تحت شعار "عوالم محمد بنيس" نظمت جلسة تتناول التجربة الشعرية للشاعر المغربي محمد بنيس وذلك خلال مهرجان برلين للشعر، والذي خصص دورته هذه السنة للتعبير الشعري في منطقة البحر الأبيض المتوسط كمهد للحضارات والثقافات المختلفة.
وليس من قبيل الصدفة أن يخصص مهرجان برلين العالمي للشعر لقاء خاصا بالتجربة الشعرية لمحمد بنيس فهذا الشاعر المغربي يعد من الأركان الأساسية في المشهد الشعري العربي المعاصر بفضل إبداعاته الشعرية وإسهامه النقدية الأدبية، إلى جانب دوره في نشر وصناعة الكتاب في المغرب والعالم العربي من خلال دار توبقال للنشر. التقته الوكالة وكان هذا الحوار المفتوح على روح الشاعر و عوالمه
* شاركت في مهرجان برلين العالمي للشعر، ولك حضور شبه دائم في المشهد الثقافي الألماني، ما الذي تمثله لك هذه المشاركة؟
جاءت مشاركتي في مهرجان برلين العالمي للشعر تلبية لدعوة المشاركة في مهرجان اختار الشعر المتوسطي محورا له. وقد وجدت نفسي تلقائيا مع فكرة المهرجان، لأن البحر الأبيض المتوسط يحتل موقعا خاصا في كتاباتي وثقافتي، ولأنه لا بد أن تكون لنا كلمتنا في هذا الموضوع، بالنظر إلى كوننا من أبناء الضفة الجنوبية ولنا تاريخ صعب مع الضفة الشمالية. لذلك فإن هذه المشاركة مناسبة لتبادل الرأي والرؤية مع شعراء قدموا من بلاد متوسطية أخرى ومع جمهور يهتم بالشعر والفكر والمتوسط.
* خصص مهرجان الشعر ببرلين يوما للشعر المغاربي ويوما للشعر المشرقي، ما طبيعة الحوار الذي تقترحه " بين الشعريتين"
لم يكن التنظيم في هذا الجانب جيدا. لذلك لم يتم الحوار بين الشعريات المشاركة، لا بين المشرق والمغرب فقط، بل حتى بين شعريات من الضفة الشمالية. وأظن أن مقدمة كل حوار هي توفر معرفة أولية بالآخر. وهذا محدود جدا من طرف المشارقة تجاه الشعر المغربي والمغرب عموماً. ولا أظن أننا سننجح بسرعة في إنشاء هذا الحوار. كما أن الزمن وحده لا يكفي. هناك من يتوهم أن مجرد تبادل كلمة الشكر حوار في أعلى درجات المعرفة. للحوار المعرفي بين شعريتين شروط صعبة جدا. ولنا أن نتأمل الأوضاع بعيدا عن منطق المجاملات.
* شكلت الترجمة جزءا من مشروع محمد بنيس الشعري والثقافي، هل تستحضر هذا العنصر أثناء الكتابة الشعرية؟ بمعنى هل يشغلك المتلقي الذي يكون من خارج الثقافة واللغة العربيتين؟
أعتبر الترجمة مختبرا شعريا. فيها أتعرف على أسرار أعمال شعرية ومنها أرحل إلى مناطق أبعد في التعلم. وكثيرا ما نبهت على أن أكبر الشعراء الغربيين في العصر الحديث مارسوا ترجمة الشعر من لغات أخرى. ويندر العثور على شاعر أساسي لم يترجم شعرا لشاعر يعتبره معلما أو ينظر إليه كتجربة مفيدة. الأمثلة كثيرة: هلدرلين في ألمانيا، وبودلير وملارمي في فرنسا. نماذج تكفي والقارئ الأجنبي لدى هؤلاء الشعراء له المكانة ذاتها في عملي. فأنا أكتب بالعربية.
* هل يمكن أن نقول اليوم إن الحركة الشعرية المغاربية أصبح لها حضور في المشهد الشعري العربي؟
لاشك أن الشعرية المغاربية ذات قيمة رفيعة في خريطة الشعر العربي اليوم، وأيضا في خريطة ما يكتب من شعر في أكثر من مكان في العالم.
* باعتباركم أستاذا جامعيا’ ما دور الجامعة في التفاعل مع الثقافة بالمغرب ؟
علمتني حياتي في التدريس أنني عندما أقدم للطلبة عملاً ثقافياً مغربياً باعتراف وعشق يتحول الدرس إلى لحظة من الفرح الجماعي. أحس الطلبة يكتشفون أجوبة على أسئلتهم الشخصية وهم من أعماقهم يقرأون ويحاورون. ذلك ما دلني على الطريق التي يجب أن أسلكها في التعامل مع الثقافة المغربية. ولم أتخل عنها منذ ما يقرب من أربعين سنة، حيث كنت أشعر فيها بتجدد حيويتي الثقافية ومتعتي الجسدية.
* و ما هو دور المؤسسات بكل أشكالها وتخصصاتها في تأزيم الوضع الثقافي ببلادنا؟
أعجز عن تناول المؤسسات ككل بما هي ذات دور في تأزيم الوضع الثقافي. لنأخذ، مثلا، مؤسسة النشر في المغرب. إن نحن تأملنا تاريخها وسياسة النشر لديها وإشعاعها، فلا ريب أننا سنعترف، إن كنا موضوعيين، بدورها الإيجابي، الذي يختلف كلياً عن دور الصحافة الورقية. ولا أدري لماذا نتجاهله. دور النشر عينة. ثم هناك اللغات والحقول الثقافية والفنية. الفرنكوفونية، مثلاً، تعيش لذة النعمة، والمؤسسة التي ترعاها عريقة في تدبير الشأن الثقافي وتستفيد من سند الدولة والمؤسسات الاقتصادية والمالية المغربية.
إذن، هذا يعني أننا نحتاج إلى تعيين المؤسسات. وحسب ملاحظاتي في الممارسة الاجتماعية للثقافة، فإن المؤسسة الحزبية عامل سلبي في حياتنا الثقافية. هذه المؤسسة الحزبية، تبعاً لمواقعها في المسؤوليات الحكومية أو في تدبير المجالس البلدية وبفضل تدني أخلاقيات العمل السياسي، تصر على الاستمرار في الاستحواذ على فضاءات الأنشطة الثقافية مثلما كانت مستولية على فضاء التعبير في الصحافة. تصر وهي فرحة بما تتخيله انتصارات.
* وما هو دور الإعلام المغربي في صناعة المثقف وأشباه المثقفين؟
الإعلام المغربي للأسف بعيد عن استيعاب طبيعة الثقافة ودورها في التحديث، وبالتالي لم يساعد في أن يجعل الكتاب المغاربة متكافئين في فرصة النشر والتعبير في كتاباتهم وعن آرائهم بحرية وكرامة.
كانت سيادة الصحافة الحزبية في المغرب، لفترة ما قبل التسعينيات، تعطي الأولوية في النشر للكتاب الحزبيين على حساب الكفاءة في الكتابة والإبداع. لا تهم الجزئيات أو الاستثناءات الظرفية أو اللباقة المعبر عنها في مناسبات. عديد من الكتاب المغاربة المعروفين كانوا يعملون في هذه الصحف أو ينتمون إلى الأحزاب التي تصدر هذه الصحف عنها. ولولا ما حصلوا عليه من امتياز في النشر بدون عناء لما كنا تعرفنا عليهم، ولكن كثيرا ما تنساهم تلك الصحف نفسها بعد أن يغادروها. تلك مسألة أخرى.ثم جاء زمن الصحافة الجديدة، أو الشابة، فلم تستطع أن تتجاوز أعطاب المرحلة السابقة، ولو بطريقة مختلفة، لأنها صحافة أعطت الامتياز للإعلامي، تبعا لطلب السوق، التي كانت عطشى، تحتاج إلى نشر ملفات وتحقيقات عن زمن الرصاص السياسي، أو التي كانت تستريح لخطاب الانتقاد الجارح، في الحياة السياسية على الخصوص. بهذا فقدنا الكثير مما كان للصحافة أن تفيده من الثقافة والمثقفين. ويحسن أن ننتبه إلى النشر في الصحافة العربية لنرى الأسماء والأعمال التي كانت عثرت على مكانها فيها. أقول هذا وأنا أعلم أن الوضعية الجديدة لم تعد كما كانت عليه حالة النشر في الصحافة الورقية قبل خمسين أو أربعين سنة.
* هل كان لتولي وزارة الثقافة من طرف مثقفين أثر في الوضع الثقافي بالمغر ب ؟
كانت مرحلة محمد بنعيسى أكثر انفتاحاً على الحركية الثقافية في مغرب الثمانينيات. وأرى أنه مثل السياسي الذي كان له مشروع ثقافي، وكان مقتنعاً أنه يحتاج إلى السلطة، ولكنه لا يمكن أن يحققه من داخل الدائرة الحزبية التي ينتمي إليها أو من داخل دائرة السلطة التي كان يرى أنها الوحيدة القادرة على إحداث تغيير في الثقافة المغربية. وجهة نظر فيها اجتهاد وقابلة للنقاش. ورغم أنني كنت أختلف مع اختياراته السياسية فأنا حافظت على احترامي له ولمشروعه الثقافي. دليل ذلك أنه نجح في أن يجعل من مهرجان أصيلة مكان اللقاء بين مبدعين وكتاب وسياسيين من مختلف التيارات، ويستمر في إحياء المهرجان لمدة تزيد عن ثلاثين سنة. وقد كان محمد الأشعري بدوره يحاول أن ينفتح، وقام بأعمال سأظل أذكرها بتقدير، منها تطوير معرض الكتاب، ودعم الكتاب المغربي وعمل الجمعيات. على أنه ظل محصوراً في إعطاء الأولوية للحزبي، ضمن خريطة الكتلة، وخاصة بين الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال. وهذا واضح، مثلا، من خلال لائحة الأعمال الكاملة التي أصدرها لكتاب مغاربة.
معنى هذا أن تولي وزارة الثقافة من طرف مثقفين ومبدعين أعطى دماً جديداً للعمل الثقافي في المغرب، ولكنه لم يرق بعد إلى النظر إلى الثقافة المغربية في كليتها وضرورتها وإلى الإبداع المغربي في كليته وضرورته. عمل صعب، أعترف بذلك. لكنه هو المطلوب لتحرير الثقافة المغربية والسير بها إلى المكانة العليا التي نحلم بها ويحلم بها كل مغربي معني بمسألة تحديث الثقافة وتحديث المجتمع. فالمسألة الثقافية أبعد من كونها مسألة أفراد ومجموعات. إنها تمس التوجه العام للمجتمع. وهو ما فهمته الثقافات الحديثة في العالم.
* كيف ترون علاقة الثقافة بين المغرب والمشرق ؟
كنت، وأنا شاب، أطرح على نفسي السؤال عن معنى غياب الثقافة المغربية في خطاب المشرق العربي. كان ذلك قبل 1967. لم أكن أفهم ما يحدث وما مصدر ما تعيشه الثقافة العربية من غربة بين مشرقها ومغربها. ثم أخذت أتعرف على أعمال مغربية تتناول الموضوع، وفي مقدمتها كتاب «النبوغ المغربي». لكن عبد الله العروي هو أول من أتى بتحليل جديد، لا يستند إلى موقف نفسي أو أخلاقي، بل اعتمد موقفاً معرفياً، هو ما صاغه في إشكالية التخلف المضاعف للثقافة المغربية بالمقارنة مع الثقافة الأروبية الحديثة. هذا التحليل نقل القراءة من حقل الثقافة المغربية إلى حقل الثقافة العربية من ناحية، وواجه وضعية أمر الثقافة المغربية، التي لم تكن إلا صدى للثقافة المشرقية، وهي بدورها متخلفة عن الثقافة الأروبية، من ناحية ثانية.
كان لهذا التحليل أثر كبير في تغيير موقع قراءة مكانة الثقافة المغربية. وهو من بين ما أفادني في صياغة مفهوم المركز والمحيط، والنظر إلى الثقافة المغربية كمحيط. نحن الآن بعيدون عن هذه الخطاطة، لأن أوضاعاً عديدة تغيرت في كل من المشرق والمغرب العربيين. ولم يعد هناك شيء اسمه مركز الثقافة العربية. هذا ما علينا أن نستوعبه. وأظن أن ما تعيشه الثقافة المغربية، منذ السبعينيات، ساهم في ظهور ثقافة مغاربية حديثة لها حضور قوي في الساحة الثقافية العربية. ولا جدال في التأثير الفاعل الذي تركته أعمال مغربية في الثقافة المشرقية. نعم، ثمة انغلاقات لا تزال مهيمنة في المشرق، لكنها تتضاءل شيئاً فشيئاً. فحضور الثقافة المغربية عربيا وعالميا يسهم بشكل فعال في إبدال الخطابات. وأظن أننا كمغاربة نحتاج أكثر إلى اعترافنا نحن بثقافتنا. وأرى أن السياسي في المغرب عائق حقيقي في إبدال النظرة المغربية إلى الثقافة المغربية والمثقفين المغاربة من نظرة سلبية إلى نظرة موضوعية. ذلك هو درس عبد الله كنون الذي يلزمنا قراءته من هذا المنظور. ونحن بطبيعة الحال نحتاج إلى كتاب جديد عن النبوغ المغربي، يستوعب الزمن ويستوعب الأسئلة الجديدة.
* متى تقرأ الشعر؟ و متى تكتبه؟ وما هي طقوس الكتابة عند محمد بنيس ؟
أتخير وقت الصمت لقراءة الشعر. في البيت، أو في القطار، أو في مقهى خال من الرواد. أحياناً أقرأ ديوانا كاملا طيلة يوم أو يومين، أو لمدة أسابيع، أقرأ وأعيد، أقرأ وأتأمل. أقرأ وأنصت إلى الصوت والصمت في القصيدة. وليست الكتابة غريبة عن أمكنة القراءة. أحيانا تداهمني القصيدة حيث لا أنتظرها، مكاناً أو وقتاً. على أنني أرتاح أكثر إلى الكتابة على مادة خشبية، ذات سطح فارغ، كالمكتب، لأن يدي تتحرك بيسر أكبر. وأحب الأوراق المخططة بالمربعات الصغيرة في دفتر، حتى أقيس مسافات البيت أو الكتلة الخطية. ربما كتبت القصيدة القصيرة في وقت وجيز، وربما احتجت إلى وقت أطول أو إلى أكثر من يوم. ثم إن القصائد الطويلة تحتاج مني إلى شهور أو إلى سنة، ومرات إلى مدة تفوق ذلك. أترك القصيدة تقرر بنفسها. لا أفرض وقتاً محدداً. وفي الصباحات أكون أقرب إلى القصيدة. أختلي بنفسي من صباح إلى صباح. قد أكتب أو لا أكتب. أكتب أبياتاً قليلة ثم أعود. لا أستعجل. البطء في الكتابة حبيب إلى نفسي. ونادراً ما أنشر قصائدي فور كتابتها. تحتاج مني القصيدة إلى إعادة القراءة. ومرات إلى إعادة الكتابة. لا النشر يغريني ولا الانتهاء من الكتابة. قصائد. لكنها حياة في الكتابة.
وكالة أنباء الشعر
الاثنين, 2010.11.22