(التجريب لازم قصيدته التي أفلتت من العولمة)
أن يُخصص المرء كتاباً كاملاً للسيجارة، فهذا ليس مغامرة شعرية... بل مغامرةٌ بالشعر نفسه! في كلّ الأحوال، ليست المرّة الأولى التي يفاجئنا صاحب «بلا أثرٍ يُذكر» على امتداد مسيرة تراوحت بين قصيدة مكثّفة، وأخرى متدفقة تتغذى من البلاغة والتراث اللغوي.
حين أصدر بول شاوول ديوانه الأول «أيها الطاعن في الموت» (1974)، كتب الراحل عصام محفوظ في مقدمته ما معناه أنّ الشعر الذي يتضمنه الديوان هو صوت جيل بأكمله لا صوت شاعر مفردٍ فقط. الجيل الذي تراءى لمحفوظ كان في طور التكوّن. كان سركون بولص من العراق قد بدأ بنشر قصائده الأولى في مجلة «مواقف»، بينما وزَّع وديع سعادة باكورته «ليس للمساء إخوة» بخطّ اليد. أمّا عباس بيضون، فكان قد كتب «صور»، مؤجّلاً إعلان نفسه شاعراً. إلى هؤلاء الأربعة، ستنضم أسماء لاحقة أصغر سناً: أمجد ناصر وبسام حجار ونوري الجراح ومنذر مصري ووليد خازندار وزكريا محمد... السمة الأبرز في شغل هؤلاء هو النضج المبكر الذي طبع بداياتهم... فضلاً عن الضجر الكبير الذي أبدته عناوين بواكيرهم من المفردات الكبرى للحداثة الشعرية العربية التي بدت كأنها عالقة في مكان ما، ومتردِّدة حيال ابتكار مقترحات تمدُّ القصيدة بنسغ جديد وضروري. كان ذلك إيذاناً بما سيُسمى لاحقاً حداثةً ثانية، أو منعطفاً كبيراً حدث منذ منتصف السبعينيات. لن نبالغ إذا قلنا إن ورشة شعرية حقيقية بدأت في نصوص هؤلاء، بعد حقبة الرواد وتنظيراتهم وبياناتهم. الأحجار الضخمة للحداثة الأولى راحت تتفتّت بمخيلات وممارسات شعراء اشتغلوا بصفة عمَّال في تلك الورشة التي وضعت التنظير جانباً.
بول شاوول أحد شعراء ذاك الجيل الذي أدّى دور الوسيط الخلَّاق بين من سبقهم من الرواد ومن تلاهم. يُعيد صاحب «بوصلة الدم» ذلك إلى تجاوز أبناء جيله للمرجعية الفرنسية وللشعر نفسه، إذْ اتصل هؤلاء بالسينما والمسرح واللوحة والسياسة: «معظم جيلنا كان مسيَّساً. إنه جيل التظاهرات. جيل الانخراط في المجتمع. كان جزءاً من جبهة تغيير كبرى، وهذا كله ظاهر في النصوص. لم يكن الشعر ـ مهما بلغت تجريبيته ـ مجرد تمرين لغوي أو تجريدي». أما علاقة هذا الجيل بمن سبقه، فيراها شاوول حلقة ضمن حركة انعطافات وجهود متواصلة، مستشهداً بتجارب جبران خليل جبران وأمين الريحاني، ثم أمين نخلة والياس أبو شبكة وفؤاد سليمان... قبل أن يصل إلى جيله: «أظن أن الرواد كانوا محظوظين بأن يكون شعراء السبعينيات والثمانينيات على القدر نفسه من الثقافة الشعرية والنقدية والسياسية. وربما تفوّقوا عليهم، لأن الأبناء يرثون الآباء، وأعتقد أننا كنا جديرين بذلك».
يرى أنّ الشعر تعافى يوم تحرّر من الأحزاب والسلطة والأيديولوجيات والمدارس
إذا نظرنا إلى تجربة شاوول على حدة، فسنجد أنّه الأكثر تجريباً بين أقرانه إلى حدّ يمكن فيه اعتبار شعره قفزات وانقلابات مستمرة. الانعطافة الجيلية وجدت ترجمة لائقة لها في انعطافات مماثلة داخل التجربة الفردية. كتب بول قصيدة النثر بصيغتها التقليدية، ثم مال إلى قصيدة مكثّفة ومضغوطة شاعت تحت اسم «قصيدة البياض» في «وجه يسقط ولا يصل» و«الهواء الشاغر»، قبل أن ينعطف نحو نصوص طويلة في «موت نرسيس» و«أوراق الغائب»... ثم سعى إلى قصيدة متدفقة وسيَّالة تتغذى من البلاغة والتراث اللغوي في «كشهر طويلٍ من العشق»، وإلى لغة شفوية ودرامية في «نفاد الأحوال». «ليس أسوأ من أن يصبح الشاعر ببغاء نفسه»، يقول الشاعر الذي يفضِّل أن يقلِّد الآخرين على أن يقلّد نفسه. «التقليد هو موت الشاعر»، لكنه يميِّز بين التقليد وأن يحفر الشاعر في الموضع نفسه. التجريب لا يعني دوماً تغيير النبرة، أو الجملة الشعرية بالكامل، كما فعل هو في عدد من أعماله. التجريب مرَّغ تجربته في مغامرات شعرية عديدة ومتضاربة، إلى درجة يُخيَّل لنا فيها أن إحداها تنفي الأخرى. التجريب هنا هو أسلوب وجلدٌ لغوي. بحسب شاوول، لا يتعارض ذلك مع ما يبدو أن شعراء عديدين يكتبون في داخله.
إصداراه الأخيران «بلا أثرٍ يُذكر» و«دفتر سيجارة» (دار النهضة) مناسبة لتصديق رواية الشاعر عن انكبابه على التجريب، واستمتاعه بإنجاز تجارب مختلفة ومتباعدة في آن معاً. أما أن يُخصص كتاباً كاملاً للسيجارة وحدها، فهذا ليس مغامرة شعرية فقط بل مغامرةٌ بالشعر نفسه. يعترف بأنّ «دفتر سيجارة» هو التجربة الأكثر عمومية في شعره، وأنّه كتب الديوان بوصفه واحداً من عتاة المدخنين الذين باتوا منبوذين ومحاربين، بعدما كانت السيجارة رمزاً لثقافة وعيش ومزاج. إلا أنه لا يكترث لأي تعريف للشعر: «ليس هناك شيء اسمه الشعر. وكل تحديد للشعر باطل. وكل مدرسة شعرية ببيانات هي باطلة. كيف يمكنني أن أؤمن بتعريف واحد، وأنا أتجاوزه دوماً. تعريف الشعر ينبغي أن يأتي بعد الكتابة. التجربة هي التي تعطينا النبرة واللغة والأسلوب». تحرير الشعر من التعريف المسبق يدفع شاوول إلى مخالفة ما يسود من كلام عن أزمة الشعر: «الشعر يعيش عصره الذهبي اليوم. العولمة تركِّز على السلع المربحة، الشعر نجا لأنّ المجتمع الاستهلاكي لا يحتاج إليه. قارئ الشعر ليس زبوناً كما هو قارئ الرواية. نحن نعيش زمن الشعر لا زمن الرواية، كما يروِّج كثيرون. الشعر معافى لأنّه تحرر من الأحزاب والأيديولوجيات والمدارس وبات خارج أي سلطة».
الاخبار- 24 يوليو 2009