حسين الجفال
(السعودية)

حميد سعيد حميد سعيد هذا الكائن العراقي الذي ينفلتُ من جيبِ الأمنيات، ولكنه لا يتأوه على طاولةِ المستقبل ولا يفتح شبابيكه إلا على ذاته، وهو شديدُ الالتصاقِ بأوراقه الموريسكية وبآلامه التي تقصم ظهر القصيدة كمن يؤدي طقوساً روحية ليفنى في سبيل الغيب.
وهذا الكبت الراهن الذي أودى به إلى المجهول رغم عدم إقراره بذلك يجد أن بلاده تتهاوى على جرفِ الديمقراطية التي أحالتْ ذاكرة موغلة تمتدُّ إلى قرون سحيقة أرغمتْ أنفَ الحضارة لأن تلوذ بالتراب والاحتلال الأسود، نحنُ أمام شاعرٍ مهمومٍ بالتحولات ولكنه صابرٌ ويتلقى الرصاص والخيبة في آن بقصيدةٍ عارية وبمضامين مفتوحة على هذا الجيل المتكئبِ ولابد من فألٍ أن يُحييه وهكذا ستكونُ الكلماتُ شيئا من ترياقِ البهاء والتشفي بعد ويلِ الحرب وظلم ذوي القربى ... ولد حميد سعيد عام 1941م في الحلة، وأصدر (شواطىء لم تعرف الدفء - لغة الأبراج الطينية - قراءة ثامنة - الأغاني الغجرية- حرائق الحضور- مملكة عبدالله- باتجاه أفق أوسع- فوضى في غير عنوانها- طفولة الماء- من أوراق الموريسكي) وله كتابات أخرى، وهذا الحوار بعضٌ من رحاب أفقه وتحولاته ......

* تحضر في قصيدتك عوالم أسطورية، لكنها ظاهرة ولا تتخفى بصميم المعنى، ما الذي يشغلك في الماوراء؟

في لحظة الكتابة الشعرية التي اقترنت عندي بتأمل وانتظار طويلين، حتى أكاد أرى القصيدة في صيغة ما، قبل كتابتها، ينفتح ما أكتبه على جميع مصادر المعرفة، ليس بمعنى البحث عن المعنى، وإنما في ما يفتح للقصيدة باباً على جوهر الشعر،حيث يتجاوز المكرر والمألوف، ويضيف إلى ما قبله، ما يمكن أن يعد إضافة.
إن الشاعر ليس فيلسوفاً ولا مفكراً، حتى وإن شكلت الفلسفة مقوماً أساسياً من مقومات ثقافته، واتسعت هذه الثقافة، بل لابد أن تتسع في انفتاحها على الفكر، بل هو مبدعٌ، لاحدود لإبداعه، ينتسب إلى حرائق الأسئلة، لا إلى جليد الإجابات.
إن أسوأ التجارب الشعرية، هي تلك التي لا تشاكس ولا تتمرد، ولا تثير الخلاف في الوسط المتلقي، قارئاً أو مستمعاً أو ناقداً، وتكتفي بالرضا الذي تُواجه به، من قبل الذين يسعدهم تلقّي ما يعرفون، ويستنكرون ما يفاجئ وعيهم ويبتعدون عنه.
لقد اقتربت من تجارب شعرية، اقترنت بما يكتبه شعراء أدمنوا المنابر العامة التي تتلقى الشعر بتقاليد الاستماع، وليس بمواجهة الأسئلة بأسئلة أخرى، حيث تكون القراءة، تعبيراً عن وعي التلقّي الذي يحاور وعي النص المقروء.
إن أمثال هؤلاء، يبذلون جهداً، على جبهة الذاكرة دون سواها، لتقديم ما يعرفه المتلقي وما يرغب في الاستماع إليه، فيشعر بالسعادة وبشيء من إرضاء الذات باعتداده عرف المعنى الذي تضمنه النص الذي استمع إليه او قرأه.
ومثل هذه التجارب الشعرية، تظل مقيّدةً بالتكرار ومخاطبة ذاكرة الآخر، لاوعيه ولا مخيلته، فهي تجامله وتسترضيه وترضى بأن تكون تابعة له، بينما الإبداع الحقيقي هو الذي يتحرك في جغرافية الأسئلة، ولأنني لا أريد لقصيدتي أن تتجاوز جوهر الشعر، فلا أذهب بعيداً عن جوهر تجربتها، فأفكر فيها، ولا أفكر في ما وصفه السؤال بالماوراء.

* ...... لكن الاسئلة التي ترد في نصوصك مثقلةً بالألغاز، هل تستعصي عليك الإجابات، ام أنها شفرة مستفزة للقارئ؟

لقد وجدت نفسي مثقلاً بالأسئلة التي رافقتني وترافقني طيلة حياتي، ولم تفارقني في أي مرحلة من مراحل تحولات الوعي عندي، حيث صرت أنفر من أي فكر يدعي ان الاسئلة باتت نافلة، بما يقدم من إجابات قاطعة، يرى فيها الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من اي مواقع الحيرة والشك واللايقين. إن الأسئلة التي رأيتها في نصوصي الشعرية مثقلة بالألغاز،هي أسئلتي التي لا أبحث من خلالها عن إجابات نهائية، تضع الوعي بعيداً عن أسئلة جديدة، وتفرض عليه القبول بتوصلاتها، وإلاّ عُدَّ مداناً وملعوناً ومتشيطناً، بسبب خروجه على ثوابتها. ليس غروراً ولا تواضعاً، حين أعترف بأن الأسئلة التي تستعصي عليَّ إجاباتها، وهي كثيرة، أواجهها بأسئلة أخرى، فأجدني في فضاء فكري أوسع، أما أن أعمد إلى شفرة أستفز بها المتلقي قارئاً أو ناقداً، فذلك لم يخطر في ذهني وما فكرت به، ربما أجد متعة، حين يشاركني المتلقي أسئلتي وبعض قلقي حين أكون غير بعيد عن اللايقين، وفي الوقت ذاته اقرب إلى الإيمان.

*' أين الشبابيك.. قُلتُ سأبحثُ عنها.. فأوقَفَني حجرٌ يتثاءبُ.. يتبعه حارسٌ صاخِبٌ.. فوَقَفْتُ' شبابيك الأمل نصف مفتوحة في وجه القصيدة، فما هي آلامُكَ التي تحجب الفرح عنك، وبالتالي تحجبه أنت عن الآخرين؟

هذا سؤال مُربِك،فيه من الفطنة بقدر ما فيه من الدهاء، إذ أحسست بمحاولة من يريد أن يخرجني من الباب الذي أدخلني إلى ما وصفته من قبل بجوهر الشعر، ليدخلني باباً ينتهي بي إلى ما يحاصر قصيدتي بشعر المعاني، فإن دخلت هذا الباب، سأنتقل بحركة اللحظة الشعرية إلى ثبات المعاني، وهذا ما لم أتورط به من قبل.
إنني منذ اللحظة الأولى التي حاولت فيها أن أقارب بين قصيدتي وجوهر الشعر،كنت أبحث عن شبابيك فإن وجدتها، صرت أبحث عما وراءها، وهو مما لا يدرك، كما يدرك المعنى الواضح.
قد تكون قراءتك، هي التي أرتك الشبابيك، هي شبابيك أمل نصف مفتوحة في وجه القصيدة، حيث الأمر مما لايدرك، تحجب الفرح عنّي، لأحجبه بدوري عن الآخرين! أما انا فقد كنت وما أزال أعيش حياتي، لا أضعها بين حّدّي التفاؤل والتشاؤم، سواء كانت الشبابيك مشرعةً او مواربة أو مغلقة، فالشبابيك هي الشبابيك، إن لم تنفتح وتشفُّ عمّا وراءها، وتطل على ما هو أمامها، ستنتهي إلى الغياب والاندثار، فلا هي في حالاتها الثلاث التي أشرت إليها من قبل، قادرة على أن تحجب الفرح عنّي، ومن أنا، حتى أحجب بدوري الفرح عن الآخرين؟!
في هذا المقطع الشعري الذي تضمنّه السؤال، آو في قصيدة' أحوال الموريسكي' التي أقتطع منها،أو في جميع قصائدي الموريسكية، في مجموعة' من أوراق الموريسكي' أو في سواها من مجموعاتي الشعرية، لاأقدم على كتابة بيان فكري أو مطالعة تاريخية، بل هي محاولة مستمرة، مذ فتح لي الشعر باباً على جوهره، لأغني لنفسي أو أتخيّل إني أُغنّي .

* المنافي لاتهتك يقين الشعراء، فقل لي، كم منفى عبرته ليتحوّل إلى وطن؟

ليست هي المرّة الأولى التي أنأى فيها بنفسي عن اعتبار العامل الجغرافي، من قبيل المنفى، هذا من جهة ومن جهة أخرى لقد ابتُذل هذا الوصف، حتى صار من يهاجر للعمل والتجارة منفياً، ومن هرب من أسرته أو من متابعة قانونية بسبب جريمة مخلة بالشرف، منفياً هو الآخر، وكذلك من يلحق بعشيقة هربت منه، بل ادعى بعض من عملوا في مؤسسات دولية في اجمل بلدان العالم وأكثرها تقدما، انهم عاشوا حياة المنفى! وإذا كان من حق المرء أن يبحث عن حياة أفضل من الحياة التي يحياها في وطنه، فذلك أمر يعود إليه، لكن أن يعدَّ مثل هذا الانتقال منفى، فتلك نكتة سوداء حقّاً. لقد عرفت النأي عن المحيط الأسري والاجتماعي وأنا في الثانية والعشرين من العمر، حين فُرضت عليَّ الإقامة الجبرية بقرار أمني سياسي،في مدينة السليمانية بكردستان العراق لمدة قاربت ثلاث سنين، اقترنت بجملة مصاعب معيشية وأمنية واجتماعية، وأذكر أن فتاة جميلة من مدينتي الحلة كانت تعمل موظفة في إحدى الدوائر الحكومية في مدينة السليمانية، التقت بي وعرضت علي خدمات تيسر حياتي هناك، فطلبت منها بحزم،أن لا تفكر بهذا، خشية أن تفهم فهماً منحرفاً. ولم تكن تلك الإقامة بإرادتي، بل كانت وكما قلت قبل قليل بقرار أمني سياسي، ورغم قسوة المعاناة على أكثر من صعيد، وفيها كتبت قصيدة' الجليد' التي كانت بدايتي الشعرية الحقيقية، فلم أتحدث يوماً، عنها كمنفى، أما إقامتي الحالية في عمّان التي بدأت بعد احتلال وطني، والتي امتدت كثيراً، فلا أحسبها هي الأخرى منفى، إذ كانت خياري الذي أتحمل مسؤوليته،ولست بحاجة إلى أن أحوّل أي مكان أقيم فيه، بعيداً عن وطني، إلى وطن، ذلك أن الوطن هو الذي يسكن الإنسان ويرافقه أنّى كان، وقد يعيش الناس اغتراباً مدمراً وهم داخل أوطانهم حتى لو كان الإنسان، يعيش منفى جغرافياً، فإنه أقلّ وجعاً من المنفى الداخلي،حين يكون المرء غير متصالح مع نفسه، ويكون اغترابه ثقافياً، وحضوره الاجتماعي مؤسساً على الكذب والدجل والادعاء والنفاق.

*لماذا ترك العراقيون حضارتهم المجيدة، في أيد ملطخة بالدماء؟

ما سأقوله إجابة عن سؤالك هذا، ليس دفاعاً لامبررله، وليس إنكاراً لما ورد فيه ولكن ... هل العراقيون وحدهم من دون غيرهم من شعوب العالم، هم الذين تركوا حضارتهم المجيدة في أيد ملطخة بالدماء؟
وما حدث من مجازر بشعة خلال القرنين الأخيرين، على سبيل المثال، سواء في حروب التوسع والسيطرة الاستعمارية أو في الصراعات القارية والإقليمية، وما آلت إليه من اصطفاف ثنائية القوة التدميرية، كما في الحربين الكونيتين، وما تبعهما من انشقاقات كونية وحروب بالنيابة، في جميع قارات العالم. وماذا بإمكاننا وصف ماحدث في شرق آسيا طيلة القرن الماضي، ومايجري منذ عقود في أفغانستان، وبأي أدوات الوصف نتحدث عن أسوأ جريمة اخلاقية عرفها العالم، تمثلت في اغتصاب فلسطين وتشريد الشعب الفلسطيني واغتصاب تاريخه ومحاولة تدمير خصائصه الوطنية، وما زال الدم الفلسطيني، يسيل على امتداد أكثر من قرن،ثم من قتل مليون ونصف المليون من الجزائريين ومن دمّر شواخص الحضارة في العراق، وقصف المدن الآثارية والمواقع التاريخية ونهب المتاحف وخرب الجامعات والمعاهد ومراكز البحث العلمي، وسرق الوثائق التاريخية، والأخطر من هذا ما يجري من تفتيت اجتماعي، حيث تستبدل الطائفية بالوطنية والطائفة بالأمة. إن ما تعرضت له حضارات الإنسان ومعها كرامة الإنسان، ليس على أيدي الأنظمة الشمولية فحسب، كما حاولت الآلة الإعلامية العدوانية الرهيبة على ترسيخه في أذهان الناس، بل كانت سياسات التوسع والإلغاء والسيطرة بالقوة الغاشمة، هي سياسات الذين يملأون علينا الدنيا ضجيجا وكذباً، بالديمقراطية وحقوق الإنسان . وسأستجيب لسؤالك، بشأن من وصفتهم بأصحاب الأيدي الملطخة بالدماء، ورغم جميع جرائمهم، فهي لا تتساوى في ما ترمز إليه من انحطاط ،جريمة الإدارة الأمريكية التي اقترفتها في ملجأ العامرية، أو استعمال عتاد اليورانيوم أو حرق المواطنين بأسلحة لم يكشف عنها حتى الآن، وتحول أجسادهم إلى كتل متفحمة ومشوهة، ثم من الذي هيأ الظروف للاقتتال الطائفي ومدَّه ومازال بأسباب الدمار والوحشية.
نعم.. إن عراقيين شاركوا بنذالة في كل ما يحدث، لكن الأيدي الملطخة بالدماء، هي التي احتلت العراق وخربت حضارته، وما زالت تعمل مباشرة وبالواسطة على تخريب ما تبقى من إنسانية الإنسان فيه، ومحو مقومات الوطن والمواطنة، لتحل محلها مقومات الطوائف والطائفيات.

* الرحيل مفردةً ذات مظاهر متعددة تشي بمجموعتك الشعرية' من أوراق الموريسكي' كما لو أنه ذئب ينهش طُهر اللغة، لم كل هذا الخوف؟

قصائد (من أوراق الموريسكي) أو لأقل معظمها، تتحرك في مدى فنّي يكاد يكون واحداً، وتعبر عن تجربة آنية وحقيقية، حتى ليمكن أن تكون بمجملها 'ملحمة شعرية' وإن ما حدده السؤال بالرحيل، لغة وواقعاً قائماً، بإيحاءاته السلبية، حيث لا يقتصر فعل الشتات، على الفرد أو العائلة أو الحي أو المدينة،، بل أن الكيان الاجتماعي بثوابته الوطنية، عصف به الشتات، داخل في حدود الوطن وخارجها. إن تجربة بكل هذا العنف الاستثنائي وما جاءت به من خراب، لايمكن تمثلها شعرياً- إبداعياً، بلغة إدائية حيادية باردة، ولا بقاموس شعري مكرر ومألوف، فالذئب الذي تخيله السؤال ينهش طهر اللغة، ليعف عما يقترف في وطني، بحق كل ما هو جميل وأخلاقي وحضاري، فوحش الخراب، ينهش طهر الحياة. أما الخوف، فهو أبعد من أن يكون ذاتياً، بل هو خوف على الآمال والأحلام البيض، على القصيدة واللوحة والأغنية، على الماء والفرح والضحك، على ما تبقى للناس من القبانجي وداخل حسن ويوسف عمر وناظم الغزالي وعباس جميل وصديقة الملاية وزهور حسين ورياض أحمد وسعدي الحلي. وما كنت أحتفظ به من تسجيلات لحنية نادرة، لغانم حداد ومنير بشير وجميل بشير وروحي الخماش وخضير الشبلي وسامي عبد الاحد وعلي الإمام.

*ثمة صمت رهيب في قصائدك الموريسكية، رغم هول الكلام والقلق المريب، إلاّ أن المنفى يشعر بفراغ وجودك لحظة استحضار فجائع من نوع آخر، يُمليه عليه النص، لماذا لا تشخصن ذلك عبر ضمير الأنا وخطاب المتكلِّم؟

لا أجدني أرى الذي رأيت في قصائدي الموريسكية، ومن الطبيعي أن تفصح عن قراءتك، قصائد' من أوراق الموريسكي'ومع أنني أحترم هذه القراءة، لكنني أكاد اكتشف فيها أطروحة من قبيل، ان يقال لبيكاسو، لم لاترسم مثل رافائيل أو غويا؟ أو أن يقال لجياكوميتي، دعك مما تفعل وعد بنا إلى ثوابت ميكائيل أنجلو.
إن كتابة نص إبداعي، تنبني على الاستعداد أولاً، والوعي ثانياً والخبرة ثالثاً، ومنها جميعاً تتشكل الموهبة،وتتكرس فرادة المبدع وخصوصية ما يبدع. وهكذا كتبت، وأكتب قصائدي.

*'أدخلتك الكتابة.. في ما تُحب وما لا تُحب.. وفي لحظة عارضهْ.. فارقتكَ الخطايا البريئة .. أو فارقتنا' في هذا المقطع وغيره، كأنك تحمل عصا، لتجلد روحك وأرواح من معك، هذا تمرد أو عصيان أوحيت به، هل الكتابة لعنة؟

مَن مِن المبدعين، حين يشكِّل ما يُكتب، إضافة إبداعية حقيقية، تُدركُ بالتلقي وتُستقبل بالرفض او الرضا،أو في الما بين، فتثير أسئلة في زمنها،وقد تمتد إلى ما سيأتي. أقول مَن مِن المبدعين، كما ورد في الوصف آنف الذكر، لم تُدخله الكتابة في ما يحب وما لا يحب، ومن من هؤلاء لم ترافقه الخطايا البريئة وقد تفارقهم في لحظة عابرة، وآمل أن نفرق بين المرافقة والمفارقة، ومفارقة الخطايا البريئة هنا، تدخلٌ في ما يمكن ان نعده دور الإبداع في تحريك الوعي، بما يثير من أسئلة، وما يؤدي إليه من حوار، والإبداع الذي يثير أسئلة تنفتح على الجوار، هو الذي يتحرك في جغرافية تمتد بين الرفض والرضا. لا أدري إن كانت قراءتك هي التي أوصلتك إلى ما وصفته بجلد الروح او كما قلت- روحك وأرواح من معك وإذا كان الإبداع الحقيقي هو الذي ينفتح على قراءات عديدة تكون أحيانا في حالة تكامل وتكون أحياناً متناقضة، لأنه ينبني من طبقات ويتشكّل في محيط اسئلة، تنفتح على أسئلة أخرى، فيعبر عن رضا أو اعتراض، يصل من خلاله إلى حضور مؤثر وإيجابي، وهذا يتطلب أعلى حالات التصالح مع النفس، من دون تصالح مع المحيط، قد يصل إلى التمرد أو العصيان.. ولم لا؟ فتكون الكتابة فعلاً إنسانياً، بعيدا عن ثنائية أن تكون لعنة أو رحمة، ومن المؤكد أن التمرد والعصيان، غير جلد الذات وجلد الآخر.

*كل النبوءات في قصائدك الأخيرة،لاتستشرف مستقبلاً ناصعاً على جبين الأمة، ألا تراهن على الأجيال القادمة من رحم الغيب، أم أن ضياعنا سرمدي؟

حبذا لو اتفقنا، بهذا القدر أو ذاك، على أن أي عمل إبداعي يتشكل بتأثير وعي، ويتوجّه إلى وعي، وفي حوار وعي، وعي الإبداع ووعي التلقي، يكون مهاد التغيير، لقد كنت ولا أزال، غير قادر على إدراك مقولة نبوءة الشاعر التي عممها الرومانسيون، لأنها تحملني إلى شيء من الارتباك والتغبيش، في تحديد المعنى، أما الاستشراف، فقد يتراءى لنا، ليس بعيداً عما نعرف ونريد ونتمنى، وأي استشراف لابد أن يتأثر بثقافة المستشرف وتوجهاته الفكرية ومقوماته التربوية، بل بعموم تجربته الحياتية. وفي حدود علاقتي بالكتابة لم أجرؤ يوماً على القول، بأنني أكتب للمستقبل، إذ
لا أعرف ما سيكون عليه، قد أتخيله وقد يتخيله غيري، لكن من يستطيع أن يؤكد أن مانتخيله قريب من الواقع.إن الذين يدّعون الكتابة للمستقبل، كمن يهب ما لايملك، فللمستقبل، أي مستقبل، مكوناته، ولإنسان المستقبل رؤاه وتوجهاته وأدواته في التغيير، بأي حق نصادر كل هذا قبل أن يكون. فالنص الذي نكتب، لايمكن أن يتحرر من تأثير ما يحدث راهناً، ولا أظن أننا سنختلف في حالة القول بتغليب عوامل التراجع في واقعنا الراهن على عوامل التقدم، لكن وصف الراهن هذا،لم يدفع عوامل الحراك من أجل التغيير بعيداً عن السلبية والتيئيس، ولابد من إدراك موضوعي يفرق بين حراك من أجل التغيير ولغو عصابي، لادور له إلاّ تشظية المتشظي، كذلك الذي وصفه ابو العلاء المعري، بضجيج اللاذقية، ولطالما نأيت بنفسي عن مثل هذا الضجيج وحاولت بقدر ما أستطيع وما تتيحه لي ظروفي العامة والخاصة، أن أكون غير بعيد عن وعي حراك التغيير،باليد واللسان والقلم، وفي جميع الحالات يكون قلبي معها. واخيراً أقول..ليس من حقي أن أراهن على أجيال المستقبل، من دون معرفة بها، كما ليس من حق أيٍّ كان، تخيّل تواصل التراجع، وكأنه إرث، يرثه الابناء عن الآباء، وليس من حال سرمدي، فكل شيء يتغير، الإنسان والواقع والحياة.

القدس العربي- 14-9-2012