملة اعتباطاً في مستهل الكتاب. إنّها إقرار وتمهيد من المحتفى به لما سيأتي في دراسات وآراء وشهادات لـ26 كاتباً عربياً وأجنبياً. وهي مواد «توحّد بين شخص عبد الرحمن منيف ومنجزه الروائي» بحسب تعبير دراج في تقديمه للكتاب.
الذين قرأوا ما كُتب، متفرقاً وفي مناسبات مختلفة، عن تجربة منيف الروائية، سيجدون خلاصاتٍ وتحليلات ومذاقات مما قرأوه مجتمعاً في مجلدٍ واحدٍ، مرشّحٍ لأن يكون مرجعاً ثرياً وشاملاً يستطيع القراء والدارسون اعتماده في مراجعهم. المواد التي يضمُّها الكتاب متفاوتة سواء في أهميتها أو في العناوين والأنساق التي تعالجها. بعض هذه المواد شهادات شخصية، وأكثرها دراسات وأبحاث رصينة. لكن المواد جميعها تسهم في تخليد صورة منيف كروائي عربي ذي تجربة فريدة وشديدة الخصوصية.
لم يكن منيف مثقفاً وروائياً فقط، بل مارس ذلك كرسالة. هذا صحيح، لكن هذا غلب على صورته في أذهاننا إلى حد أننا لم نكترث كفاية بكونه خالق شخصيات قادرة على مغادرة الروايات، والتمتع بخلود إنساني فضلاً عن خلودها الأدبي. رجب إسماعيل في «شرق المتوسط» الذي ظل «بطلاً» حتى وهو يوقّع على وثيقة تخلِّيه عن النضال السياسي. زكي نداوي في «حين تركنا الجسر»، الصياد الذي يتحدث طوال الوقت إلى كلبه وردان، ويطارد طائراً لا نعرف إن كان حقيقياً أو من بنات هواجسه (لنتذكر أن جورج طرابيشي أنصف هذه الرواية حين قارنها بـ«الشيخ والبحر» لهمنغواي). عساف في «النهايات»، ومنصور عبد السلام في «الأشجار واغتيال مرزوق» ومتعب الهذال في «مدن الملح».
لعل منيف نفسه استسلم لصفاتٍ فكرية سعى إليها، وطاردناه بها في آن واحد، فلم يجد وقتاً ليعلن أنه روائي أولاً وأخيراً، وأن قراءة أعماله باعتبارها ترجمة لسيرة فكرية ورؤية نضالية ينبغي ألا تقلل من أهميتها كنصوص أدبية مشروطة بجماليات وتقنيات. بحسب منيف: «الرواية الجيدة والتقدمية هي الرواية المخدومة فنياً بشكل جيد. لا يشفع لها حسن نيتها، ولا تشفع لها حقيقة أنها تعالج موضوعاً معيناً، إنَّما يجب أن تكون جيدة من ناحية البناء الفني». ماذا لو استخدمنا هذا الرأي في قراءة «قصة حب مجوسية» الرواية التي عاملها نقاد منيف كأنها «غلطة» في مسيرته. رواية عن الحب، يعتبرها صبري حافظ في شهادته «مغرّدة خارج سرب أعماله». ويكاد يحمد الله لأنها تعرضت لنوعٍ من الكسوف بسبب صدور «شرق المتوسط» بعدها بعام. السؤال هو: ألا يليق بمن كتب عن السجن السياسي والمنفى والهزيمة والنفط أن يكتب عن الحب؟
جائزة للشباب
ضم كتاب «عبد الرحمن منيف.. 2008» شهادات وآراءً لـ26 كاتباً عربياً وأجنبياً وهم: فيصل دراج، محمود درويش، مروان قصاب باشي، صبري حافظ، عبد الرزاق عيد، فريال غزول، ماهر جرار، يمنى العيد، حسين الواد، إيريك غوتييه، ماجدة حمود، محمد شاهين، ناصر صالح، سونيا ميشار، جبرا ابراهيم جبرا، سعد الله ونوس، حليم بركات، كريم مروة، طارق علي، الياس خوري، لويس ميغيل، محمد دكروب، ناصر الرباط، إيغور تيموفييف، فاروق عبد القادر، غسان رفاعي، زين العابدين فؤاد، معاذ الألوسي. وضمّ الكتاب رسالة شكر توجّهت بها زوجته سعاد قوادري منيف معلنةً أنّ ريع الكتاب سيكون «النواة الأولى في الإعداد لجائزة باسم عبد الرحمن منيف للمبدعين الشباب وهو ما آمل أن يتحقّق لاحقاً...».