يؤكد الشاعر المغربي محمد بنيس على أن مشكلة قصيدة النثر مع العرب تكمن في أنهم أصبحوا للأسف لا يتكلمون، باسم الحداثة الشعرية، إلا عن قصيدة واحدة، هي قصيدة النثر، وهم في الوقت نفسه لا يهتمون بالمعنى الخاص (رغم الاختلافات) لهذه القصيدة في الثقافة الفرنسية أو في سواها، بل أنهم لم يعودوا يتخيلون إمكانية كتابة قصيدة بشكل غير معروف. ويختلف بنيس بهذا مع بعض شعراء (ونقاد) قصيدة النثر الذين نقلوا القصيدة من تعددها إلى شكل واحد هو قصيدة النثر، فيما هم غالباً ما يقصرون فهمهم لقصيدة النثر على القصيدة غير الموزونة. وليس هذا هو معنى قصيدة النثر.
ويؤكد أيضاً في هذا اللقاء على أن ما أنقذه هو (حتى الآن) انتباهه إلى ضرورة التعرف على التجارب الثقافية الكبرى في الحضارات الحديثة والقديمة، وهو أيضاً يقظته إلى جعل الشعري منفتحاً على الفني والفكري والفلسفي والتاريخي، ويؤكد فيه أيضاً أنه كان غالباً ما يستغرب من لغة العدو في خطابات تقدم نفسها بما هي خطابات تدعو إلى هوية أو قومية هدفها الحرية، ويؤكد أنه أيضاً بديلاً عن ذلك عثر في الخطاب الشعري على فضاء الذاتية.
أنا أقترب من الثقافة الإنسانية
* منذ السبعينيات، وجدت قصيدتك نفسها محاطة - داخلياً- بثقافة مغربية تتوجس من الإقامة خارج القيم السائدة على حد تعبيرك، فكانت لك المغامرة صوب الإنصات للمنفلت في التجربة الشعرية الكونية وارتياد المقلق من الآفاق الشعرية المحفوفة بالأسئلة. فماذا بعد أربعة عقود من (كتابة المحو)؟
- يصعب علي الإجابة بيسر على سؤال كهذا. إنه سؤال يتطلب رؤية الوقائع عن قرب، حتى يتضح ما فعلتْه (كتابة المحو)، تلك التي اكتشفتها في القصيدة وأنا في طريقي إلى القصيدة. مع ذلك يبدو لي أن للمغرب بنية تقليدية منغرسة في الثقافة الحديثة نفسها. من هنا ألاحظ أن ما عشـته مع هذه البنية منذ أربعة عقود ما زال هو نفسه. إنها بنية تعيد إنتاج نفسها بشكل لا أصدقه أحياناً. فرفضها للمنفتح يظل سيداً. أقصد بالرفض عديداً من الأحكام والمواقف والسلوكات المتداولة في الحقل الثقافي. واختباري لهذه البنية متأتٍ من كوني حافظت على وعيي النقدي، رغم جميع القسريات، وانحيازي لحرية الكتابة، رغم العنف الذي تواجهني به مؤسسات وكتابات.
في وضع كهذا يصبح التعلم مستعجلا باستمرار. فهذا الرفض، المصحوب بعنف بالغ الشراسة، كاد أن يؤدي بي عشرات المرات إلى الجنون أو الانتحار. ما أنقذني حتى الآن (ولا أعرف ما سيحدث لي مستقبلا) هو انتباهي إلى ضرورة أن أتعرف أكثر على التجارب الثقافية الكبرى في حضارات حديثة وقديمة في آن، وعلى حياة شعراء وكتاب وفنانين عانوا في حياتهم المنافي والعذابات من أجل حرية ما يفكرون فيه وما يكتبون. وقادتني يقظتي إلى أن أجعل الشعري منفتحاً على الفني والفكري والفلسفي والتاريخي، حتى أستوعب ما أنا فيه بمعرفة تساعدني على المقاومة. فأخطر شيء يمكن أن نعيشه، في بنية تقليدية، هو الوصول في النهاية إلى الاستسلام للأبواب المغلقةّ، كما كان عليه حال غيري من الشعراء المغاربة السابقين علي. ثم إنني عملت، وأنا أقترب من الثقافة الإنسانية، على تعلم الثقافة المغربية الحديثة، بكل صبر، من خلال حفريات نادراً ما يوليها الخطاب التقليدي الاعتبار.
* مبكرا أيضا انتبهت إلى أن شعارات الهوية والقومية اختزلت السؤال الشعري إلى خطاب في حاجة دائمة إلى أعداء مفترضين. فكيف تسم ذلك الحدس الشعري الذي جعلك تتواطأ مع الشكل الشعري وتراهن عليه؟
ـ أرى أن الشعر يعلمنا الطريق التي تؤدي إليه، كلما أدركنا أن الإيمان بالشعر والإخلاص له اختيار مصير. لا يمكن أن نلعب مع الشعر لعبة غير مسؤولة. ثمة في الشعر أسرار لا يدركها إلا الذين عرفوا (مضايق) الشعر كما قال القدماء. هناك من يستخف بالشعر عندما يعطيه مرتبة المضاف. والشعر، في رؤية كهذه، لها شعارات الهوية والقومية، إما أنه لا يكون شعرا وإما أنه يهرب منا إلى مكان لا نراه. كنت دائما أستغرب من لغة العدو في خطابات تقدم نفسها بما هي خطابات تدعو إلى هوية أو قومية هدفها الحر والحرية. ولكني، بدلا من تلك الخطابات، التي لا يبقى منها غير الإخفاق، عثرت في الخطاب الشعري على فضاء الذاتية. إنه فضاء تأتلف فيه سماوات وتنفجر منه ينابيع. هناك في الشعر، في الذاتية، تجربة اللانهائي والمجهول. وهي ما يلزم في حياة كل واحد منا لكي نستحق حياة لا حدود لها، تبدأ ولا تنتهي أبداً، في دواخلنا وفي علاقاتنا مع الآخر.
كيف ننتقل بوعينا لقصيدة لها الحر والمجهول واللانهائي
* يتأسس الرهان الشعري، في تنظيرات محمد بنيس، على اجتراح المعرفة بالمفهوم الذي يجعلنا لا ندرك أسرارها إلا بالإنصات لمجاهل التجربة الشعرية والإقامة بين فجاج أعاصيرها. أما زلت تؤمن بأن أي مشروع معرفي رصين يقصي القصيدة هو مشروع مبتور وناقص؟
- خبرتي بالشعر والثقافة أكدت لي ذلك. اكتسبت هذه الخبرة من انفتاحي على الثقافة العربية القديمة وعلى ثقافات غير عربية حديثة وقديمة. وأنا أحاول دائما أن أكون قريبا من الثقافة في مناطقها القصية. وهي تعلمني أن المعرفة، قديما وحديثا، لا تتجزأ، وأنها تنصت إلى القصيدة بتواضع، لأنها تجربة تسكن في البعيد الأبعد. ومن ثم فإن القصيدة تمنح أي مشروع معرفي فضاءه الأوسع. لننظر من جديد إلى الحياة الثقافية الأروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين. أقصد الفلسفة والفكر الاجتماعي والسياسي. يمكن نقل الملاحظة إلى حقول الرياضيات والفيزياء والهندسة. في النظر إلى تلك الحياة، في تفرعها وتشعبها، نجد الشعر قريبا من سؤال المشاريع المعرفية التي لها معنى. على أن القصيدة، في مرتبة كهذه، تتأسس بدورها على المعرفة. ويبدو لي أننا في العالم العربي نستغرب من مثل هذا الكلام، والسبب هو أن ثقافتنا الحديثة لم تبلغ المكانة التي كانت لها في القديم، كما أنها لم تقتنع بعد بمعنى الحداثة ولا تجتهد للاقتراب منه.
* في أكثر من مناسبة تأخذ على شعراء قصيدة النثر العربية نقلهم ممارسة كتابتها من مكان التعدد إلى منطقة الواحدية. فهل يعود ذلك إلى الفهم اللاتاريخي لقصيدة النثر، كما مورست نصيا في باقي الجغرافيات الشعرية، أم لأعطاب الترجمة التي غيبت تجارب التعدد في قصيدة النثر؟
- أرى أن الرأي العام العربي المتحلق حول قصيدة النثر واحدي النزعة، من جهة، على غرار أصحاب السلطة، وقليل الاطلاع، من جهة أخرى، على الثقافة الشعرية، القديمة والحديثة على السواء. فنحن في مجتمع يخلص للواحدية أكثر مما يخلص للتعدد والاختلاف، ومن ثم للحرية والإبداع. أوضح من جديد بأني من الشغوفين بقصيدة النثر، في الفرنسية (لأنها فرنسية المنشأ)، وفي لغات أخرى، ومنها العربية. لعل هذا التوضيح يرفع اللبس عن الفرق بين علاقتي بقصيدة النثر وموقفي النقدي من الوعي النظري العام بها. هذه أشياء أولية أراها بسيطة. أنا إذن، مع حرية الكتابة، أي مع اللانهائي في الكتابة. وما أرغب فيه أوسع من قصيدة النثر ومن أي شكل شعري نهائي.
المشكل هو أن العرب أصبحوا للأسف لا يتكلمون، باسم الحداثة الشعرية، إلا عن قصيدة واحدة، هي قصيدة النثر، وهم في الوقت نفسه لا يهتمون بالمعنى الخاص (رغم الاختلافات) لهذه القصيدة في الثقافة الفرنسية أو في سواها، حتى لا أقول إنهم لم يعودوا يتخيلون إمكانية كتابة قصيدة بشكل غير معروف. بهذا أختلف مع بعض شعراء (ونقاد) قصيدة النثر الذين نقلوا القصيدة من تعددها إلى شكل واحد هو قصيدة النثر، فيما هم غالبا ما يقصرون فهمهم لقصيدة النثر على القصيدة غير الموزونة. وليس هذا هو معنى قصيدة النثر.
إن من يقرأ بلغات أجنبية (ويشارك في مهرجانات شعرية عالمية) يعرف أن أنماط القصيدة في العالم متعددة إلى حد كبير، ثم إن هذا التعدد في الأشكال والتصورات لا يقابله موقف استبدادي باسم قصيدة النثر، لا من طرف هذا ولا ذاك. بل لا أعرف تيارا شعريا إنسانيا واحدا يحصر الحداثة الشعرية في قصيدة النثر دون سواها، عدا أن هناك من لا يعرفها تماماً. والأمر في العالم العربي يرجع إلى تحكم الواحدية في بنيتنا الذهنية مثلما هو ينتج عن عدم معرفتنا الدقيقة بقصيدة النثر وبالتالي عدم معرفتنا بلغات أخرى وقلة مشاركاتنا في مهرجانات وندرة اطلاعنا على حركات شعرية متعددة في العالم وقصور ترجماتنا ومعارفنا الشعرية. فكيف يمكن أن نرفع الوعي النظري بقصيدة النثر إلى مستوى المعرفة بها وموقعها في الخريطة الشعرية الكونية؟ وكيف ننتقل بوعينا الشعري إلى قصيدة لها الحر والمجهول واللانهائي؟
الايام
13 ديسمبر 2008