لا ضوضاء ولا ميوعة نألفها عادة في شعر المرأة. في مجموعتها الجديدة «عروض الحديقة» (الساقي)، نقف أمام قصيدة مجبولة من التأمّل والهشاشة والصمت، حيث اللغة مقتضبة والألم مسترسل
منذ باكورتها «طقس الظلام» (1994)، فضّلت عناية جابر الكتابة بمعجم صغير ومفردات خافتة. في مجموعاتها الست التالية، بدا أنها انشغلت بتكثير المعاني داخل المعجم نفسه، وبتلطيف المفردات ذاتها، بدل السعي إلى إحداث نقلات دراماتيكية داخل شعرها. النقلات هنا مماثلة لخفوت نبرتها، ومتذاوبة في طريقة ابتكار الاستعارات والصور. الضوضاء غائبة في قصيدة هذه الشاعرة اللبنانية، تغيِّب معها الميوعة اللغوية والعاطفية المصاحبة لشعر المرأة عموماً. هكذا، نجد أنفسنا أمام قصيدة مصنوعة من التقشف والهشاشة والصمت، قصيدة تتخلى عن هويتها البديهية، وتزدري قائمة الشكاوى والتذمرات النسائية التي غالباً ما تحوّل الكتابة إلى مرافعات بائسة ويائسة ضد الآخر/ الرجل.
تكتب صاحبة «مزاج خاسر» قصيدة واحدة تقريباً. قصيدة تتألف من مقاطع متصلة ومنفصلة معاً. ما يجمع المقاطع هو الألم الذي ينبعث من تجاور الكلمات والصور. هناك حساسية شعرية يتم تدويرها من مجموعة إلى أخرى، بينما ضمير المتكلم يجعل هذا الشعر مسألة شخصية. مجموعتها الجديدة «عروض الحديقة» (الساقي) مكتوبة في المناخات ذاتها حيث اللغة مقتضبة والألم مسترسل. الشاعرة هي بطلة القصيدة التي تقلِّب العالم وفق وجهة نظر خاصة، وتتقلَّب على السعادات والندوب والآلام المتحصّلة من العيش فيه. الحب هو الحاضر الأكبر، لكن جابر تنظف هذا الحب من الرومانسية الساذجة والغزل الضحل. الحب أطروحة شعرية قبل أن يكون موضوعاً عاطفياً مكروراً: «خلَّفتُ لكَ رقتي/ تأكل جلدكَ الطريّ/ وعليك أن تجعل الأمر هيّناً/ بحيث لا يعطش صدعٌ/ ولا ينغلقْ». أحياناً يكون الآخر محدداً، فنقرأ مقطعاً مثل: «عدتُ لتوّي من عندك/ وإذْ فتحتُ بابي/ حنينٌ ضخم/ شقّ فستاني»، وأحياناً يكون ضالعاً في حالة أوسع: «تُرى كم من الرجال ودّعت/ عند كل المرافئ/ بهذا القلب/ ذاته». لكن الحب يتجاوز فكرة أن يدور بين شخصين إلى علاقة متفردة بالعالم اليومي ومشهديات الواقع التي تتسرب إلى القصيدة بشروط المعجم الصغير والنبرة الخافتة، حيث «لحاء الشجر قاسٍ/ بظفري نزعتُ طبقة يابسة/ وتذكرتُ قلبي».
لعلّ التأمل هو ما يمنح هذا الشعر خصوصية إضافية. الخفوت يتحول إلى فلسفة محببة تقوّي الجملة الشعرية، وتصنع أحشاءً عميقة للمعاني التي تتراءى على السطح. كأن صاحبة «ساتان أبيض» تكتب قصيدة تتأمل نفسها أثناء الكتابة، وتتباطأ في الاستسلام للقارئ. ممارسةٌ تفسح المجال لسماع ألم الكلمات نفسها لا ألم صاحبتها فقط، كأن نقرأ «كلمة صغيرة محدّبة/ لها جناح واحد/ مثل العذاب»، وأن تكون «قصيدة سعيدة/ أثبتُ من جبل»، وأن تحسد الشاعرة البجعات على نجاتها من شقاء الناس: «في البحيرة التي لا نظير لها/ تكونين أنتِ نفسك/ اليابسة شقاءٌ كبير/ أيتها البجعة في الماء».
التأمل وتجفيف العاطفة يمنحان هذا الشعر هوية غير محلية. لسنا أمام مذاقات شعر مترجم طبعاً، لكنْ ثمة انطباع بأن ما نقرأه ناجٍ من أغلب الممارسات العربية التي تُثقل القصيدة بالتفجع العاطفي والصوت العالي والتهويمات البلاغية. أحياناً نشعر بأننا نقرأ شيئاً ذا صلة بعوالم شاعرات أجنبيات مثل فروخ فرخ زاد، وإميلي ديكنسون وسيلفيا بلاث. الأخيرة حاضرة في قصيدة كاملة: «ما نوع الموت الذي أنت فيه سيلفيا بلاث/ ما الذي تتذكرينه عن تد هيوز/ ما الذي تتذكرينه عني».
النبرة الخفيضة والمتأمِّلة تجعل هذه الصلات أقوى، فنقرأ استعاراتٍ طازجة ومتحدية لذائقتنا الجاهزة: «عفنٌ عذبٌ غيابكَ/ كرائحة زهرٍ متروكٍ/ على قبر». صورة كهذه تتحالف مع صور مماثلة، فنقرأ عن «صفوفٍ من المنازل تنخفض/ كي تؤنِّب البحر على غلطته». هكذا، يُخلي الحب بعض المساحات لكتابة مشاغل أخرى، ويصبح في استطاعتنا أن نفسر غياب اللغة الظافرة والدراما المفرطة والاستعراضات الأنثوية المستهلكة عن هذا الشعر المخوّل بالتحدث فقط عن رغباتٍ مكتومة وندوبٍ سرية ناتجة من تجربة معيشة بأقل الكلمات ضجيجاً وأكثرها تأملاً وإيلاماً، فنقرأ سطوراً آسرة مثل: «منذ سنين/ نقطة ماءٍ تركت أثراً/ لساني يتهاوى/ قربها»، و«عندما حدثتكَ عن البحر/ وعن شيئك اللطيف/ أو مهما كان ما حدثتكَ عنه/ فذلك لأني أتألم/ وكدماتٌ داكنة تدبغُ قلبي الصغير». «أنا أنتمي إلى لغة منكسرة تحتاج إلى كائن مفرد وصداقة معجم صغير وكلمات خفيضة»، تقول صاحبة «لا أخوات لي». هكذا، يصبح الشعر ممارسة مبتكرة تختلط فيها شذرات السيرة الشخصية مع حضور صاحبة السيرة في عالمٍ موحش وعذب في الوقت نفسه. يصبح الشعر تزجية للوقت مع الذات، وكلاماً في حضرة الغياب: «أحكي عنكَ/ وردةٌ في إناء/ تصغي»، أو «من الغياب أصنع لكَ تمثالاً/ وعليه أن يستمر/ على هذا الوضع»، بينما «الغرفةُ تنظر إلى عُريي».
رائحة المكان
علاقة عناية جابر بالكلمات تتعدى الشعر إلى الصحافة والغناء. بالرهافة ذاتها في انتقاء الكلمات والموضوعات الشعرية، تكتب عموداً أسبوعياً في «القدس العربي» اللندنية، إلى جانب عملها في تغطية الحياة الثقافية في «السفير». وبرهافة موازية، غنّت لعدد من عمالقة الطرب العربي الأصيل. وكانت تخطط لحفلة حميمة في ذكرى زميلنا الراحل جوزيف سماحة، تؤدي فيها أغنيات أحب سماعها بصوتها، لكن الأوضاع العربية الراهنة ألغت فكرة الغناء في حضرة الدم الذي يسيل يومياً. ماذا أيضاً؟ تقول إنها تستكمل حالياً إنهاء رواية نشرت منها ثلاثة أجزاء في مجلة «أمكنة»، وتسرد فيها علاقتها بروائح أمكنة الطفولة والماضي في بيروت.
الاخبار- 30 – مارس 2012