ارتاد الشاعر الفلسطيني تلك الضفّة البعيدة، قبل أن ينتقي منها باقة من 15 صوتاً، من سيلفيا بلاث إلى تشارلز بوكوفسكي، لتقديمها إلى القارئ العربي. المشروع الذي تبنّته دارا «كلمة» (أبو ظبي) و«الجَمل» (بيروت)، يأتي اليوم لإغناء المكتبة الشعرية العربيّة بتجارب لم تتداولها حتى الآن بما فيه الكفاية
يضع سامر أبو هواش بين أيدينا 15 مجلّداً من الشعر الأميركي. لعلَّ بعضنا قرأ عدداً منها قبل أعوام في طبعات خاصة ومحدودة، لكنَّ صدورها معاً عن «كلمة» و«الجمل» يجعلها أكثر استحقاقاً لتسمية «مشروع» في ترجمة الشعر. كنّا نعرف أنّ ثمة شعراً أميركياً ذا مذاقات ونكهات مختلفة عما هو متداولٌ وراسخٌ عندنا من مذاقات الشعر الفرنسي، أو حتى الألماني، وهما الأكثر حضوراً وترجمة في لغة الضاد، فضلاً عن أسماء وتجارب منفردة في لغات أخرى. أغلب مصادرنا الأجنبية فرنكوفونية في هذا السياق. والأرجح أنّها مصادر سوانا أيضاً، إذْ إن فرنسا كانت حاضنة لأغلب التطورات التي لحقت بالشعر الحديث في القرن العشرين.
لمع ويتمان وإليوت وباوند في خمسينياتنا وأوائل ستينياتنا. نتذكر هنا ترجمات توفيق صايغ وعبد الواحد لؤلؤة. كان إليوت الأكثر حضوراً وتأثيراً، لكنّه شاع عندنا كشاعر إنكليزي ذي تقاليد صارمة. اكتشفنا الفرق حين وصلتنا أشعار آلان غينسبرغ وجيل البيت وبوكوفسكي وروايات هنري ميلر، فضلاً عن أسماء أخرى أكثر راهنية. ولا ننسى تجربة سركون بولص الأميركية بامتياز. مع هؤلاء، وموادّ أميركية أخرى كالسينما والرسم والموسيقى، انتبهنا إلى أنّ أجزاء كبيرة من الشعر الأميركي موجودة خارج اللغة بمعناها النظري والقاموسي. الشعر الأميركي، كأيّ «بضاعة» أميركية أخرى، يتغذَّى على مصادر ومواد ومكونات وهويات متعددة ومختلطة. المعاجم هنا مبقورةٌ بقوة الحياة اليومية. المفردات مندلقة في الشوارع والبارات والجسور والأنفاق والزحام البشري والبدانة والمصاعد المتجولة في ناطحات السحاب واللافتات الضخمة والمنازل الموحشة والليل الخارجي وأسئلة الذات الداخلية والوجودية.
نقرأ، فنحسّ أنّ الشعر يمكن أن يُصنع من الخفة والوضوح كما من الغموض والكثافة، من الإصغاء الجيد للحياة كما من الغوص في مجاهل المخيلة، من السِّيَر الشخصية والتواريخ الخاصة، كما من آلام الجموع والهويات الكبيرة. لا يمكننا أن نقرأ 15 كتاباً في مقالة واحدة. كل شاعر، أو شاعرة، له عالمه ومعجمه وطموحاته. ثمة أسماء معروفة لنا، وأخرى أقل شهرة وتداولاً. اختار أبو هواش أن يقدّم للقارئ العربي تجارب شعرية مختلفة، وليس أنطولوجيا تضم قصائد قليلة لكلّ شاعر. النتيجة أننا أمام فرصة لمعرفة أعمق بكل تجربة فردية على حدة، وبالمذاق الجماعي الذي يوفِّره صدور هذه التجارب معاً. هكذا نقرأ لكلّ من: تشارلز سيميك، روبرت بلاي، آن ساكستون، سيلفيا بلاث، فلورنس أنطوني، أرتشي أمونز، دنيس ليفرتوف، كيم أدونيزيو، تشارلز بوكوفسكي، تيد كوزر، دوريان لوكس، ثيودور ريتكي، لانغستون هيوز، لويز غليك وبيلي كولينز.
نتأكد من صفة «المشروع» ونحن ننتقل من شاعر إلى آخر. ليس كل ما نقرأه بالجمال نفسه. تصادفنا قصائد عادية، وتلفتنا أخريات. الأهم أنّنا نعثر على ذلك النوع من الشعر الذي يوقفنا عن القراءة ونفكر أن نحفظه كي نردده لأنفسنا لاحقاً، أو أن نكتبه على قصاصات، أو أن نضع خطاً تحته كي نذهب إليه فوراً في المرة المقبلة. قد نُفتتن بقصائد كاملة أو مقاطع متفرقة أو بمجرد سطر يومض باستعارة غريبة ومدهشة. نقرأ مثل هذا في قصيدة «عزلة» لسيميك: «هناك الآن، حيث تسقط الكسرة الأولى عن المائدة/ تحسب أن أحداً لا يسمعها/ عندما ترتطم بالأرض/ لكنْ في مكانٍ ما/ بدأت النمال تعتمر قبعاتها الخاصة/ وانطلقت لزيارتك». وفي «رماة القنابل» للشاعرة المنتحرة آن ساكستون: «نحن أمريكا/ نحن مالئو التابوت/ نحن بقَّالو الموت/ نوضِّب القتلى كالقرنبيط في صناديق الخشب (...) أمريكا، أين هي أوراق اعتمادك؟». وفي «مقدمة للشعر» لبيلي كولينز: «أطلب منهم أن يحملوا قصيدة/ ويرفعوها عالياً في الضوء/ كأنها شريحة تصويرية ملونة/ أو أن يضعوا آذانهم على قفيرها/ أقول لهم أن يرموا فأراً في قصيدة/ ويراقبوه وهو يبحث عن طريق للخروج منها/ أو أن يدخلوا إلى غرفة القصيدة/ ويتحسسوا جدرانها بحثاً عن زر الإضاءة/ أريدهم أن يتزلجوا/ على سطح القصيدة/ ملوِّحين لاسم المؤلف على الشاطئ/ لكن كل ما يريدون/ ربطُ القصيدة إلى كرسي/ وتعذيبها حتى تعترف/ يجلدونها بخرطوم/ لكي يعرفوا ما الذي تعنيه حقاً».
لا يقترح أبو هواش علينا مقارنة فورية ومباشرة بين ما اعتدناه من مناخات وأطروحات وجماليات في الترجمات عن الفرنسية وغيرها، وبين ما نتلقاه الآن في ترجمة 15 شاعراً وشاعرة من أميركا. ليس المطلوب أن نُدير ظهرنا لترجماتنا السابقة لمجرد أننا دُعينا إلى وليمة شعرية أميركية، وليس المطلوب أن يحلَّ نصٌ جديد أو حساسيةٌ مستجدّة محل نصٍّ سابق وحساسية مستعملة. لا ينبغي لاحتفائنا بالجهد الكبير الذي بذله سامر أبو هواش أن يورِّطنا في تقريظٍ مفرطٍ يتنافى حتى مع الطعم الخافت والدقيق والمتواضع والواقعي لنبرات الشعر الأميركي المتوافرة في التجارب الـ15 المقدَّمة إلينا.
من اعتادوا بين قرّاء الضاد أنّ الشعر هو بودلير ورامبو وهولدرلين وريلكه... وحتى ريتسوس ولوركا ونيرودا، عليهم أن يضيفوا إلى قائمتهم بوكوفسكي وبعض زملائه.
عدد الاربعاء 10 حزيران 2009