على مدى أربعة عقود وهو يحلق في العواصف. رهانه على القصيدة كان على الدوام مصيرياً. ربط القصيدة بالحرية، والشعر بالسؤال المفتوح على المعارف الإنسانية والشعريات الكونية. استطاع أن ينشئ لغته الخاصة، ويجعل اسمه مسافراً في لغات عديدة، عبر أعماله المترجمة، وينقل الشعر المغربي إلى مهرجانات العالم الشعرية. وهو بذلك يمثل أحد الوجوه الرمزية للحداثة الشعرية العربية، في المغرب الشعري، الحر والمبدع.
إنه الشاعر الكبير محمد بنيس في حوار سننصت من خلاله إلى جراحات 'حداثتنا المعطوبة' بفعل الطعنات الكثيرة التي لم نستـفد بعد من دروسها.
*منذ السبعينيات، وجدت قصيدتك نفسها محاطة ـ داخلياـ بثقافة مغربية تتوجس من الإقامة خارج القيم السائدة على حد تعبيرك فكانت لك المغامرة صوب الإنصات للمنفلت في التجربة الشعرية الكونية وارتياد المقلق من الآفاق الشعرية المحفوفة بالأسئلة. فماذا بعد أربعة عقود من 'كتابة المحو'؟
يصعب علي الإجابة بيسر على سؤال كهذا. إنه سؤال يتطلب رؤية الوقائع عن قرب، حتى يتضح ما فعلتْه 'كتابة المحو'، تلك التي اكتشفتها في القصيدة وأنا في طريقي إلى القصيدة. مع ذلك يبدو لي أن للمغرب بنية تقليدية منغرسة في الثقافة الحديثة نفسها. من هنا ألاحظ أن ما عشـته مع هذه البنية منذ أربعة عقود ما زال هو نفسه. إنها بنية تعيد إنتاج نفسها بشكل لا أصدقه أحياناًً. فرفضها للمنفتح يظل سيداً. أقصد بالرفض عديدا من الأحكام والمواقف والسلوكات المتداولة في الحقل الثقافي. واختباري لهذه البنية متأت من كوني حافظت على وعيي النقدي، رغم جميع القسريات، وانحيازي لحرية الكتابة، رغم العنف الذي تواجهني به مؤسسات وكتابات.
في وضع كهذا يصبح التعلم مستعجلا باستمرار. فهذا الرفض، المصحوب بعنف بالغ الشراسة، كاد أن يؤدي بي عشرات المرات إلى الجنون أو الانتحار. ما أنقذني حتى الآن (ولا أعرف ما سيحدث لي مستقبلا) هو انتباهي إلى ضرورة أن أتعرف أكثر على التجارب الثقافية الكبرى في حضارات حديثة وقديمة في آن، وعلى حياة شعراء وكتاب وفنانين عانوا في حياتهم المنافي والعذابات من أجل حرية ما يفكرون فيه وما يكتبون. وقادتني يقظتي إلى أن أجعل الشعري منفتحاً على الفني والفكري والفلسفي والتاريخي، حتى أستوعب ما أنا فيه بمعرفة تساعدني على المقاومة. فأخطر شيء يمكن أن نعيشه، في بنية تقليدية، هو الوصول في النهاية إلى الاستسلام للأبواب المغلقةّ، كما كان عليه حال غيري من الشعراء المغاربة السابقين علي. ثم إنني عملت، وأنا أقترب من الثقافة الإنسانية، على تعلم الثقافة المغربية الحديثة، بكل صبر، من خلال حفريات نادراً ما يوليها الخطاب التقليدي الاعتبار.
* مبكرا أيضا انتبهت إلى أن شعارات الهوية والقومية اختزلت السؤال الشعري إلى خطاب في حاجة دائمة إلى أعداء مفترضين. فكيف تسم ذلك الحدس الشعري الذي جعلك تتواطأ مع الشكل الشعري وتراهن عليه؟
ثمة في الشعر أسرار لا يدركها إلا الذين عرفوا 'مضايق' الشعر كما قال القدماء.
أرى أن الشعر يعلمنا الطريق التي تؤدي إليه، كلما أدركنا أن الإيمان بالشعر والإخلاص له اختيار مصير. لا يمكن أن نلعب مع الشعر لعبة غير مسؤولة. ثمة في الشعر أسرار لا يدركها إلا الذين عرفوا 'مضايق' الشعر كما قال القدماء. هناك من يستخف بالشعر عندما يعطيه مرتبة المضاف.
والشعر، في رؤية كهذه، لها شعارات الهوية والقومية، إما أنه لا يكون شعرا وإما أنه يهرب منا إلى مكان لا نراه. كنت دائما أستغرب من لغة العدو في خطابات تقدم نفسها بما هي خطابات تدعو إلى هوية أو قومية هدفها الحر والحرية. ولكني، بدلا من تلك الخطابات، التي لا يبقى منها غير الإخفاق، عثرت في الخطاب الشعري على فضاء الذاتية. إنه فضاء تأتلف فيه سماوات وتنفجر منه ينابيع.
هناك في الشعر، في الذاتية، تجربة اللانهائي والمجهول. وهي ما يلزم في حياة كل واحد منا لكي نستحق حياة لا حدود لها، تبدأ ولا تنتهي أبداً، في دواخلنا وفي علاقاتنا مع الآخر.
يتأسس الرهان الشعري، في تنظيرات محمد بنيس، على اجتراح المعرفة بالمفهوم الذي يجعلنا لا ندرك أسرارها إلا بالإنصات لمجاهل التجربة الشعرية والإقامة بين فجاج أعاصيرها. أما زلت تؤمن بأن أي مشروع معرفي رصين يقصي القصيدة هو مشروع مبتور وناقص؟
إن القصيدة تمنح أي مشروع معرفي فضاءه الأوسع.
خبرتي بالشعر والثقافة أكدت لي ذلك. اكتسبت هذه الخبرة من انفتاحي على الثقافة العربية القديمة وعلى ثقافات غير عربية حديثة وقديمة. وأنا أحاول دائما أن أكون قريبا من الثقافة في مناطقها القصية. وهي تعلمني أن المعرفة، قديما وحديثا، لا تتجزأ، وأنها تنصت إلى القصيدة بتواضع، لأنها تجربة تسكن في البعيد الأبعد. ومن ثم فإن القصيدة تمنح أي مشروع معرفي فضاءه الأوسع. لننظر من جديد إلى الحياة الثقافية الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين، أقصد الفلسفة والفكر الاجتماعي والسياسي. يمكن نقل الملاحظة إلى حقول الرياضيات والفيزياء والهندسة. في النظر إلى تلك الحياة، في تفرعها وتشعبها، نجد الشعر قريبا من سؤال المشاريع المعرفية التي لها معنى. على أن القصيدة، في مرتبة كهذه، تتأسس بدورها على المعرفة. ويبدو لي أننا في العالم العربي نستغرب من مثل هذا الكلام، والسبب هو أن ثقافتنا الحديثة لم تبلغ المكانة التي كانت لها في القديم، كما أنها لم تقتنع بعد بمعنى الحداثة ولا تجتهد للاقتراب منه.
* صرحت ذات ألم قائلا: أن تكون مغربيا كاتباً بالعربية فهذا كفيل بأن يجعلك غريباً ومبعداً. فهل الكتابة باللغة العربية ـ إبداعا وتنظيرا ـ أصبحت خارج الشلالات الثقافية باللغات الأخرى؟
إن العربية لا تجد من يختارها ولا من يدافع عنها بمنظور حديث، من خلال بنيات ومؤسسات حرة وذات كفاءة عالية، بعكس ما هو واقع بالنسبة للفرنسية.
يظهر لي أن هناك ملاحظات لي وتأملات في الوضع الثقافي المغربي غالبا ما تبقى غير مفهومة. وهذا مؤسف جدا. من ذلك وضع الكتابة بالعربية ووضع العربية ذاتها في المغرب الحديث. هناك أفق مغلق للكتابة بالعربية في المغرب. لا يتعلق الأمر بي وحدي، بل بجميع الكاتبـين بالعربية. وليفرح المنتصرون بأوهامهم. فالفرنكفونية لا تترك مكاناً للعربية وثقافتها، ثم إن البنية التقليدية، المنتشرة في الحياة العامة والخاصة، مضادة لنشوء حركة ثقافية حديثة بالعربية. وها هي العولمة تضيف عوائقها. ولا يبقى للكاتب بالعربية سوى أفق مغلق داخل المغرب. إن العربية لا تجد من يختارها ولا من يدافع عنها بمنظور حديث، من خلال بنيات ومؤسسات حرة وذات كفاءة عالية، بعكس ما هو واقع بالنسبة للفرنسية. إن الكتابة بالفرنسية تعثر على نفسها، بدون مجهود، ضمن سيرورة تاريخية تحميها مؤسسات وتفتح لها الطرق الألف، بالاستقبال والاعتراف والدعم. هذه الخطاطة الشمولية تخفي أحوالا شديدة التعقيد. وفي ظني أن الكتابة بالعربية في بلاد عربية أخرى ليست ذات وضع أفضل مما هي عليه في المغرب. إن الإقرار بهذا الوضع، الصعب والقاسي، لا يعني الاستسلام كما لا يعني أن ليس للكتابة بالعربية مستقبل خارج المغرب. ولكن يعني، قبل كل شيء، لزوم معرفتنا بالمكان الذي ننتج فيه، حتى نختار سبيل المواجهة والمقاومة. خيـبات الثقافة العربية الحديثة لا تحد. ولا حجة لمن يؤجل تناول هذا الوضع.
أحتار حيناً في كيف أفهم قبول كُتاب بما تعيشه الثقافة المغربية بالعربية، وحينا آخر في كيف أفهم صمت المحللين السوسيولوجيين أو النفسيين إزاء ما نعيش وما تعيشه ثقافتنا. وصمت المؤرخين أيضاً. أنا أحسد الذين لا يشعرون بما يجري. أحسدهم لأنهم مرتاحون. لكنني، مقابل ذلك، أتساءل عن الشيء الذي أتى به هؤلاء المرتاحون في التعرف على الأوضاع الثقافية والشعرية في المغرب الحديث. لذلك فإن كل تجربة ثقافية مغربية حديثة تمر عبر الغربة والإبعاد، عبر المنفى. هي تجربة عاشتها ثقافات حديثة في الشرق والغرب، وعدم الإنصات إليها يدل على أننا غير مستعدين لاستيعاب أوضاع الحداثة وشرائطها. وأنا، هنا، أحيي إدوار سعيد الذي فهم جيدا هذه الوضعية، كما عاشها، وكتب عنها دراسات أعتبرها من أهم ما كتبه المثقفون الحديثون عن الصلة بين التحديث والمنفى.
* في أكثر من مناسبة تؤاخذ على شعراء قصيدة النثر العربية نقلهم ممارسة كتابتها من مكان التعدد إلى منطقة الواحدية. فهل يعود ذلك إلى الفهم اللاتاريخي لقصيدة النثر، كما مورست نصيا في باقي الجغرافيات الشعرية، أم لأعطاب الترجمة التي غيبت تجارب التعدد في قصيدة النثر؟
المشكل هو أن العرب أصبحوا للأسف لا يتكلمون، باسم الحداثة الشعرية، إلا عن قصيدة واحدة، هي قصيدة النثر.
أرى أن الرأي العام العربي المتحلق حول قصيدة النثر واحدي النزعة، من جهة، على غرار أصحاب السلطة، وقليل الاطلاع، من جهة أخرى، على الثقافة الشعرية، القديمة والحديثة على السواء. فنحن في مجتمع يخلص للواحدية أكثر مما يخلص للتعدد والاختلاف، ومن ثم للحرية والإبداع. أوضح من جديد بأني من الشغوفين بقصيدة النثر، في الفرنسية (لأنها فرنسية المنشأ)، وفي لغات أخرى، ومنها العربية. لعل هذا التوضيح يرفع اللبس عن الفرق بين علاقتي بقصيدة النثر وموقفي النقدي من الوعي النظري العام بها. هذه أشياء أولية أراها بسيطة. أنا إذن، مع حرية الكتابة، أي مع اللانهائي في الكتابة. وما أرغب فيه أوسع من قصيدة النثر ومن أي شكل شعري نهائي.
المشكل هو أن العرب أصبحوا للأسف لا يتكلمون، باسم الحداثة الشعرية، إلا عن قصيدة واحدة، هي قصيدة النثر، وهم في الوقت نفسه لا يهتمون بالمعنى الخاص (رغم الاختلافات) لهذه القصيدة في الثقافة الفرنسية أو في سواها، حتى لا أقول إنهم لم يعودوا يتخيلون إمكانية كتابة قصيدة بشكل غير معروف. بهذا أختلف مع بعض شعراء (ونقاد) قصيدة النثر الذين نقلوا القصيدة من تعددها إلى شكل واحد هو قصيدة النثر، فيما هم غالبا ما يقصرون فهمهم لقصيدة النثر على القصيدة غير الموزونة. وليس هذا هو معنى قصيدة النثر.
إن من يقرأ بلغات أجنبية (ويشارك في مهرجانات شعرية عالمية) يعرف أن أنماط القصيدة في العالم متعددة إلى حد كبير، ثم إن هذا التعدد في الأشكال والتصورات لا يقابله موقف استبدادي باسم قصيدة النثر، لا من طرف هذا ولا ذاك. بل لا أعرف تيارا شعريا إنسانيا واحدا يحصر الحداثة الشعرية في قصيدة النثر دون سواها، عدا أن هناك من لا يعرفها تماماً. والأمر في العالم العربي يرجع إلى تحكم الواحدية في بنيتنا الذهنية مثلما هو ينتج عن عدم معرفتنا الدقيقة بقصيدة النثر وبالتالي عدم معرفتنا بلغات أخرى وقلة مشاركاتنا في مهرجانات وندرة اطلاعنا على حركات شعرية متعددة في العالم وقصور ترجماتنا ومعارفنا الشعرية. فكيف يمكن أن نرفع الوعي النظري بقصيدة النثر إلى مستوى المعرفة بها وموقعها في الخريطة الشعرية الكونية؟ وكيف ننتقل بوعينا الشعري إلى قصيدة لها الحر والمجهول واللانهائي؟
* على هامش المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء لهذه السنة، كتبت رسالة مفتوحة، تنضح ألما وشعورا بالإقصاء، إلى صديقك الشاعر الراحل عبد الله راجع جاء فيها: لا شيء من هذا المغرب اللاثقافي يعنيني أو يغريني. فهل بعد كل هذه العقود من مواجهة تبعية الثقافي للسياسي، التي كنت أول القائلين بها والعاملين لأجلها، ما زلنا في حاجة إلى مناف وخسارات وإقصاء كي ننخرط في شجرة الأنساب الشعرية ؟
المغرب مغربان: مغرب ثقافي، مبدع ومنفتح، ومغرب لا ثقافي، يقلد ويحاصر.
كتبت هذه الرسالة المفتوحة رغما عني. هي التي كتبت نفسها، فلم أجد بدا من نشرها. لن أعود إلى دواعي الرسالة. وأجيب فورا بأن منافينا وخساراتنا ستزداد، وأن الإقصاء سيظل الكلمة المفضلة لدى المالكين لسلطة السياسي. حياتي الشعرية (والثقافية) منذ أربعين سنة هي التي تذكرني بهذا المآل.
لن أتعرض هنا لما عانيته أو لما تعيشه الثقافة المغربية من خلال مؤسسات يتحكم فيها السياسي. أكتفي بالإشارة إلى أن هذه الرسالة مكثفة. ذلك ما يستدعي شرحاً لبعض عباراتها، ومنها هذه الجملة الواردة في السؤال. إن عبارة 'المغرب اللاثقافي' تعني أن المغرب مغربان: مغرب ثقافي، مبدع ومنفتح، ومغرب لا ثقافي، يقلد ويحاصر. لقد علمتني حياتي الثقافية، ومن خلال معرفتي بأوضاع صعبة ومماثلة في أمكنة من العالم، أن ما يجب أن يعنيني وما يغريني هو المغرب الثقافي. ذلك هو درس الشاعر دانتي، الذي سعدت به وأنا في ذروة الأزمات التي اعترضت حريتي.
فهذا المغرب الثقافي هو الذي عملت، إلى جانب غيري، في اتحاد كتاب المغرب، أو في مجلة 'الثقافة الجديدة'، أو في دار توبقال، أو في 'بيت الشعر في المغرب' (سابقا)، من أجل أن يكون فضاء المستقبل وللمستقبل، ومن أجل أن ينخرط الشعر المغربي في شجرة أنساب الحداثة الشعرية الكونية. نعم، إن المغرب اللاثقافي، للأسف، هو الذي له السيادة.
لقد عاش المغرب صراعاً دام أكثر من سبعين سنة من أجل أن يصبح التحديث الثقافي بالعربية مشروعاً له كيانه الخاص، ولكن بنية السياسي تنتصر على الدوام لسد الطريق على التحديث الثقافي بالعربية في المغرب. ومن جهتي أرى أن المفيد هو العناية بالمغرب الثقافي، وبالإبداع والحرية. ذلك لن يحدث بدون منفى، داخل المغرب وخارجه. لكن ذلك المنفى هو الشرط السابق على كل شرط، من أجل فكرة ثقافية جديدة، حرة ومبدعة، في مجتمع لم يعرف كيف يتحرر من تقليـديته.
04/04/2009