عن جريدة (الوطن) السعودية
عدد 251 - 7 يونيو 2001
حاوره في الرياض: أحمد زين

محمد بنيس الشاعر محمد بنيس من مواليد مدينة فاس سنة 1948 هو أيضا أستاذ جامعي ورئيس بيت الشعر في المغرب. يعتبر أحد الأسماء الأساسية في المشهد الشعري العربي. أصدر سنة 1974 مجلة (الثقافة الجديدة). ساهم سنة 1985 م في تأسيس دار توبقال. تتميز تجربة بنيس بنفس شعري خاص، بكتابة لا تطمئن للأشكال الشعرية السائدة. فهي تفتح أفق شعريتها على كتابة لها إيقاعها الشعري المميز. كتابة تنفتح على أكثر من مكان. من مؤلفاته الشعرية: شيء عن الاضطهاد والفرح (1972)، مواسـم الشـرق (ه198م)، ورقة البهاء (1988م)، هبة الفراغ 6992 م)، كتاب الحب بالاشتراك مع الفنان العراقي ضياء العزاوي (1995 م ، المكان الوثني (996 أم)، نهر بين جنازتين (2000) بالإضافة إلى أعمال أخر، نظرية أبرزها كتاب (الشعر العربي الحديث بنياته وابدالاته في أربعة أجزاء.

- نبـدأ من (ورقـة البهاء) ككتاب يصلح لأن تتحـدث من خلاله عن تجربتك الشعرية، إذ هو واحد من الكتب الأكثر تميزاً علـى كـذا صعيد، فكـان أشبه بـقصـيـدة واحـدة، والشكـل البصري لها، فقط هو الذي يدلنا على تلاوينـها ومستوياتها ومقاطعها حيث نكون أمام نصين متجاورين في صفحـة واحدة، ولا تـوجد عناوين لنفرق بينهما سوى حـجـم البنط ونوعيـة الخط.. هل كنت تمارس نوعا من التجريب الشعري أم تؤسس لاستراتيجية نصية من خلال هذا الكتاب وغيره؟

- هذه التجربة تدخل ضمن ما أسميه الكتابة، ومفهوم الكتابة، كما طرح في الثقافة الفرنسية، هو العمل الأدبي الذي يسعى فيه الشعر إلى أن يتحرر من أحادية الصوت ومن أحادية الصفحات وبالتالي تدخل الأجناس الأدبية في علاقة جديدة فيما بينها، ليصبح العمل للأدبي متعدد الأصوات ومتعدد الصفحات في الصفحة الواحدة. هذا الانشغال بالكتابة كان بالنسبة لي ينطلق من قراءات موسعة في كل من الثقافتين العربية والأوروبية، دون أن يكون أمامي نموذج شعري في هذه الكتابة. بمعنى أن هذا العمل أقوم به من خلال بحثي في قضايا كنت أعتبرها ذات صلة بالزمن الذي كتبت فيه (ورقة البهاء) وبالأسئلة المطروحة كشخص عاش فترة الستينيات والسبعينيات بكل ما نعرفه عنها من أعمال شعرية موسعة، ومن تحولات ثقافية عميقة في الثقافة الفرنسية على الخصوص، أو الثقافة الأمريكية التي بدأت تأتى لمفهوم جديد للثقافة. وهكذا فالعمل كان بحثاً بالنسبة لي، وأيضاً هو العمل في البناء، بناء قصيدة طويلة لا تقهم على المفاهيم التقليدية لما نسميه أو ما كان يسمى بوحدة العمل الأدبي، أو الوحدة العضوية، أو على للغة الشعرية كما كانت مطروحة آنذاك. وبعد هذا العمل كتابة مدينة (فاس) وأخذ بعدا للبحث عن لغة وأيضاً عن رؤية لما كنت عشته ولما أطرحه على نفسي من أسئلة. هدا كله لم يكن من خلال ما هو معلوم في ثقافتي بقدر ما كان بحثا في مجهول القصيدة. (ورقة البهاء) بالنسبة لي عمل صعب غالباً ما قرأ قراءة متعجلة، قراءة رافضة، قراءة مشككة. وبطبيعة الحال كنت على وعي بأن هذا العمل لا يهدف إلى خلق حوار مباشر مع القارئ بقدر ما هو يدخل في حوار إبداعي معه، أي إنه يفرض على القارئ، على الأقل صدمة، هي أساس كل التأمل في العمل الشعري وفي القراءة.

مواجهة النفس وطرق الكتابة

- أيضاً يعتبر (ورقة البهاء) ومعه (مواسم الشرق) و (هبة الفراغ) الأكثر لفتاً للانتباه والقراءة من حيث محاولاتها، استيعاب جملة من القضايا الجمالية الجديدة في حين لا تبدو دواوينك السابقة حاضرة في أفق متلقيك؟

- بالعكس، فمثلاً ديواني (في اتجاه صوتك العمودي) حضور قوي وكبير في كثير من الدراسات في العديد من البلاد العربية أو في المغرب، وهو الآخر أثار قضايا وفي مقدمتها مسألة استعمال الخط المغربي، واستعمال ما أسميه بالمكان في القصيدة الشعرية. وقبـل (في اتجاه صوتك العمودي) و هناك ديوان (شيء عن الاضطهاد والفرح) وهو يتضمن نصوصي الأولى التي كنت نشرتها سنة 1967 م في مجلة (مواقف)، وقد قرأت في مرحلة لاحقة أكثر من دراسة، عبد الواحد لؤلؤة على سبيل المثال، طرح فيها سؤالاً عن هذا الشكل الكتابي غير المألوف الذي لم يكن سائداً. وكيف أن هذا النموذج وجد الصدى الكبير في العراق، وأنه كان أساس ما عرف من بعد بالقصيدة المدورة التي نسبت لشعراء آخرين.

- هل نفـهم مـن ذلك أن ديـوانك (شيء عن الاضطهـاد والفرح) كـان يؤسس للقصيدة المدورة؟

- يمكن أن أقول بك كتابتي الشعرية منذ البداية كانت تبحث عن نفسها، بمعنى أنني لم أكن أطمئن للقصيدة التي أكتبها بسهولة، بل منذ المراحل الأولى كانت تطرح عليّ أسئلة حول الشعر العربي، حول حركة التحديث، عندما كنت ما أزال في الثانوي، سنة 1965-66م. وإذا كان ديواني الأول (ما قبل الكلام) مرتبطا بقراءاتي لبدر شاكر السياب، الذي كان بالنسبة لي شاعرا يلبي الأجوبة، آنذاك، على بعض الأسئلة الجمالية البسيطة التي كانت لدي، فإنني بعد هذه المرحلة كنت دخلت في بحث غامض ولكنه بحث، على كل حال، يستمد أسسه آنذاك من معرفة أولية بالشعر العربي القديم. وأنا كنت أعود دائماً إلى الثقافة العربية القديمة مثل القرآن والكتابات الصوفية وغيرها من أنماط الكتابة العربية.

- هل كـان للدرس النقدي آنذاك دور في توقفك عند عمل ما، أو تبلور رؤية ما حول هذا العمل أو ذاك؟

- لا، كنت دائماً أهتم بقراءة الأعمال بدون العودة إلى الدراسات النقدية لأنني آنذاك كنت أعتبر الدراسات النقدية حاجزاً يني وبين العمل الشعري أو العمل الأدبي، وخاصة الدراسات العربية. ولذلك ركـزت على هذه القراءات، قراءة أعمال أوروبية مختلفة مع الاهتمام الشديد بالكتابات النظرية في الحقلين النقدي والفلسفي عن الشعر أو عن الخطابات بصفة عامة في هذه المرحلة ولا ننسى أن هذه المرحلة كانت مرحلة ظهور النقد الجديد في فرنسا، مرحلة ظهور البنيوية، ونقاد كبار جمعوا بين الشعر وبين الفلسفة. وهذه كلها كانت ذات تأثير كبير بالنسبة لي. وعلى كل حال القصائد التي كنت نشرتها في مجلة (مواقف) عام 1969م موجـودة في ديوان (شيء عن الاضطهاد والفرح) وككل بحث شعري وككل كتابة لا تتهرب من القلق والسؤال، كانت المرحلة الأولى، مرحلة البحث الذي يصل أحيانا إلى حماقات، وأنا أعتبر هذه الحماقات من طبيعة البحث الشعري ومن طبيعة البحث عما لا أعرفه أو عما لا يمكن أن أتنبأ بنتائجه. ولم أكن أبالي كثيرا بالنتائج بقدر ما كنت أحاول باستمرار أن أواجه نفسي، أواجه طرق الكتابة.

- هل لهذا السبب، دائمـا نصك الشـعـري يـثير مسـالـة التجـنيس، فالنص لديك صعب، ثري معقد ومـركب. هل هو قصيدة نثر وفق مفاهيم خـاصة بك، أم تجاوز ذلك إلى نص مفتوح. فبعض الشعراء وبعد إصدار عدد من الدواوين تصل تجربتهم إلى نوع من الاستقرار بمعنى يمكن، وان كـان بـقـدر غير يسير من الصعوبة تعيين بعض القوانين الثابتة ومسائل فنيـة متبلورة الملامـح، أي قـارة. لـكـن الأمر يخـتلف معك، فلا يزال نصك يمعن في التباسه وتعقيده؟

- مهما حاولنا أن نبحث باستمرار فهناك شيء فشئ- بعض الثوابت التي تبدأ في البروز وفي الاستقرار على الرغم من كل شيء. والمشكلة كيف نقرأ الأعمال الشعرية، ونعمل من القراءة إذ شئنا تاريخ للقصائد من خلال القصائد نفسها. فإذا كنت عدت في تفسيري السابق لبعض مظاهر البحث، فأنا اعتقد أن هناك خصائص ملازمة لما كتبته على الأقل منذ (شيء عن الاضطهاد والفرح) حتى الآن. وهو ما أسميه بناء تركيبياً للعمل الشعري، أن الاهتمام بالنحو كان دائماً علامة على أن ما أحاول أن كتبه لا يذهب إلى اعتبار الاستعارة هي مركز الكتابة الشعرية. وهذا نادر ما تم الانتباه إليه لأنه اشتغال في أفق آخر للعمل الشعري والكتابة. إذاً تلك الأعمال التي كتبتها هي لحظات من هذا البحث تتدخل فيها أسئلة، تتدخل فيها المعارف، تتدخل فيها أوضاع الذات، أيضاً الأوضاع الصعبة إما للشعر أو لما هو خارج الشعر، وبهذا المعنى أعتبر أن الكتابة الشعرية بحث دائم. وان توقفت عن البحث فمعناه هناك خلل ما في العمل، لأن الشعر ليس طريقاً معبدا نصل إليه، أو ليس بداية نصل فيها إلى نهاية، ولكن كما أقول هو نهاية تبدأ باستمرار، إذاً تلك النهاية التي تبدأ هي ذلك القلق اللانهائي المصاحب للكتابة ولربما كنت أحس مع هذه الفترة التي قضيتها بمراحلها أنني مسافر يتابع السفر وليس هناك أمامي شئ اسمه الوصول إلى نقطة ما، أو الوقوف عند حد ما أو الراحة في نقطة ما. فالسفر هو شرط تكويني للقصيدة وشرط وجودي أيضاً.

تعديلات في الصورة من المركز والمحيط

- ننتقل إلى المشهد الشعري في المغـرب وتحديـداً إلى الشعراء الذين جـاءوا بعدك ولعل أبرزهم: محمد بـنـطلحة، حسن نجمي وصلاح أبـو سريـف وغيرهم.. كيف تقيم الإنجاز الشعري لهذا الجيل؟.

- أعتبر هذا الجيل جيلا شجاعاً أحييه وأشجعه لأن يستمر في العمل في أفق تحديث القصيدة والعمل ضمن ما هو متداول عربياً باسم قصيدة النثر، فيه تفاعل مع الحركة الشعرية الإنسانية، وهذا مفيد جداً للعمل الشعري العربي والمستقبلي وما نلاحظه الآن، ذلك الفرق الزمني الذي كان بين القصيدة العربية والقصيدة الأوروبية في بداية القرن، كم الفرق بين القصيدة المغربية والقصيدة المشرقية. أصبح يتقلص شيئاً فشيئاً. وحتى من حيث المتخيل، على الأقل، الجماعي هناك هذا التعديل في الصورة عن الذات أو عن الآخر. أو في الصورة عن المشرق وعن المغرب أو عن المركز والمحيط. كلها تخضع لتعديلات.

- مـاذا بـخصوص المشهد الشعري التسعيني، لا توجـد أسماء بارزة تخطت المغرب إلى غيره؟

- هناك مجموعة مهمومة من الشعراء الشبان الذين يـكـتـبون الآن في فترة التسعينيات مثل محمود عبد الغني وأنا أعتبره من الأصوات الجيدة جداً. وقد نشر ديوانا في دار توبقال بعنوان (حجرة وراء الأرض) وهناك شاعر جميل في نفس السن تقريباً هو حسن الوناني وهناك أيضاً عبد الحميد اجماهيري. وأنا مقتنع بأن هذه الأسماء تبحث عن قصيدتها بشجاعة وتجربة، وأيضاً لها قدرة على الحوار مع الشعر عربياً وإنسانيا، وكل هذا يعطيني تأكيد بأن هناك وضعا شعرياً جديداً الآن وضعاً ثقافيا

الغرب و الرغبة في الحوار مع الشعر العربي

- علاقتك بالمشهد الثقافي في الغرب ومشاركاتك في مهرجاناته وملتقياته الأدبية وغيرها إضافة إلى ملاحـظاتك على العلاقات الثقافية هناك.. حدثنا عن هذا الجانب؟

- شخصيا ما ألاحظه أن الغرب هو أوسع كثيراً من العالم العربي، أن الغرب متحرر من هذه الأفكار، وأنني ممكن أن أحاور أكثر من طرف في أكثر من منطقة أوروبية بشكل مفتوح أساسه ما أكتب فقط، وليس هناك شيء قبله أو بعده. وهذا ما تعلمته من الحوار مع الغرب، وهو حوار يعطيني حرية أكبر، بل أن ما أنشره الآن في الغرب أكثر بكثير مما أنشره في العالم العربي. وهناك ترجمة في أكثر من لغة وهناك أعمال وإنجازات جدية إلى حد كبير، وهذا شخصياً ما يهمني. فأنا أشتغل مع من يحترمون العمل الثقافي، ويتخلصون من الترسبات السلبية للعلاقات والمنظومات الثقافية. أحاول أن أعمل معهم من أجل تقديم شيء ما ممكن أن يكون إيجابيا ولو في رقعة محدودة من أجل منظور إنساني.

- بالنسبة للشعراء العرب وأيضا المبدعين الآخرين الذين تمت ترجمتهم إلى لغات أوروبية، فرنسية أو إنجليزية أو غيرهما، هل كـان لهم من التـأثير بحـيث أصـبـحـوا جـزءاً من النسيـج الشعري أو الثقافي في تلك اللغات أو مكوناً من المكونات الثقافية لشاعر ما أو روائيا في أوروبا، أم إن تـلك الترجـمات تـبـقـى على هامش المشهد الثقافي في الغرب دون استـطاعة تجاوز ذلك إلى العمق وبالتالي التأثير، أو على الأقل لفت الانتباه؟.

- أكبر شاعر الآن مترجم، هو أدونيس. وأدونيس له حضور عالمي حقيقي وهناك محمود درويش أيضاً، الذي له ترجمات جيدة بالفرنسية، وله ترجمات بلغات أخرى، ويحظى باحترام كبير على المستوى الشعري، ويذكر كشاعر كبير، في أكثر من مكان في العالم، ومن طرف أكثر من شاعر. وهذان نموذجان قويان إلى جانب أدونيس ومحمود درويش هناك أسماء عديدة الآن أخذت أعمالها تترجم شيئاً فشيئاً. وما يهم هو أننا نلاحظ اهتماما غربياً متزايدا بالشعر العربي.وأتوقع أنه في العشر سنوات المقبلة سيعرف الشعر العربي أكثر مما نتوقعه. لأن المبادرة الآن تتعدد في أكثر من منطقة، والرغبة تتزايد للتعرف على الشعر العربي وللقاء، لفتح حوار مع الشعراء العرب، ولإصدار أعمال مشتركة بين اللغتين العربية وغيرها.

- هذه المبادرات والرغبة في التعرف والحوار مـع الشعراء العرب من مؤسسات ثـقافيـة رسمية أم من شعراء ومبدعين؟.

- أولا المؤسسة الرسمية في الغرب، ليست هي المؤسسة الرسمية في العالم العربي. المؤسسات الرسمية الغربية تعمل ضمن مشروع أدبي، لا يمكن أن تتخلى عن القيمة الأدبية له. هذا غير وارد وليس هناك تلاعب بالقيم. وهناك على مستوى مؤسسات غير رسمية أو مؤسسات النشر، وأيضاً أفراد. وهناك اهتمام كبير جداً بالأدب، وهناك مؤسسات عديدة داخل البلد الواحد، على عكس ما نعيشه في العالم العربي، حيث يعتقد أن المؤسسة التي تشتغل على الأدب هي مجرد مهنة تمنى بها على الناس لكن هؤلاء يقومون ضمن مشروع حضاري واسع. ولديهم أسئلة حقيقية، ويقومون بأعمال ضمن تفكير عميق. وللأسف الشديد هذه كلها ممكنة بالنسبة لنا ولغيرنا. ولكن لابد أن نعثر على من هو في مستوى استيعاب هذه الحركة في الغرب والتعامل معها بجدية وتبنيها واشتغال الشعر في هذا الأفق، دون أن يكون هناك ضرورة زائدة في عدم الكشف عن إبداعية ذاتية في جميع الحقول. وتعلمت من الغرب، أو من العلاقة المباشرة معه، زيادة الثقة في الذات، الزيادة في الاشتغال في أفق الحوار والدفاع عن الأفكار التي يمكن أن أصل إليها شيئاً فشيئاً وأتعاون مع أكثر من طرف.

توبقال والدفاع عن الأفكار

- أنت واحـد من مؤسسي دار تـوبـقـال، الدار التي قدمت للمكـتـبة العربية الكثير من الإصدارات المتـنوعة وفتحت الأفق واسعاً على حقول عديدة، نتساءل هنا هل هـي مجرد دار نشر بحيث يكون الكسب المادي هدفا رئيسياً، أم يمكن اعتبارها مشـروعـاً ثـقـافـيـاً له أهدافـه وهمومه؟

- بدءاً أقول بأن دار توبقال هي قبل كل شئ مؤسسة ثقافية أنشأها مثقفون لهم أسئلة ثقافية وهمّ ثقافي. والجانب التجاري ينحصر في التسيير العادي لمؤسسة لابد أن يحضر فيها الجانب التجاري كشرط للعمل. ولكن ليس استراتيجية لهذا العمل. ومن ثم كان إنشاء هذه الدار خلاصة لمعاناة طويلة وتفكير وبحث وتأمل في أوضاع الثقافة المغربية، وفي علاقتها بالثقافة العربية، وفي الثقافة الإنسانية أيضا وكل هذا كان حاضراً منذ اللحظة الأولى لتأسيس دار توبقال. وهو ما جعل هذه الدار تظهر كدار عربية متميزة منذ الإصدارات الأولى التي أصدرتها واستمرت
في سياستها طيلة هذه السنوات الخمس عشرة التي قضتها في حقل النشر. وهي الآن وصلت إلى ما يقارب الثلاثمائة عنوان في حقول متعددة وهذا بحد ذاته حصيلة أعتبرها مفاجأة وغير متوقعة. لم أكن أتوقع في اليوم الأول وأنا اشتغل مع أصدقائي من أحل تأسيس دار توبقال، أن تصل هذه الدار إلى إصدار هذا العدد المهم من العناوين، على الرغم من أنه ضئيل جداً بالمقارنة مع ما يمكن أن تصدره
دار مـن الدور الأوروبيـة المتوسطة. وهذه الدار اختارت لنفسها أن تلتقي بالثقافة العربية كوجهة نطر جديدة لمعنى أن ترسم لنفسها سياستها الخاصة، دون أن تكون ملزمة لنفسها بنموذج عربي، موجود هنا أو هناك ولذلك فهي اقترحت عملها كمشروع جديد ضمن المشاريع العربية الأخرى.

- وهل هنـاك وعي نقدي جـديـد يستوعب هذه الأوضاع الشعرية والثقافية الجديدة؟.

- ما نحتاج إليه هو بروز وعى نقدي وجمالي جديد، يستطيع أن يدرك هذه الابدالات العميقة في الوضع الشعري العربي وهي عمليا التي بدأت أواسط السبعينيات ونهاية التسعينيات حتى الآن.

- وفيما يتعلق بـالجيل التسعيني وحتى الجيل الذي سبقه، هل تعتقد بوجود سطوة شعرية لمحمد بنيس عليهما؟

- لا أعتقد. وأنا بعيد عن كل شيء في المغرب. ولا أريد أن أفرض رائي على شخص. و ما أقوله عن الكتابة هو شيء يخصني. وفي نفس الوقت أترك مسافة بيني وبين هؤلاء الشبان في ما يفكرون فيه وما يكتبون. وعندما أستطيع أن اقدم عملاً بسطاُ لهم، فأنا أكون إلى جانبهم دون أغفل عن كثير من الشعراء. سواء من الثمانينات أو التسعينات، يجهرون بعدائهم لي، أعتبره شيئا طبيعياً.

- هل لهذا العداء علاقـة بالحساسيـة التي عادة ما تكون بين الأجيال. أو لهيمنة اسم محمد بنيس على المشهد الشعري في المغرب وفي الخارج؟

- كثير من المعلومات عني هي خاطئة. ويجب أن تعلم أنني منذ سنوات لا أنشر حرفاً واحداً في المغرب. أنا ليس لي مكان في المغرب وليس لي مكان حتى أقرأ فيه شعراً أو أنشر. المكان الوحيد الموجود الآن بالنسبة لي هو بيت الشعر وحتى في بيت الشعر لا أقرأ شعراً ولا شيئاً شخصياً. أحاول إلى جانب الأخوة النشيطين في البيت، أن أقدم للآخرين. بالنسبة لي أنا أتحاشى مثل هذه الأشياء كلها. ما يشغلني هو أبعد من هذه القضايا، أبعد إلى حد كبير. تشغلني أشياء أحرى وكلها في الكتابة ولا أنسى حتى علي مستوى السكن. أنا لا أسكن في مدينة ذات هيمنة ثقافية، أسكن في مدينة صغيرة حداً علي هامش كل شيء هي مدينة المحمدية. أعيش في صمت ومع حياة قاسية في العزلة.

- ولماذا العزلة، هل هي خيار الكتابة مثلاً؟

نعم هي خيار للكتابة، لأنني عندما تأملت تاريخ الثقافة المغربية الحديثة، وتاريخ الثقافة العربية، وعندما تأملت كـثيراً في أوضاع الحداثـة، وتأملت أيضاً في صورة الكتابة على المستوى الإنساني، كل هذا جعلني شيئاً فشيئاً أتعلم كيف أكون حاضراً في زمني من خلال ما لا نراه عادة، وأفهم جيداً أن كثيراً من الأشياء الثقافية لم تعد تثيرني على الإطلاق، خاصة وأنا عشت مرحلي قاسية جداً على مستوى الصراعات مع المؤسسة الثقافية و المؤسسة السياسية، وكل هذه الصراعات علمتني كيف أستفيد من فضاء العزلة و أدافع عن حريتي. وكما قلت أنا أكتب خارج المغرب ولا أسى لأن يقرأ المغاربة ما أكتب أو لا يقرأون. هذه أشياء كلها بصراحة أجدها غير ذات أهمية مباشرة بالنسبة لعملي. ومن ثم أنا أتبع عادة ملا يظل بعيداً عمن يهتمون ريما بما أكتب. أو يضعون لي صورة لست مسؤولا عنها. وهذا جانب سري وجانب ذاتي. أي الذي يظل محجوباً حتى النهاية.@