هدى أشكناني شاعرة كويتية تشق طريقها بهدوء وسط نتاج كبير يطبق على الورق في عالمنا العربي، تؤمن بأن الشعر ملاذ آمن في زمن العزلة، وبوابة عروج للشاعر عندما تفقد الحياة ألوانها المبهجة. وتؤكد في حوار مع «الحياة» أن الرمادي لون هذه الحياة، كما أن وجهتها ليست مؤكدة إلا برفقة تأخذ للبياض.
أصدرت هدى أشكناني مجموعة شعرية عنوانها «سماء تبحث عن غطاء» عن دار الغاوون اللبنانية 2011، ثم بعد عامين أصدرت «كنت أعمى» عن الدار العربية للعلوم ناشرون في 2013، نصها يتكئ على رؤى وأفكار في تناغم يعضد بين النص كفكرة وجمالية شعرية حديثة. فإلى تفاصيل الحوار:
الألوان.. الرمادي، كيف تبصر هدى أشكناني الطريق وتعبر نافذة الضوء والعالم كله «رمادي»؟
- الرمادي مرحلة شائكة، لها أن تُشكّل بحسب ما ننظر إليها، إن كنا نعتقدها مائلة للبياض فسيكون الضوء سورها، وإن كنا نعتقدها مائلة للسواد فستحل العتمة الحياة كلها، لذا هو مركز العالم ومخلصها من جميع ما يشوبها من ألوان أخرى، تتضح في ما بعد أن مصدرها الرمادي!
الرمادي، مرحلتنا القادمة، ولذا أحاول التأقلم معها كيلا أتصرف تجاهها وتجاه الحياة بغباء ثاقب.. كل ما تعلمناه من وجود ألوان كثيرة، كانت أكاذيب خدعنا أنفسنا وعشنا الخدعة بكامل تفاصيلها، ومن ثم أفقنا واكتشفنا أنه لا لون في هذه الحياة سوى الرمادي.
«لم تعطني إيماناً ولا اعتقاداً.. لكنها أهدتني من دون أن أنتظر وطناً.. كلما استقدحته اشتعلت ناره بالرجاء»، أي قلب هذا الذي يغدق علينا وطناً حياً وأملاً لا يموت؟
- عندما تغرق في سيل من الأحزان والآلام وتحتاج إلى يد تمنحك الأمان والرغبة في المواصلة، فتكتشف أنها يد لحبيب يعاونك في تحمل مشقة الحياة، أو ابتسامة صديق تؤطر طريق خطواتك العرجاء، وأنت تختار بعشوائية وجهة لا تشبهك، فيأخذ بيدك للطرف الآخر المضيء، حينها تعرف أن هكذا قلب له أن يكون وطنك الذي يشبهك، فتتشبث به وتعانقه عناقاً مديداً لئلا تفقده.
أتخافين ظلك؟ ما الصوت في نص «عبور» وكيف له أن يمتد عميقاً ويعبر منسلاً من ثقب الباب؟
- أخاف الوحدة، ولذا أخاف ظلي الذي يختفي محاولاً الخلاص، في ظل بشاعة الحياة التي لا يمكن أن تعطي غير هذا أحزاناً متسلسلة، تقتل ما تبقى منا، وها هي تمتد يدها نحو ظلالنا.. ربما ثقب الباب هو المكان الأنسب للغرق وسط عتمة تشبه أرواحنا، وقتها لن يكون هناك مفترق طريق للنجاة، ثمة رمادي مائل للسواد، يعتم وجهه كلما مشيت إليه، وهو الخلاص.
من يحرس الضوء بعدك؟ في وجه هذه البشاعة التي تكاد تؤطر حياتنا كلها، هل ثمة حارس آخر لم يمت؟
- كل الذين قاوموا، انتهوا، لا وجود لحارس أخير، كنا نعيش القلق بشجاعة، نسند ظهورنا لعلمنا أن هناك من يحرسنا، إلا أننا اكتشفنا أن كل من سيجنا بشجاعته رحل، وهكذا بتنا نخاف كل شيء، وهذا الضوء العاثر، لن يجد من يحرسه. وكأنه ولد في الوقت والمكان الخطأ، لا وجود للضوء في ظلمة تسوّر دائرته التي تحاول الاتساع ولا مفر.
بوح أم قلب؟ الصدى المنعتق من حناجر السوسنات؟
- محاولة للابتسام، وسط أصوات الموتى ودماء السوسنات، لكن محاولاتنا باءت بالفشل، قلب يقول كل شيء وبوح صامت، المعادلة بين البوح والقلب غير متكافئة، لذا هو الصدى وحده من يجيب.
يطوق الحزن ديوانك «كنت أعمى»، هل ثمة أحلام مصلوبة على شرفة الغياب؟
- الحزن دوامة لا خلاص منها، نحزن لأننا نحب، نحزن لأننا نبتسم ونضحك ونبكي ونفكر ونموت.. كل الأحلام التي رسمتها وحاولت تحقيقها كانت مصابة بالعمى وأكلها الغياب.
نحاول في شرفات الحياة إعادة تأهيل هذه الأحلام العمياء لتتقبل ما يحدث بشجاعة كفيلة بأن تبني لها أحلاماً مبصرة وأكثر قرباً من الواقع.
«العمى.. يدان ترسمان عينين في هواء، يتبع هاوية»، هل تخافين الفراغ؟
- لمن عاشه مثلي، يحق له الخوف، العمى فراغ مسدود في كل طريق تختبر حدسك وتفشل، فتحاول ثانية وثالثة ورابعة وتفشل، وقتها تدرك أن كل محاولاتك ما هي إلا طريقة لعبور الهاوية التي رسمتها في مخيلتك الضحلة.
«الظل والضوء، العتمة والهاوية، المنفى والغياب». طريقان تفترقان.. لإحداهما تضيع، يكاد قاموسك ديوانك المزدحم بالبوح يدخل عتبة الغياب النهائي بتلويحة وداع، هل الحضور أعمى إلى هذا الحد؟
- العالم كله أعمى! فأنا لا أؤمن بالبصر! أؤمن بالعمى والسواد وهو الأنسب وصفاً لما يحدث، في هذه الحياة الأشبه بالخراب لا نملك سوى الغياب والمنفى. ما كنا نعتقده لم يكن، هو الوهم من أنسبها إلينا، كل ما نظنه أصبح سراباً، فمن الحماقة أن نحاول البوح في دوامة الغياب والفناء.
«يده اليمنى تمسك بالمقبض.. بينما يده اليسرى لا تكف عن النقر»، أصابعك وقبضة يدك، متى تتآمر على قلبك؟
- قلبي الذي أعتقد أنه تمكن من فهم هذا العالم مثلما علمه إياه صديقي، أخطأ الوجهة، فخسر السعادة التي اعتقد أنه كسبها، غالباً ما يكون صوت القلب أحد أسباب هزيمتنا في الحياة، فيما يدي تحاول لملمة أجزائه المتناثرة، تقوم بتقوية قبضتها لئلا يفلت هذا القلب مرة ثانية ويكون أقرب للهشاشة.
متى تخون أشكناني أحلامها وترتكب حماقة الهرب؟
- في كل منا، حماقات يود أن يرتكبها كنوع من التجربة، في ما يخصني، أود دائماً ارتكاب حماقة الهرب، والتحرر من الأعباء الثقيلة التي تتملكني، الهرب من كل المبادئ والأخلاقيات التي حملتها وناضلت لأجلها، الهرب من كل وجه دال على الحياة، الهرب مني، من أصدقائي وعالمي وعائلتي ووطني وأحلامي وذاكرتي، الهرب بوصفه نسياناً، كما قالها هواتسي سونج من قصيدة للشاعر الهندي ستشدانندن: «النسيان كان لي يساوي الحرية».
أيهما أعظم، الموت أم الحياة؟
- يقول شكسبير في رائعته مكبث: «ما الحياة إلا ظل يمشي»، إذا ما كانت الحياة ظل فماذا سيكون الموت؟ أعتقد أن كلاهما عظيم، هيبة الحياة تواجهها هيبة الموت، ربما الموت الذي نعرفه، ليس مهماً في ذاته كما هي الحياة في ذاتها، إنما ما تحيط بهما من أمور، وإلا ما المبرر الذي يلجآ إليه البعض في الانتحار إذا ما كان للموت هيبة؟
هذا التساؤل أربكني لأجل أن أجد مدخلاً واضحاً يفسر الوجود بكامل غموضه.
الشحاذون والمتجولون والمعدومون، ما لمسافة بين قلبك واحتراقهم؟
- لست «إنساناً» بالمعنى الحقيقي الذي يجعلني متوحدة بهؤلاء المعدمين، لكني أشعر بما يعانونه وأتألم لتألمهم، حتى إنني أحترق حزناً لاحتراقهم. لكنني أتساءل على رغم هذا الفقر، تجد موسيقى الفرح تملأ أوقاتهم، ونحن على رغم ما نملك من مصادر الرفاهية إلا أننا حزينون دائماً. قريبة منهم، أسمعهم دائماً، أكتب عنهم ولهم، فهم وحدهم من يستحق الحياة بسعادة.
الحياة- الثلاثاء ١٤ يناير ٢٠١٤