13/08/2009
'لا أصنف نفسي ولا يعنيني أن يصنفني الآخرون.. لا أعرف الألوان التي ارسم فيها مشاهدي الشعرية قبل الانتهاء منها.. لا قاعدة ثابتة لدي في الكتابة الشعرية، ولا تتشابه لحظاتي أبدا.. لا.. لست مشغولة بالشعر كي يكون فتنتي الوحيدة.. لا أنظر للرجل باعتباره النقيض للمرأة أو العدو.. لا انظر لليل تلك النظرة الرومانسية التي تفرغه من معناه الكوني.. لا أتبنى في قراءاتي لقصائدي آراء أو أفكاراً..'.
لا النافية، هذا الحرفُ النحيل الذي يُرافقُ الجُمل الفعلية يشي بالقوةِ، و يُفتضحُ ذاتا مسكونة بالعقلِ، ومجردة من التبعية، كما أنّه ينبشُ الذاكرة الماضية بحذرٍ كيلا يكونَ التناقضُ جدلا خارجَ النصِّ، هكذا تتماثل الشاعرة الكويتية 'سعديه مفرّح' بحوارٍ يومئُ باستفزازٍ، ويضعُ المرأة على حافةِ الأسئلة القلقة، لا شيء يحرسُ الأجوبة المباشرة إلا الوعي الذي يشقُّ ذاكرة 'سعدية' بالحذر النسوي الموارب في جُنح الكلام..
في كتابك (ليل مشغول بالفتنة) يتقاسمها النثري والإيقاعي ضمن نسق المناخ الواحد، أين هي سعدية من المناخين؟ وكيف تصنّف نفسها؟
لا أصنف نفسي، ولا يعنيني أن يصنفني الآخرون، لكنني انساق وراء الشعرية وحدها كي تكون قصيدتي.. ولعلك لا تصدق أنني لم اكتشف ما تسميه أنت بالمناخين النثري والإيقاعي إلا بعد الانتهاء من كتابة القصيدة وربما بعد نشرها تحديدا.. لا أحب أن أصنف كشاعرة قصيدة نثر ولا كشاعرة قصيدة تفعيلة أو غير ذلك من التصنيفات النظرية.. أكره فكرة التصنيف بأكملها وأرى أن التصنيف يمكن أن يعني الدونية أو التقليل من فكرة المصنف بشكل عام..وعندما نصنف شاعرا في إطار فكرة محددة مسبقا فهذا يعني أننا نحدد إطار شعريته بشكل مسبق مما يتناقض مع فكرة الشعر غير المحددة.. الشاعر شاعر فلماذا نصر على أن نسميه شاعر تفعيلة أو شاعر نثر أو شاعراً عمودياً.. كل هذه التسميات لا تعني الشعر في شيء. وليلي مشغول بفتنته الشعرية وحسب، وهذا يكفيه ويغنيه عن أية نثرية أو إيقاعية يمكن أن تفرغه من مناخه الشعري لصالح فكرة نقدية أو تنظيرية. أنا لا أتقصد إفراغ قصيدتي من أي إيقاع عفوي لصالح النثر ولا تكسير سياق نثري معين فيها ليأتي موافقا للسلم الموسيقي مثلا.. لأن الشعر دائما ضد أي قصد مسبق.
' الوعي بالصورة الشعرية في الديوان وعي متقدم، فهو يقترب حثيثا نحو استكمال مشهدها عبر التقاطات فوتوغرافية مصغرة لكل حالة شعرية، ثم يجنح ليرسم مشهدا عموميا يخلو من التفاصيل. أين هي الشاعرة سعدية؟... في التفاصيل أم في الحالة الشمولية للنص؟
أحب الحالة التشكيلية في الشعر وفي الحياة، وأحب أن أشكل مشهدي الشعري وأهتم بمنمنماته وأرى أن الجماليات الشعرية تكمن أحيانا في تلك المنمنمات، ولكنني لا أدعي أنني اخطط لرسم المشهد بتلك المنمنمات مسبقا ولا اعتقد أنني اعرف الألوان التي ارسم فيها مشاهدي الشعرية قبل الانتهاء منها...فأحيانا كثيرة ارسم تلك المشاهد من دون ألوان على الإطلاق لاكتشف في النهاية أنها ملونة بقوس قزح مثلا.ولا اعرف بالضبط إلى أين يتجه النص وهو في حال التشكل، فقط انساق وراء الحالة وأحاول أن أدونها وفقا لمعطياتها لدي وحسب قدراتي اللغوية والشعرية. وربما لا أجد تناقضا بين التفاصيل والحالة الشمولية للنص، فتراكم التفاصيل يؤدي في النهاية إلى الحالة الشمولية، على الرغم من أن نصوصي أحيانا تبدأ بالحالة الشمولية وتنتهي إلى التفاصيل والعكس صحيح أحيانا أخرى..لا قاعدة ثابتة لدي في الكتابة الشعرية، ولا تتشابه لحظاتي وأنا اكتب أبدا، حتى أنني في كل مرة أنسى كيف كتبت النص، كيف بدأته مثلا وكيف انتهيت منه، ومتى قررت أن أبدأ أو أن أتوقف..ولذلك يداهمني الشعور دائما بأن القصيدة التي انتهيت من كتابتها الآن هي قصيدتي الأخيرة.. وأنني لن اعرف أن اكتب غيرها بعد ذلك أبدا، لأنني في كل مرة انتهي فيها من الكتابة اشعر أنني أفرغت تماما وأصبحت عاجزة عن الكتابة بأسرها وربما عن الكلام أيضا.
يحدثنا نوفاليس في يومياته بأن الموانئ مقامات دافئة، هل الشعر ميناء مشغول بفتنة الشاعر، كما ينشغل ليل الشاعر به؟
لا.. لست مشغولة بالشعر إلى هذا الحد، على الرغم من انني أراه الميناء والبحر والسفينة والبحار.. أراه أحيانا كل شيء ومع هذا لست مشغولة به كي يكون فتنتي الوحيدة أو مينائي الأخير..وحتى لو كان كذلك فعلا فأنا كثيرا ما أتجاهل الأمر انحيازا لخيارات أخرى في الحياة، فالحياة مشروع مفتوح ومتعدد ومتنوع دائما، وهي كائن يكبر ويتطور باستمرار نحو الأفضل ليلا ونهارا، وبالتالي فإن فتنتي بالشعر لا تقف عند ليل أو نهار، وفتنتي بالليل لا يكفيها الشعر وحده..
الغياب، ثيمة كتبت عنها الناقدة د.سعيدة خاطر في شعرك، أهو اشتغال بوعي؟ ما قصته؟
لم اكتشف اهتمامي بتلك الثيمة إلا بعد أن اكتشفها الجميع من حولي.. حتى أنني مؤخرا وأنا أعد مختاراتي الشعرية للنشر في طبعة جديدة، وأعيد قراءة كل مجموعاتي السابقة لمراجعتها قبل الطباعة فوجئت بحجم الغياب في المعنى والمبنى في كل ما كتبت. ولعل هذا الاكتشاف يجعلني أتوقف عن الاتكاء على مفردة الغياب فيما اكتب مستقبلا.. ولو أردت أن أفسر الأمر نظريا ربما استطيع القول بأن حضور الغياب ومفرداته اللغوية بكل تشكيلاتها يعود إلى رغبتي القصوى بتحقيق ذاتي وتوكيد حضوري رغما عن كل ما اعتقد انه يعمل في الاتجاه المعاكس. ثم إن الغياب مفردة مغرية شعريا ويمكن تشكيلها جماليا في مروحة من الخيارات الشعرية وربما لهذا أسرتني المفردة في معناها ومبناها إلى هذا الحد الملحوظ في معظم ما كتبت من شعر على مدى عشرين عاما تقريبا.
تقولين في ديوانك ليل مشغول بالفتنة : 'المرأة خيمة في أقصى حدود الريح' كأنك - هاهنا - تعلنينها حربا مخبوءة في كبد المعنى، ألهذا أصبحت المرأة في أقصى حدود الريح/الرجل الذي تُؤرقه أبعاد الأنثى فيحاصرها بزوبعةِ النكران؟!!
لا.. لست من أنصار هذا التضاد في العلاقة بين الرجل والمرأة ولا انظر للرجل باعتباره النقيض للمرأة أو العدو كما تصوره النظريات النسوية المتطرفة والتي سادت بشكل كبير في ستينيات القرن الماضي ولكنها تراجعت مؤخرا..
المرأة خيمة في أقصى حدود الريح لأنها تلك المرأة التي أشير إليها وأحاول ان أسجل يومياتها في الكتاب بشكل فردي جدا، ولعل في تجربة تلك المرأة المعنية ما يتطابق مع التجربة النسوية العربية في بعض مفرداته ومعانيه، ولكنه تطابق غير معني بحد ذاته بقدر ما هو توكيد لهوية تلك المرأة المنتصبة كخيمة في أقصى حدود الريح.
'امرأتي' في كتاب 'ليل مشغول بالفتنة' هي امرأة لها خصوصيتها التي تستحق التوثيق الشعري ولكنها لم تأت من الزهرة أو المريخ بل هي امرأة تنتمي لهذا الكوكب الذي نتشارك العيش فيه فلا بد للحظات المشاركة أن تنتج ملامح متطابقة إلى حد كبير.
في ديوانكِ الأخير تبدو صرامة الخوفِ و القلق و الدموع كل هذه الثلاثية تُحيل المرأة إلى فزعٍ و ليسِ إلى الطمأنينة التي يهبها الليلُ في لحظاته الهامسة ؛ ألا يُعدّ هذا تناقضا؟
ربما.. لكنه التناقض المفضي إلى جنة القصيدة ونارها أيضا. لا انظر لليل تلك النظرة الرومانسية التي تفرغه من معناه الكوني، ولا انشغل فيه بعد النجوم أو إشعال الشموع في طقوس انتظارات غبية. ليلي مشحون بفتنته الخالصة والمستقلة بذاتها والمكتفية بطاقتها المستمرة، وهو ليل يقظ وثري وملون أيضا.. والصرامة التي ينتجها السؤال من الدموع والخوف والقلق، صرامة منتجة على صعيد الكتابة أحيانا، وعلى صعيد التأمل أحيانا أخرى وحتى على صعيد النوم أحيانا ثالثة. وربما أيضا على صعيد الحزن والكآبة واستحضار المأساة واستدعاء الذكريات المرة.
على الرغم من قولك عن الرجل أنه 'دليلك ودلالتك في متاهات القوافل العابرة للتاريخ' إلا أنََّ المرأة أكثر حضورا وتألقا في نصوصك؛ لماذا ؟!!
لأنها دائما كذلك.. هكذا أراها وأعيشها وأراقبها وأتمناها وأستحضر نماذجها وأشتهي أن أكونها أيضا.
في دواوينك (كتاب الآثام، قبر بنافذة واحدة، مجرد مرآة مستلقية، تواضعت أحلامي كثيرا، ليل مشغول بالفتنة) يشغلك الهاجس اليومي، و بؤس الإنسان المخطوفِ من أهلهِ إذ تصفعه لعنة الشمسِ على أرصفةِ الخليج، ما الذي استطعت فعله - كشاعرةٍ - لهؤلاء المسحوقين في وطنٍ متخمٍ بالنفط؟!!!
لك كل الحق كمتلقى أن ترى ما تراه في تلك الكتب، لكن هذا لا يعني أنني أتبنى ما تراه.. أحيانا أنا لا أتبنى في قراءاتي لقصائدي آراء أو أفكاراً كنت اعتقد مثلا أنني كتبت هذه القصائد في ظلال إيماني بها..وهذا يعني أنني اختلف معك الآن في استنتاجك الذي يشير إليه السؤال وخصوصا بالنسبة للكتب الثلاثة الأخيرة. وإذا كنت منشغلة في كتبي الأولى ببعض تلك القضايا العامة أو ما يسميها البعض بالقضايا الكبيرة بشكل يبدو أحيانا مفتعلا، فإنني في الكتب الأخيرة تخليت عن كل ذلك لأنني صرت مؤمنة بأن على الشاعر أن يكون نفسه وحسب وان يرى العالم كله بكل قضاياه ومشاكله من خلال نافذته الخاصة، وان عليه أن يقدم نفسه للعام شعريا بدلا من محاولة معالجة مشاكل العالم.
وتعليقا على السؤال أود أن استغرب من الإصرار على وصف أوطاننا بأنها أوطان متخمة بالنفط وكأن النفط حالة لا إنسانية مثلا أو انه مسؤول عن جهلنا وعن مشاكلنا وتخلفنا فكريا وحضاريا وإنسانيا أيضا.
الإنسان العربي محتاج للكثير، لكنه قبل كل شيء محتاج للحرية، وهذه الحاجة يتشارك فيها الجميع كما ترى في هذا الوطن من المحيط إلى الخليج، بل لعل الخليج، ودعني أتحدث عن الحالة التي اعرفها وأعيشها في الكويت على سبيل المثال فقط، هو الأفضل على هذا الصعيد نسبيا.
وفي النهاية أصل إلى المحطة الأخيرة في سؤالك لأقول لك أن الشاعر ليس مسؤولا عن حل مشكلات المجتمع.. بصفته شاعراً مثلا، هو مواطن أولا وهو مسؤول بهذه الصفة وحدها.. لقد مضي أو ينبغي أن يمضي الوقت الذي كان ينظر فيه للشاعر على انه شبه موظف لدى القبيلة أو المجتمع أو الوطن أو الدولة مثلا.. و لم يعد للشعر وظيفة فهو طاقة نبيلة جدا يكفي أن تقتصر على الحالة الجمالية ليكون العالم أجمل وأفضل مما هو عليه وأكثر قدرة على مواجهة مشاكله مثلا.
قد يفعل الشاعر الكثير من أجل وطنه ومن أجل البشر بشكل عام ولكن ليس بصفته شاعراً بل بصفته مواطناً أو مثقفاً أو حتى كائناً بشرياً، فان فعل ذلك بصفته شاعراً فهذا يجب أن يتم بعفوية ودون أن يتخلى عن الشرط الفني أو الجمالي.
بأحد نصوصكِ يا سعدية 'ينهض جسدك عبر أقل الأشياء وأكثرها/ليفارق شيئيته قليلة كانت أم كثيرة'... برأيك هل الموتُ هو خيارُنا الوحيد لتتخففَ الأرضُ من ثِقلِ أجسادنا وأرواحنا معنا ؟!!!
أجسادنا وأرواحنا ليست ثقيلة إلى هذا الحد، والموت له جماليته الخالصة والخاصة أيضا، وربما لهذا لا استسيغ أن انظر له كخيار نهائي مثلا، ولا كحل استثنائي لمشاكل الأرض. ينهض الجسد عبر أقل الأشياء وأكثرها ليفارق شيئيته، وهذا يدل على عظمة ذلك الجسد وعلى ذكائه الشديد وعلى جماله الذي لا يقارن بأي جمال وعلى كماله الذي يجعله الشكل الأكمل للحياة على هذه الأرض.. أما الموت فهو حالة من الحالات البشرية ولا أحب أن انظر إليه على انه نهاية. بل إنني لا أتشاءم منه مثلا، ولعل أقوى ما يمكن أن يثيره في الموت هو الشعور بالفقد، فقدان الآخر، وهذا يحدث لدى الأحياء وليس لدى الموتى، وفق خبراتنا القاصرة، فلعله يحدث أيضا للموتى ما دام لم يعد احد من الموتى ليخبرنا الحقيقة كما يقول محمود درويش.
في شهادتك الشعرية تقولين: 'لقد تحررت بالشعر' إلى أي مدى ممكن للشعر أن يحررنا؟
إلى المدى الأقصى لو أننا آمنا به.. طبعا لكل منا حريته الخاصة والتي قد لا تتطابق مع شكل الحريات الأخرى للآخرين، وبالتالي يستطيع أي منا أن يحقق حريته تلك عبر إيمانه بما ينبغي أو يحب أن يؤمن به شعرا أم نثرا أم أي شيء آخر.
هناك نافذة عند سعدية مفرح، ممتدة معها منذ الصغر، أما زالت تلك النافذة تعطيها الدهشة؟
نعم.. نعم.. ما زالت نافذتي المشتهاة مشرعة باتجاه أن تكون. وما زلت افتحها للريح والمطر والشمس والأسئلة الصعبة. كتبت مرة عن حكاية عشقي للنوافذ التي يعرفها كل أصدقائي ويعرفون حلمي ببيت بنوافذ واسعة جدا تحتل كل جدرانه. وواحدة من هواياتي جمع صور النوافذ ذات الأشكال المختلفة.. ولعلك لاحظت أن موقعي الالكتروني على الانترنت يتزين بنافذة وجدتها منشورة في إحدى المجلات فأحالتني فورا إلى الطفولة لأنها تشبه أول نافذة رأيت العالم خارج البيت من خلالها.. وما زالت تلك النافذة التي أهدتني دهشتي الأولى تسكن ذاكرتي بتبجيل يليق بها.
بصفتك رئيسة القسم الثقافي في جريدة 'القبس'، كيف ترين المشهد الثقافي الكويتي وهل يشبه إلى حد كبير أقرانه في المنطقة؟
المشهد الثقافي في الكويت مشهد ثري ومتقدم فعلا على الصعيد الفردي، أي على صعيد النتاج الإبداعي وخصوصا لدى الجيل الشاب، فقد برزت في السنوات الأخيرة مجموعة من الأسماء الجميلة على الصعيد الروائي والشعري. لكن مؤسساتنا الثقافية هي التي أصابها الضمور والوهن مقارنة بما كانت عليه في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي على سبيل المثال ومقارنة بما يحدث على صعيد التأسيسي الثقافي في الدول المجاورة أيضا.
أقرأ أيضاً: