هناك رابط ما، رابط سرّي يشدّك إلى المدن اللاّتينيّة المفتوحة على العالم في مواجهة المدن الأنكلوسكسونيّة ومدن الشمال الدّاكنة والمغلقة تماماً كغاباته. أستثني فيينا وأمستردام اللتين تبدوان لي في إشراقهما السّعيد وكأنهما مدينتان متوسطيتان زرعتا في الشمال. فيينا التي تنتمي الى العالم الجرماني ولكن بلا تلك الرزانة وذاك الجدّ الألمانيّ وأمستردام التي هـي فـيــــنــيــسيـا الشمال برسوم عصر نهضتها التي تلقاها في الرايكس موزيوم، وقنواتها التي لا تنتهي، وبنايات شوارعها الرّاقصة في المياه وقواربها الزاهية... أذكر، في أوّل زيارة لها وكنت جالساً ليلاً أسهر في شرفة بالدور الثاني أو الثالث مع بعض الأصدقاء، فإذا بي ألمح فجأة باخرة تدخل المدينة، تمرّ من أمامنا عبر البنايات، باخرة بيضاء كبيرة بأبراجها وصفوف كواها المستقيمة المضيئة؛ تمرّ صامتة، هادئة تحت نجوم ذلك الليل الهولنديّ البعيد، كأنها تمخر الشارع؛ بدا المشهد عجائبيّاً. مشهد مسرحي، فنحن في ظلام الشرفة والباخرة تمرّ... ثمّ، وبلمحة بصر، أحسست أنّني في مدينة بحريّة. أو، كأننّي داخل بطاقة بريد بالأبيض والأسود لأحد المصورين الفوتوغرافيين.
ثمّة رابط سرّي يشدّك إلى المدن اللاّتينيّة التي تحكمها جدليّة صلابة الحجر وليونة الأضواء؛ كلّ المدن التي مررت بها من روما إلى فيتاربو، إلى ميلانو، إلى مرسيليا، إلى أفينيون، إلى أوكسيير، إلى ليون، إلى باريس، إلى مدريد إلى سلمنكة إلى برشلونة، ثمّة قاسم يجمع بين هذه المدن اللاّتينيّة وهو احتفاؤها بالحجر وتلك العمارة المنفتحة على العالم الخارجي، على أضواء السماء... وأنت لا تزال تحتفظ في ذاكرتك وروحك بتلك الأضواء الرّومانيّة المتوسّطيّة الناعمة، أضواء المساء البرتقاليّة والحمراء القانية منعكسة على صفحة نهر السين الزرقاء الرماديّة قبل الغروب في حي الشاتلي، أو فوق زجاج نوافذ الحيّ اللاّتيني أواخر الربيع إذ يطول النهار وفق التوقيت الصيفي وتقفر الشوارع، هي أضواء سلمنكة على نهر التورميس، أضواء آرل على نهر الرّون المنساب في البكور أو العشايا وأنت تتطلع إليه خلال أشجار الدلب والأوكاليبتوس الكبيرة من سطح بيت غابي.
مدينة الرياح
بيد أنّ ما يشدّك إلى مدينة آرل، مدينة الرّياح في إقليم البروفانس جنوب فرنسا شيء يتجاوز هذا الرابط السريّ، فقد عشت فيها فترات كثيرة من حياتك... كانت آرل في ذهني قبل أن أزورها مرتبطة بأسطورة فان غوغ، كان هناك إحساس شاعري يهزّني كلما فكرت بأنني سأذهب إليها قريباً وأنّني سأقيم فيها في المركز الدولي للترجمة الأدبية، وأنّني سأجول في تلك المغاني التي جال فيها فان غوغ، هناك قطع أذنه ليقدّمها هدية لامرأة لم تحبه، هكذا تقول الأسطورة التي قرأت وصدّقت وفي مرّة أخرى وضع كفه فوق شعلة شمعة وترك لحمه يحترق ليبرهن عن حبه لامرأة كانت معه في أحد مقاهي آرل، لعلّه المقهى اللّيليّ الذي رسمه... قايضها جادّاً : لن أرفع يدي عن النار حتى تبوحي لي بحبّك...
فكنت آخذ كتاب رسائل فان غوغ وهو عمل أدبي راق من الرفّ لأقرأ رسالة أو رسالتين إلى شقيقه ثيو يحدثه فيها عن حياته في آرل، وفي سان ريمي يحدّثه عن الفلاحين، وعن عذاباته وآلامه واضطراباته النفسية، ثم أتوقف عن القراءة لأمضي بعيداً في أحلام يقظة لا تنتهي، أغرق في الخيال حيث أرى مشاهد الريف الفرنسي، حياة الفلاحين، الغابات والبحيرات الزرق والطواحين والجسور على الأنهار والرعاة مع قطعانهم والبيوت الريفيّة المتناثرة في الآفاق الزّرق بقرميدها الأحمر والدخان المتصاعد في البعيد من مداخنها. وتلك الأبقار تكرع الماء على حوافّ الغدران والسواقي وفي خلفيتها بيوت الفلاحين الحجريّة الخربة التي تكثر في رسوم عصر النهضة... وكالعادة كنت ضحيّة صور ومشاهد رسوم كنت رأيتها في طفولتي على الزرابي الحائطيّة في بيوت تونس، صور جاءت مع الاستعمار الفرنسي لتزاحم رسوم الأنبياء التقليديّة التي على الزجاج... مشاهد لنساء في قوارب خيالية في بحيرات أمام فيراندات ذات أسيجة من الرخام وغابات تعبرها الأيائل والطيور والفرسان؛ باختصار صور رومانسيّة خليقة بقصص بول وفيرجيني. وعندما ذهبت إلى آرل الحقيقيّة اكتشفت أنّني كنت ضحيّة تلك الرسائل وضحية خيالي في المقام الأوّل... اكتشفت أن آرل لم تكن على هذه الصورة وأنّها لم تكن مرحبة بفان غوغ، بل كتب الأهالي عريضة يطالبون فيها السلطات بحجزه في أحد المشافي، وتصوّره المعمّرة الأرليزية جان كليمون التي عرفته في طفولتها، في سن الثالثة عشرة، صرّحت في مهرجان الذكرى المئوية لمروره بآرل تقول: عندما كان يأتي لدكان أبي لشراء قماش لوحاته كان يبدو رجلاً سيىء الهندام والخلق، وسخاً بشعاً وغريب الأطوار.
هكذا كانت صورة فان غوغ في الحياة اليوميّة لدى أهالي آرل... وهذا أمر عادي، فالفنان الحق نادراً ما يقبله معاصروه، ترفضه المدينة. أليس أفلاطون من قال يظل الفيلسوف خارج المدينة حتّى يغيّرها.
تخرج من محطّة القطار وتمضي في اتجاه النهر، في اتجاه الجسر الذي هدمته الطائرات الأميركية في الحرب العالمية الثانية 1944، لم يبق من الجسر غير بوابتيه على الضفّتين، ألمح من بعيد الأسدين الحجر على مدخله في البرّ وكأنهما يسبحان في السماء الزرقاء، ومن الضفة الأخرى تلمح أشجار الدلب والسرو والمقبرة الحديثة ثمّ خطّ الأفق، وبلحظة وأنت تقترب من الميناء النّهري السياحي تلمح تلك الباخرة النهريّة الرابضة على الرصيف، بغرفها المضاءة بالأباجورات ومطعمها على السطح تتذكر كلّ أولئك المجانين الذين كانت أوروبا القرون الوسطى تتخلص منهم بوضعهم في القوارب، فقد كان الناس يعتقدون أن مياه البحر مطهّرة من السحر والجن. بيد أن هذه الباخرة النهرية لا تحمل مجانين، هي عبارة عن فندق عائم يحمل سياحاً من ألمانيا وجينيف وصلوا إلى آرل عبر الخطوط النهريّة... وبلحظة تحس بنعمة ذاك الضوء السّعيد الذي يختلط عليك فلا تدري هل هو صاعد من الدّاخل، من أعماقك أم هو في الأجواء الأثيريّة التي تحيط بك: الريح الهيّنة تهزّ أيك القصب النابت على حافة نهر الرّون الذي ينساب في هدوء عميق، هدوء راسخ وقديم مثل سيلان الزمن. ثمّ انعكاس أضواء الشمس على زجاج نوافذ البيوت التي على الرّصيف حيث دير فرسان مالطة الذين كانوا يحلمون باستعادة القدس من المسلمين. دير فرسان مالطة بواجهته الحجريّة الصموتة ونوافذها العالية المصطفّة. كلما مررت من هناك تذكرت قصة الأمير العربي الذي مرّ بآرل وترك فيها كنزاً مدفوناً لا يعرف مكانه أحد، و ما زال الناس يبحثون عنه. فقد كانت آرل في تلك الأزمنة ومناطق كثيرة من جنوب فرنسا عرضة لهجمات فرق العرب الأندلسيين أو ما يسمّى في أدبيات القرون الوسطى الفرنسيّة بالسّارازان. تذكرت قصص الأسرى المسلمين الذين اقتنصهم القرصان وقضوا بقية حياتهم هنا. بعد الدير هناك القنطرة التي تربط المدينة بحي تيكتاي والتي رسمها فان غوغ.
في البعيد تلمح بيت ميراي الذي يلقاك في زاوية شارع سافوريان مع كورنيش لاروكيت، وفي هذه الزاوية بالضّبط تجلس الأم روزيتا فوق تلك السطيحة المرتفعة قليلاً عن الأرض كما هو شأنها في العصارى... روزيتّا إيطالية مهاجرة جاءت إلى آرل بعد الحرب مع زوجها العامل جيوفاني، إذ كانت آرل قد عرفت موجة مهاجرين من العمال المياومين الايطاليين والإسبان مع بدايات السكة الحديد 1850 وسكنوا حيّ لاروكيت في طرف المدينة على الرّون، ثم، وفي الخمسينات من القرن العشرين أعقبتهم موجة من المهاجرين العرب، من حركيين جزائريين وعمّال مغاربة وتونسيين... يجيئون عادة في الخريف في موسم جني الكروم في الحقول المحيطة بآرل... وفي آخر السبعينات جاء أو قل التجأ إلى آرل من أماكن قصية في أوروبا وأميركا ما كان يسمّى بشباب مايو 68 جاء بعد الثورة آخر السبعينات وأوائل الثمانينات، جاء وهو يناهز الأربعين، جاء منكسراً في لحظة إحباطه وضياع حلمه. فالثورة هي الثورة، بيد أن النظام هو النظام أيضاً. والنظام هو القاعدة والثورة استثناء ولكنّه ضروري. شباب ثورة مايو الحالم والمحبط من الثورة منح المدينة سمتاً آخر... واكتمل البناء الفسيفسائي للمدينة: عائلات أرليزية عريقة، مهاجرون إسبان وايطاليون وعرب شمال إفريقيا ثم هذا الرهط من بقايا شباب 68 يليه طلبة المدرسة القومية للتّصوير الفوتوغرافي.
الميسترال والخريف
أحبّ أن أزور آرل في الخريف عندما تكون الشوارع خالية وزرقاء، وريح الميسترال التي تهب عليها تزيد الجوّ وحشة رومانسيّة. يأوي الأرليزيون إلى بيوتهم؛ لا أحد في الشوارع سوى بعض من تخلف من السياح تلقاهم في ساحة الجمهورية أمام بوابة كنيسة القديس تروفيم ذات النحوت وكأنها تجسيم حجري لجحيم دانتي من قبل أن ينحت رودان جحيم دانتي في بوابته العظيمة، هكذا كانت كنيسة العصر الوسيط ترهب الناس بالنيران الأبديّة... أو تراهم (هؤلاء السياح) يجلسون في جماعات على أرصفة مقاهي شارع ديليس الذي يلف آرل القديمة. يمنحون المدينة شيئاً من احتفاليّة الصيف الذي يمضي إلى الاضمحلال وسط رياح الميسترال التي تهزّ الأشجار وتدفع بأوراق الخريف الصفراء في زوايا الأرصفة وتموّج سطح الرّون النيليّ.
وأنت تعبر ساحة الجمهوريّة في الصباحات، ترى أفواج اليابانيين وطلبة المدارس تقف يومياً في طوابير لأخذ صور لبوابة كنيسة القديس تروفيم التي تعدّ مع الكوليزي والمسرح الروماني من أهم معالم آرل الأثرية، تقع في مركز المدينة القديمة.
في ساحة فولتير تجتمع أجناس من جزائريين ومغاربة وبلغار ورومانيين وإسبان مهاجرين، وإيطاليين وسيزار الخياط الأرمني الذي هو أمّة برأسه، والذي يشكل وحده الطائفة الأرمنيّة، تجتمع منذ الصباح هناك تحت الأشجار التي تظلل الساحة، والشمس تتخللها فتصنع من الأضواء والظلال دانتيلاّ على الأرض... والزوبير وعُمار والرشيد والشاب حسن وألبرتو الرسام البولوني الهاوي، وبوعمّاري أمام المشرب وهم يتصايحون ويتمازحون بفرنسيتهم ذات اللكنة البربريّة، ومن الناحية الأخرى من الرصيف أرى سيزار العجوز الثمانيني جالساً كعادته وهو يقرأ من صحائف بالية بين يديه حكماً وأمثلة من التراث الأرمني صار يصطحبها معه هذه السنين الأخيرة حيث ما ذهب كوطن من ورق... قال لي ذات سنة وكان قد ناهز الثمانين وهو يسرد لي بعضاً من تلك الأمثلة والحكم وهي كلّ ما تبقى في الذّاكرة من هويّته الأرمنيّة بعد أكثر من سبعين سنة قضاها في فرنسا:
- نحن لدينا في الشرق الحكمة التي يفتقدونها هنا. أليس كذلك؟! توافقني... ليس لديهم حكمتنا التي تنير الحياة! اسمع هذه الجملة الحكميّة. ويبدأ بسرد الحكمة وراء الأخرى على مسامعي.
سيزار أحد معالم آرل، هو في الآن ذاكرتها وأرشيفها في الأربعين سنة الأخيرة، كلّ فناني فرنسا مرّوا بدكان الخياطة الذي يمتلكه على ناصية شارع 4 سبتمبر؛ مثله مثل رودريغو آخر غجريّ في آرل، غجري بالتمام والكمال، رجل أسمر، رفيع ممشوق وكأنّه نوبي لولا تلك الصفاقة التي تغيم على ملامحه، ولولا تلك الحمرة التي تشوب سمرته الداكنة، ولولا تلك الملابس: القبعة الجلديّة الشبيهة بقبّعة الوسترن في أفلام الهنود الحمر الأميركيّة يعتمرها صيفاً وشتاء، وسيرها الجلديّ يتدلّى من تحت ذقنه الرفيع؛ وبنطلونه الجينز وحذاؤه ذو الكعب العالي وتلك الخواتم الفضيّة والنحاسية التي يضعها في كلّ أصابعه، والقلادات المعدنية بعقيقها الملوّن تلتمع على صدره، تراه واقفاً باستمرار أمام بار التبغ في ساحة الفوروم... وهناك مايكل الرسام الأميركي الذي اختار آرل كمكان أسطوري للرسّامين تراه دائماً على دراجته يقودها الهوينى هو الرجل التسعيني... ومارتين الستّينيّة الطويلة الفارهة البدينة ذات الملابس الفضفاضة والخواتم والأساور الملونة الغريبة، التي تجول باستمرار في شوارع وأزقة آرل القديمة بكلابها الضخمة التي تصطحبها، وتدخلها معها الى المحال العامّة من مطاعم ومقاه ودكاكين... والويل لمن يعترض. كانت مارتين في سالف أيامها تعمل محررة صحافية في مجلة باري ماتش في باريس، ثمّ، وفي يوم من الأيام ظهرت فجأة في شوارع آرل بكلابها الثلاثة وماكياجها الغريب من أحمر الشفاه والبودرة البيضاء، والكحل البنفسجي حول عينيها الواسعتين، والشعر المصبوغ باللون الأحمر ممّا يضفي على وجهها سحنة المهرج.
الحالمون بالعصافير التي تسبح في البحر وبالأسماك الطائرة في الهواء تحت سقوف الكنائس، بالأرنب الذي يأتي من القاهرة... و بسيّارات سنوات الخمسين السيتروان دي شوفو ذات السقف القماش يدخنون الغولواز ذاك التبغ الأسود الحريف الطعم، يرتدون طقم البروليتاريا الأزرق الليلي، طقم ماوتسي القطني الأزرق الغامق، ويعتمرون قبعات البحارة اليونانيين ويلفّون أعناقهم بالطّرحة الفلسطينيّة ويرسلون شواربهم على طريقة جورج براسانز. يقرأون رامبو وهيدغير وهمنغواي وهرمن هسه وكتاب أميركا اللاتينية، فقد تمرّدوا على الحياة الفرنسية بكل أوجهها... الرواية الفرنسيّة لم تعد تفي بحاجياتهم، فهي رواية مغرقة باللفظيّة والتّقنية؛ وهذا شأن يتماشى مع موقفهم الرافض لكلّ ما هو فرنسي... هم الحالمون بالعصافير التي تنبثق من مياه البحر... هجروا الشانزيليزيه وسكنوا جبال الهملايا وساوورج في وادي الروايا المقفر على حدود ايطاليا قرب فانتيميليا... يجمعون الأحجار من بلاد بعيدة والقواقع البحريّة من شواطئ تاهيتي ومن جبال الأنديز تصل إلى أسماعهم في الصباحات صرخات الهنود الحمر التي تتردّد ذبذباتها في الأجواء... وصيحات الأطفال المقتولين في فلسطين وفي أقاصي آسيا وإفريقيا.
الثلاثاء, 18 أكتوبر 2011