اجرت الحوار: فاطمة عطفة

محمد بنيسالشاعر المغربي محمد بنيس غني عن التعريف، له اسمه وموقعه في مسيرة الحداثة الشعرية العربية شعرا وتنظير، هنا حوار معه:

*دعنا نعود الى النشأة الاولى في مدينة فاس وتأثيراتها عليك؟
*أنا أعتبر فاس قبل كل شيء مدينة الأشباح، هذه الأشباح التي تعود من الأزمنة القديمة للمدينة تكلمني وتأمرني بأن أكتب، لذلك أقول علاقتي بفاس ليست هي علاقة حنين، ولكن علاقة بمكان يحتفي بهذه الأشباح وأصواتها عبر التاريخ، ونحن نحتاج إلى أن ننصت إلى هذه الأشباح ونكون مهيئين بأن ننصت إليها، لذلك هذه الأزمنة التي أتحدث عنها وتعلمت منذ الطفولة كيف أنصت إليها، يختلط فيها الموسيقى بالشعر، كلام الناي بكلام الأدباء، وتختلط فيها أصوات الوافدين بأصوات العابرين. وهذه الأزمنة الحضارية المتعاقبة على المدينة، وأيضا التبدلات التي حصلت ابتداء من أواسط العشرينيات، وأصبحت المدينة بفعلها تدخل زمنا آخر. إذاً، هذا كله ما يشدني إلى المدينة، ومن خلال خلال هذه المدينة إلى كل ما يحيط بي بهذه الحياة، وربما حتى تصل هذه العلاقة إلى ما يشكل عالم اليوم الذي أعيش فيه. لا أقصد أن فاس مركز الكون، لا! ولكن الطفولة التي كانت لي، والنشأة التي كانت لي تظل حاضرة في طريقة تعاملي مع ذاتي أو مع الأشياء أم مع العالم؛ وهي تتجدد كل مرة، إما من خلال أسئلة جديدة أو من خلال معارف أو من خلال هذه الأوضاع الصعبة التي نعيشها. لهذا، فاس هي دائما متبدلة، وهذا التبدل لا نهائي. إذاً، أنا في علاقة حركية مع المدينة، رغم أني غادرتها منذ ما يقرب الآن من أربعين سنة. عندما أتكلم هكذا عن فاس، فأنا أتكلم عن فترة كان رفقائي في الطفولة يتقاسمون معي، كما كنت أتقاسم معهم، الحلم بأن ننتسب إلى عالم حديث حر جميل يكون لنا فيه مثل ما للأطفال الآخرين في العالم المتمدن والمتحرر في حياتهم. لم نكن نريد أشياء أكثر من هذا. ولكن تبين لي عبر السنوات أن ما كنا نريده ونحلم به كان كلمة، الحرية هي التعبير الأصفى عنه، وتبين لي بعد ذلك أنها أصعب مما كنا نتخيل’.

* المغرب هي الأم الكبرى، لكن الأم الحقيقية، النشأة، البيت الأسرة، هل هناك شيء خاص في تربية الإنسان المبدع.. يتعايش معه حتى يصل في المستقبل إلى ما يريد؟ وما دور الأم والبيت، كيف كانت البداية وتأثيراتها؟
* أنا فقدت أمي وأنا طفل صغير، وجدتي هي التي رعتني، وربما كان أعظم ما أخذته منها هو أنها كانت تحميني، أولا من شيء يمكن أن يمسني بسوء كيفما كان، وفي الوقت نفسه كانت تثق بي دون أن تعرف ماذا أفعل، فلهذا هي يسرت لي كثيرا شروط تكوين نفسي، من قراءة ولقاء مع رفاق الحي، وتوفر لي أشياء بسيطة، ولكن كانت ذات تأثير كبير في تكويني، ولم يكن سلوكها هذا صادرا عن غنى مادي، مثلا. كنا عائلة بسيطة جدا، ولكن عندما نكون حريصين على ما هو ضروري أظن الأشياء تعرف كيف تجد طريقها. وهناك جانب آخر، الرفاق الذين أحاطوني كانوا حقيقة مثل عائلة واحدة، الحي الذي كنت أعيش فيه كنا مجموعة نعتبره لنا كأنه بيت واحد، وكتبنا كأنها تنتمي لمكتبة واحدة. وهذا ساعدني كثيرا لتوسيع معارفي وإغناء ذاتها، وكذلك انفتاح على مجموعة من الفنون بطريقة، ربما تلقائية، في مدينة ربما منغلقة على ذاتها ولا تعرف العالم. في هذا الجو الحميم الذي كان يجمعنا، كنت أستطيع أن أتعرف على الموسيقى الكلاسيكية، الروايات العالمية، أجمل الدواويين الشعرية، كتب التاريخ، وشيئا فشيئا الفنون التشكيلية، بحيث أظن أنه ما كان ضروريا للتكوين في هذه المرحلة كله أخذته دون عناء كبير من خلال هذه الرفقة الطيبة. لم تكن رفقة شريرة، كنا نحب اللعب، ولكن نحب أكثر هذه الأشياء، القراءة، الموسيقى. أظن هذا كان ممتعا في حياتي. ثم إلى جانب هذه الرفقة وكل هذه الأشياء، هناك العزلة. كنت أحب العزلة، حتى وأنا مع أصدقائي كان لدي نوع من العزلة التلقائية، أقضي وقتا طويلا في القراءة، أو أجلس وقتا طويلا أنصت إلى الموسيقى. وأعتقد أن جميع هذه العوامل كانت مساعدة لي، على الأقل من أجل أن أجد نفسي ذات يوم أكتب، وأنا لا أعرف كيف حدث ذلك، ولكن جاء وقبلته، وشيئا فشيئا أصبح الأمر جديا. أنا الذي لم أكن أتخيل في يوم ما، أنني سأحصل على شهادة علمية، مثلا، ولم يكن يخطر على بالي أني سأنشر في صحيفة أو مجلة، فبالأحرى أن يكون لي كتاب. هذه أشياء، كان لا يمكن أن أفكر فيها، كنت في عالم آخر.’

* هل العزلة ما زالت ترافقك؟
* أنا شخصيا أعتبر العزلة من متع الحياة ، وهذه العزلة أعتبرها هي البيت الرحب للكتابة، وللاستمرار في الكتابة، لأن ما تعلمت في هذه الحياة هو أن الكتابة تعلم دائم. ولكي أتعلم دائما أحتاج لمسافة بيني وبين الآخرين، مسافة بيني وبين مجموعة من القيم، مجموعة ما بيني وبين مجموعة من العادات، والشروط العامة التي نعيش فيها. هذا شيء صعب جدا بحكم القيم الاجتماعية التي نعيش فيها، والتي لم يصل فيها الفرد إلى الحصول على حقه في ممارسة عزلته، دون أن يعني ذلك شيئا يمكن أن يمس الآخرين في شيء، بمعنى هذه العزلة ليست حكما بالسلب على الآخرين، وليست حكما بالسلب على العالم، وليست حكما بالسلب على شيء من الأشياء العادية في الحياة، ولكنها حياة ضرورية، حياة أرتاح إليها، وأجدني فيها أعيش لحظة من الحرية مع نفسي، ومع ما أفعل. ولم أكن الآن متشددا أكثر مما مضى، وأرغب بكل قوة في العودة إلى تلك المرحلة السابقة من الشباب التي كنت فيها أمارس عزلة صارمة. ولم يكن يهمني فيها أي عنصر من عناصر الحياة، سواء العائلية أو الاجتماعية أو أي شيء. فكنت أعتبر ذلك حياة طبيعية، رغم أنه أحيانا كان ينظر لي، إما نظرة الشفقة، أو نظرة الريبة، أو نظرة الحنان. هناك مراحل كذا من كان يعتبرني مجنونا، مثلا، لا أتكلم مع أحد. هناك من كان يعتقد أني متكبر، مثلا، ولا أريد أن أجلس مع الآخرين. وأنا لم يكن يخطر على بالي، أنا كنت طبيعا ولم أفتعل هذه الأشياء، الآن بعد سنوات قضيتها في الحياة، وخرجت للآخرين ربما أكثر من اللازم لأنني كنت أؤمن أن انفتاح الآخرين ضروري، أجد نفسي لحظة أعيد النظر في هذا السلوك وأقول: هذا ليس من طبعي، ولا بد أن أعيش كما كنت، وأن أظل مخلصا لهذه الطريقة التي كانت لي بشكل تلقائي في الحياة، أعيشها على بعد مسافة من العالم من أجل أن أكون فيه بطريقة أفضل، ربما بحرية أكبر.’

* تربية الجدة ذكرتني بالشاعر العظيم المتنبي وجدته، هذه الجدة التي نحن بمجتمعاتنا ابتعدنا عنها بالتربية الحديثة ولأسباب كثيرة، هل كتبت قصيدة لجدتك؟
*كتبت أشياء، نصوصا، كما كتبت عن المرأة لأني أعتبر المرأة مهمة في حياتي، والمرأة تحتاج لكل تعظيم وكل تبجيل، ولا بد للرجل ذات يوم أن يتواضع ويقدم اعتذارا للمرأة. أقول هذا ابتداء من نفسي، لأن ما أعطتني جدتي شيء كبير جدا، امرأة فقيرة لا تملك مالا، لكن حبها وعطفها وحمايتها لي، وكلما تذكرت هذا أشعر بالخجل. أنا لم أسئ إليها بطبيعة الحال، ولكن لم تعش حتى الفترة التي يجب أن أرد لها شيئا مما أعطتني. هي أعطتني بدون مقابل، وكلما فكرت في هذا الأمر قلت ربما أتناول هذه العلاقة مع الجدة بطريقة مختلفة تماما، لأنه مهما كان عمرها سيطول كنت سأبقى أنا صغيرا، ولا يمكن أن أرد لها هذا الجميل. إنما علي أن أنتبه ما قامت به جدتي تجاهي كأنها توصيني أن أقوم به تجاه أحفادي. إذاً، هذه هي الطريقة التي أشكر بها جدتي وأعترف لها بالفضل لأني أعتبر الجدة هي غنى كبيرا لتربية الأطفال، وغنى للتواجد النفسي، ولتشبث الناس بالحلم، وهذا شيء عظيم. جداتنا نحن كن أميات، ولكن كان لهن وعي كبير بأن يكون الأحفاد يتوفرون على كل ما يحتاجون، من أجل أن يعيشوا الحياة كما يريدونها. هذا شيء عظيم، رغم أنها أشياء بسيطة، كنا نريد أن نشتريها للمطالعة، هذا أقصى ما كنت أريد. لم أكن أعتني لا باللباس أو غيره، لم يكن لي أي شيء أكثر من الكتاب’.

* لن أسأل عن أعمالك وأنت غني عن الذكر، لكن سؤالي عن الحداثة، أليست مغامرة في اللغة وتجديدها مستمر؟.
*الحداثة الشعرية حداثة موجودة في كل الأزمنة، وملتصقة في اللغة والمغامرة في اللغة، بدون ذلك لا معنى للشعر أصلا. لأن الشعر يشتغل على كلمات، وكلمات قليلة، ومهمته أن يعطينا في كل لحظة لغة ينتجها هو بإمضائه الشخصي، لا بإمضاء شخص آخر. إذا لم تكن هذه اللغة، فنحن لا نحتاج للشعر. لهذا، فإننا اليوم نعيش مشكلا كبيرا هو انحسار الشعر، وهذا الانحسار هو الوجه الآخر من ضمور اللغة نفسها، بمعنى أنها لغة مهددة بالموت، عندما تتحول إلى لغة تواصل فقط، وتتحول إلى لغة ذات بعد واحد، وتتحول إلى لغة بدون لغة. إذاً، فعمل الشاعر أنا أعتبره في كل الأزمنة، كان عملا لا نحس به، لأن الثقافة العامة التي تتداول اليوم لا تجرؤ على رؤية البعيد، سواء في الحضارة الإنسانية أو في الوضع الثقافي العربي. هي ثقافة محدودة في خيالها، ومحدودة في حلمها، حتى لا أقول ثقافة بدون جنون ولهذا لا ترى فعل الشعراء العرب الحديثين في اللغة العربية. أعتقد أنهم كان لهم الفضل في أن تكون هذه العربية – كما أسميها- عربية راقصة، يعني أعطونا مستويات وطبقات من هذه اللغة، تجعلنا لا نحلم، ليس مسألة الحلم، ولكن نكتشف عوالم متعددة في عالمنا، جعلونا نحتضن العالم مثلما نحتضن الذات. لذلك، أنا لا أعتبر أن الحداثة شعار أو بلاغة إعلامية، ولكنها هي قبل كل شيء معرفة، وهذه المعرفة تمر عبر مجموعة من المعارف لتجد صيغتها في اللغة الشعرية. إذاً، هذه اللغة التي تفاجئ لا يمكن أن يقبل بها أي عقل يرفض المعرفة ويتبرأ من الحلم، ويشوه معاني الكلمات، لا يمكن أن يقبل بها. فمن هنا أرى أن مهمة الشاعر اليوم أصعب كثيرا مما كانت، لأن شرائط الحياة الثقافية العامة تبدلت نهائيا، والقيم لم تعد هي التي كانت. وإلى جانب هذا، هناك ثقافة إعلامية أصبحت طاغية تحجب القارئ عن العمل، فلا يستطيع أن يصل إلى القصيدة. وإذا وصل إليها، فهو يصل إليها في غالب الأحيان بثقافة مشوهة، تريد أن تختزل الشيء في ما يراه هو، أو في ما هو النموذج الثقافي، أو في ما هو يستجيب للرأي العام الثقافي. هذا، للأسف الشديد، لا علاقة له بالشعر، إلا إذا كنا نقول إنه تجربة لغوية وتحضر اللغة فيه بشكل أولي، فلا بد أن ننتبه إلى معنى هذا القول ونرى أن فئة الشاعر هو أبعد مما نتخيل، وأبعد مما يمكن أن يدفع إليه خطاب تبسيطي واختزالي. وللأسف أن نموذجا من الخطاب الآن هو الذي يسيطر إما في ضوء ثقافة الاستهلاك والإعلام، أو بسبب هذا الخطاب الديني الذي أرى أنه جاهل، ولا يحتاج لوصف آخر أكثر من كونه جاهلا. وهو بعيد عن الشعر، والشعر معرفة عالية ومعرفة لها تاريخ رافقت البشرية، ولا يمكن في لحظة الضيق التي نعيش فيها أن نقف بنوع من التعجل أو التسرع لنقوم بإدانة الشعر أو، باختصار، أن نضعه في سلة المهملات. وما أرجوه أن يستمر الشعراء في عملهم، والحياة مفتوحة والزمن مفتوح. وأنا أعتقد أنني أرتبط بالعالم وبالزمن أكثر مما أرتبط من الآن وبالأشياء العابرة’.

* بدأ الربيع العربي من تونس، أي من المغرب العربي وامتد إلى أن وصل سوريا، نظرتك إلى ما جرى كمبدع ومن المغربي العربي، كيف تنظر لما جرى وكيف سيستكمل طريقه؟
* أظن أن ما قلته سابقا يجد مبرره في ما حدث في بداية الربيع العربي. انطلق الربيع العربي من بيتين لأبي القاسم الشابي، وهما بيتان يمجدان الحياة، وبيتان يؤكدان أن إرادة الشعب أقوى من إرادة القدر. وهذا بحد ذاته إشارة رمزية إلى معنى قوة الشعر في حياة الشعوب، وخاصة بالنسبة لنا في العالم العربي. أظن أن كل ما كتب عن الربيع العربي لم يستوف حتى الآن التأمل في ما معناه أن ينطلق هذا الربيع، أو تنطلق هذه الثورة من خلال بيتين شعريين، تكون فيه الإرادة هي الحاضرة، نحتاج ربما لكثير من الدراسة لها. لكن هذه الانطلاقة التي فاجأتنا وفاجأت العالم، وجعلتنا في لمح البصر نتحول إلى قدوة للشبيبة في العالم، حيث الربيع العربي تحول إلى رمز نضالي لشبيبة العالم في كل مكان. هذه الشعلة التي رأيناها تخترق الفضاء العربي، ولا شيء يحول دون انتشارها، عشنا بعد فترة وجيزة مشاهد خنقها ومشاهد وأدها، ومشاهد تبديل ما كان بأسوأ مما كان. هنا كانت المفاجأة الثانية، أو المشهد الثاني من المفاجأة، حيث لا أحد صدق المشهد الأول، ولا أحد استطاع أن يصدق المشهد الثاني. وكل مرة نسأل عن السبب. أنا ألاحظ، أولا: أننا تحملنا أكثر ما يكفي من الآلام، آلام الناس الذين يقتلون، والذين يدمرون، الذين يغتالون، ونتعذب في كل يوم لما نسمع ونرى، ونشاهد، ونقرأ من هذه الوحشية التي تدمر كل شيء في العالم الذي كان نقطة انطلاق هذه الثورة. لهذا، لا بد أن نقف قليلا ونتأمل. وعندما أقول نقف قليلا ونتأمل، أقصد أولا أصحاب المعارف الذي يمكن أن يباشروا التحليل في هذا الميدان، من علماء السياسة، وعلماء الاجتماع والأنتربولوجيا، نحتاج إلى آرائهم في ما هي الأدوات المعرفية. لكن على الشاعر والمبدع هو الآخر أن ينتبه أننا لا ننساه في هذا الزمن. وأعرف أن الجواب على هذه اللحظة ليس هينا على الإطلاق. ليست المسألة أن أقول أنا مع أو ضد، ولكن المسألة كيف تجد هذا المعنى، المع أو ضد صيغتها فيما نقوم به. إذاً، أنا شخصيا لست نادما على هذا الربيع العربي، وأقول إنه أتى بأشياء عظيمة في تاريخنا وسيبقى لحظة قوية، لأن هناك أوضاعا تبدلت، هناك دساتير تبدلت، هناك أشياء بالنسبة للأفراد أو الجماعات موجودة اليوم. وهناك، للأسف الشديد، تدمير أشياء إيجابية، كانت موجودة ولم يكن من الضروري أن تدمر. ولكن واقع الأشياء هو هذا. لذلك، فأنا لا أتسرع في الحكم. نعم، في كل لحظة أرى فيها القتل والدمار، أرى أن المسؤول عن القتل والدمار هو المتسلط والمتجبر، الحاكم الأول. وكل الأنماط الأخرى المرافقة له، القريبة أو المعارضة، تظل ثانوية بالنسبة له. بمعنى لو كان هذا الحاكم العربي، من هذا النمط، يحس على الأقل أنه إنسان، وأنه ليس خالدا في هذه الحياة، فإن عليه أن يحترم إرادة الناس وينسحب من الحكم. هذا أقل ما يمكن أن يفعل. ولكن أن يقتل شعبا بكامله باسم الدفاع عن قيم، كيفما كانت، سواء الدفاع عن الحرية أو القومية أو السيادة، جميع الكلمات تصبح بدون أي معنى أمام الدماء التي تراق، والناس الذين يقتلون، والمدن التي تدمر، والاقتصاد الذي يخرب، والآمال التي تحطم، والنفوس التي يلقى بها إلى الجحيم. هذا يعني لا أتخيل أن يكون موجودا، ولكنه للأسف هو الموجود’.

* هل خطفت أحلام وثورات الشباب؟
*ما حدث أتى بنفس الشخصيات أو بما هو أسوأ. ولكن، هناك شيء قوي إلى جانبه، وهي هذه النفس التي خرجت إلى الشارع وعبرت عن نفسها. يجب أن لا ننسى هذه القوة بأخطائها، ولكن في نفس الوقت، كما حاولت أن أكتب من قبل: علينا أن نفصل أو نفرق بين شبان خرجوا إلى الشارع يطالبون بكرامتهم، لا يطالبون لا بمال ولا بأي شيء غير الكرامة فقط، ومن عناوين الكرامة الحرية، وبين وصول الإسلاميين إلى الحكم. الفرق أن الأولين ليسوا منظمين، وليسوا قوة اجتماعية قامت بهذه الثورة ضمن مشروع تهيأت له منذ سنوات، وهيأت قواعدها له. لا، هؤلاء مجموعات من الشبان خرجوا إلى الشارع وتبعهم الآخرون، وتبعهم آخرون، فيما كان في الجانب الآخر قوة تترصد ما يفعلون، وقد كانوا يتهيئون لسنوات وينظمون أنفسهم. كانوا يرفضون الديمقراطية، وكانوا يرفضون قيم الثورة، فإذا بهم يجدون أنفسهم في فرصة لا يمكن أن تعود بسهولة، فاستغلوا الديمقراطية كي يستحوذوا على الثورة، وأخذوا السلطة باسم الشرعية الديمقراطية. فالسؤال ليس مطروحا على الربيع العربي وأبناء الربيع العربي، ولكن مطروح على ما معنى الديمقراطية، كما هو مطروح برأيي على ما معنى الثورة. أنا هنا أقصد العودة إلى الثورات الكبرى في التاريخ، ابتداء من الثورة الفرنسية التي هي المرجع الكبير للثورات، أو الثورة الروسية، أو الثورة الصينية، هذه الثورات الكبرى التي غيرت وجه الأرض. فهذه الثورات كانت لها نتائج أو مآل نعيشه اليوم في ضوء العولمة وسيادة المال وهيمنة المال على كل شيء في العالم. إذاً، برأيي أننا لا زلنا نتحدث عن ثورة بمرجعية قديمة، وأحس أن هذه المرجعية لم تعد كافية، ونحتاج إلى تفكير من نوع آخر. أنا لم أقم بهذا التفكير لأني غير مهيأ له، لدي إحساس فقط، هذا عمل يجب أن يقوم به علماء الاجتماع والمفكرون الأنتربولوجيون، والسوسيولوجيون وعلماء السياسة، هم الذين يجب أن يقولوا لنا الأشياء. ما أحتفظ به هو أنني لا أعرف شيئا آخر إلا أنني أكتب. بهذا وحده أقول إننا لا يمكن على الإطلاق أن نستسلم لهذا الطاغوت الجاهل، وأن اختياراتي في الكتابة هي الاختيارات التي سأستمر فيها. وأعتبر هذه اللحظة التي أعيش فيها هي نقطة في نهر البشرية، وهي نقطة ضوء من هذا النشيد الكوني للضوء الذي يضيء النفوس والعقول، كما يضيء الأيدي التي تكتب، والأقدام التي تمشي’.

* ثورة الربيع العربي هذه، كم هي سماكة الستارة التي أنزلتها على القضية الفلسطينية وحجبت الرؤية عن القضية الجوهرية للمنطقة العربية، احتلال فلسطين؟
* أحسست مع ارتداد الربيع العربي، وما أصبحنا نعيشه من تهميش كامل لفلسطين والقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، أن فلسطين تحتاج اليوم أكثر مما مضى لكل من إدوارد سعيد، ومحمود درويش، فهما كانا يقرآن فلسطين عبر التاريخ، كما يقرآنها عبر قهوة الصباح والأخبار اليومية، أو عبر ما تقوم به الصهيونية العالمية من أجل إلغاء الشعب الفلسطيني وإبطال جميع حقوقه في الوجود. حقا المأساة الكبرى الآن هي المأساة الفلسطينية، وأظن أن أقل ما يمكن أن يقال اليوم هو ان هذا الطغيان الإسرائيلي والتحالف الأمريكي الإسرائيلي الذي وصل إلى أقصى صيغ الوقاحة، لا بد أن يدفعنا أن نتساءل، أول ما نتساءل عن هذا الانقسام الفلسطيني قبل أن أكلم العالم أو أكلم إسرائيل، أنا يصيبني خرس. أول من يجب أن أتوجه إليه بالسؤال على الأقل هم الفلسطينيون المنقسمون على أنفسهم، بغير إرادة الشعب الفلسطيني. ألا يقوم حاكم بهذا السلوك بمثل ما يقوم به طغاة آخرون لا ينصتون إلى صوت شعوبهم. أنا في رأيي، قبل أي شيء، لا بد من عودة اللحمة بين أبناء الشعب الفلسطيني، هذا لا يمكن لأي أحد أن يتسامح به، ولا أدري إن كان هذا يتحقق أم لا يتحقق. ولكن الذي أعرفه أن أبناء الشعب الفلسطيني، جزء منهم لهم خبرة كبيرة في المقاومة، وأنهم عاشوا الاحتلال الإسرائيلي مثل ما عاشوا التسلط على أرض فلسطين منذ بداية القرن حتى اليوم، ولديهم اليوم من الخبرة ما يكفيهم من أجل أن يبقوا في مكانهم متشبثين بحقوقحهم. لا أعني هنا الشعارات السياسية. إن إنزال الحجاب على فلسطين وقضية فلسطين مؤقت، مهما فعلت أي قوة في العالم بأن هناك على قيد الحياة وأن هذا الشعب لا يمكنه أن يندثر، وهو الضمانة الأولى على أن فلسطين ستبقى للفلسطينيين، وأن الفلسطينيين سيبقون على الأرض’.

May 19, 2013