خالد النجار
(تونس)

آرل البيت الأصفر
آرل البيت الأصفر
 
تمثال وجه فان غوغ
تمثال وجه فان غوغ
 
المركز الدولي لمترجمي الأدب آرل
المركز الدولي لمترجمي الأدب آرل
 
جانب من المسرح الروماني آرل
جانب من آثار المسرح الروماني آرل
 
جانب من المسرح الروماني آرل
جانب من المسرح الروماني آرل
 
 تمثال شاعر المدينة ميسترال
تمثال شاعر المدينة ميسترال
 
ترسم حديقة نسقت على لوحة لفان خوخ
ترسم حديقة نسقت على لوحة لفان خوخ
 
حديقة المستشفى كما رسمها فان خوخ  هي اليوم على صورة اللوحة
حديقة المستشفى كما رسمها فان
خوخ هي اليوم على صورة اللوحة
 
حديقة المستشفى كما رسمها فان خوخ  هي اليوم على صورة اللوحة
خالد النجار أمام محطة قطار آرل
 
حمامات قنسطنطين الأوّل آرل
حمامات قنسطنطين الأوّل آرل
 
آرل جادّة ديليس آخر القرن التاسع عشر على عهد فان خوخ
آرل جادّة ديليس آخر القرن
التاسع عشر على عهد فان خوخ
بوابة كاتدرائية سان تروفيم آرل
بوابة كاتدرائية سان تروفيم آرل
 
 بوابة المستشفى تعود للقرن 16
بوابة المستشفى تعود للقرن 16

الآن تعود آرل في شفق مساءات ذلك الخريف البعيد من شهر أكتوبر سنة1989 عندما وصلت إليها أوّل مرّة، تعود بغيومها المتقطّعة وبألوان سمائها البنفسجيّة والزّرقاء الرّماديّة من خلل الأشجار العملاقة الدّاكنة التي تتبدّى من وراء زجاج نوافذ قاعة المعهد الكبرى، القاعة التي تحتوي المكتبة. الوقت مساء، المكتبة شبه معتمة، المترجمون منكفئون على مكاتبهم في صمتهم المقدّس، وقد أشعلوا أضواء أباجوراتهم فتشكّل دوائر صغيرة، جزرا من الضوء وسط الظلمة التي بدأت تغزو القاعة، وكأنّ تلك الأباجورات شموع داخل معبد تزيدها أقفية وظهور الرجال المنكبين على مكاتبهم بلا حركة، ودكنة المساء الهابط، والجدران الحجريّة القديمة السميكة، والهامات السوداء الكبيرة للأشجار في الخارج تزيدها رهبة كرهبة المعابد.. وفي الحقيقة فإنّ لهذا المكان سمت الدّير، ففيه يقيم المترجمون كامل الوقت فلا يخرجون سوى ساعات قليلة لقضاء حاجياتهم..

تعود آرل؛ آرل بملمحها الإيطاليّ الإسبانيّ اللاّتيني، بأزقّتها الضيّقة المتعرّجة المظلمة، بأبوابها البنفسجيّة والصّفراء والزّرقاء السّماويّة والبرتقاليّة والفيروزيّة، والقمريّة، أبوابها نصف الموصدة ونوافذها التي تفتح بريبة على العابرين، نوافذ ببلورها الذي تغطيه الدّانتيلاّ البيضاء وحديدها المشبك، وزهور الجهنّميّة المعرّشة على الجدران القديمة؛ والايبسكوس وأنت تمرّ لا تتمالك من رؤية الأرليزيّين أحفاد الرّومان عائلات متجمعة في صالوناتهم كتماثيل الشمع هكذا يبدون متحفّظين بيد أنّهم على علم بكل الدقائق التي تقع في حياة مدينتهم..

آرل، بيوت صغيرة ذات عمارة بروفنساليّة هي مزيج من تأثيرات إيطاليّة وإسبانيّة ويونانيّة شعبيّة، كنائس تعود إلى عصور المسيحية الأولى نحوت على الحجر، تماثيل ونصب القدّيسين الصغيرة على مداخل البيوت، وفي زوايا دروب وأزقّة أحيائها القديمة الضيّقة، وعلى أسوار المدينة التي مازالت قائمة في بعض المواضع..

آرل حجارة رماديّة داكنة، حجارة بيضاء، حجارة سوداء رومانية يضجّ صمتها بصخب القرون.. حجارة المسرح الروماني الضخمة هناك تحت أشجار الدّلب، تحت أشجار الأوكالبتوس في أعالي المدينة، حجارة حمّامات قسطنطين، خرائب المسرح الذي بناه الإمبراطور الرّوماني أغسطس في القرن الأوّل بعد الميلاد، وقربها الكوليزي الذي ما يزال قائما يستقبل الحشود.. هناك حيث كنت تذهب في الصّباحات لتجلس تقرا في الحديقة ساعات الضّحى، أو بالليل اذ تغادر دير الترجمة وتجول في تلك الحديقة المظلمة مثل شبح منفرّد، هناك حيث يجلس أؤلائك الشيوخ من المهاجرين الجزائريين والمغاربة الذين اختاروا البقاء هنا لسهولة معالجة مشاكل الشيخوخة والمرض حالمين بقراهم البعيدة في الجنوب... في الأغواط، وباتنة، و جرجرة، و الرّيف المغربي، و في السّوس

آرل حجارة ضخمة، حجارة .. حجارة هي الملمح الأساس للمدن الرّومانيّة، وأنا لا أعرف حضارة احتفت وقدّت النحت مثل الرومان..

نصب فريدريك ميسترال شاعر المدينة ينتصب في ساحة الفوروم، فريدريك ميسترال بقبعته المائلة وشواربه الشبيهة شوارب غي دي موباسان، قيافة شاعر من القرن التاسع عشر بالتمام والكمال. وكان يجلس، أو يمرّ بالليل أمام التمثال الذي شيّد في حياته، أي إحساس مريع لابدّ أنّه عاشه !!! مرعب أن تمرّ بجانب نسخة منك تدري أنّها تمثل النحات رؤية النحاة أكثر مما تمثلك أنت، وما ضعه فيها يفوق بها شيئا منه...

تمثال لآلهة الفن تتوسط الحديقة، تماثيل لغلمان أنصاب لكل الميثولوجيا الرومانية، أوثان لآلهة مندثرة بأسرارها في طوايا الماضي، حجارة صلبة تضجّ بأسرار عصور الإنسان الوثنية، عندما كان الإنسان مازال يعيش في دخيلته وحدة السّماء والأرض، عندما كانت للحجارة روح، للأرض روح تطلق موجات لا مرئيّة ترسلها لأعماق الإنسان لوعيه اللّيليّ الكونيّ عبر الوحدة المغلقة للحياة، إنّها ذكرى خافتة لتلك العصور الشامانيّة السّحيقة، ذكرى بعيدة لتلك الجذور الغامضة و القصيّة التي تشدّ الإنسان إلى أعماق الأرض المظلمة إلى تلك الدياجير التي لاتسبر والتي تعود إلى ملايين السّنين؛ لذا تجد ذاك الهوس الديني بالحجر والأصنام والتماثيل والأنصاب لدى الإنسان في الحضارات و الثقافات التي توالت على مرور الأزمنة والأحقاب في جميع أصقاع الأرض : من مرتفعات الأحجار في السّويد وأيسلندة إلى مناهير و دولمن بريطانيا واليمن، إلى تماثيل المواي في جزيرة عيد الفصح تلك التماثيل العملاقة الصّامدة منذ قرون في رياح المحيط وليله، والتي ما تزال نحنفظ بأسرارها : نصب قائمة منذ ليل التاريخ حتى عصور بابل ومصر القديمة والإغريق والرومان.. إلى حجر الكعبة الأسود، وحجارة التطهير، الصّعيد الجرز أو حجارة التيمّم الإسلاميّة لعل الكلمة لغة للفظة التيمّن، فالنون والميم حرف واحد لدى اللّغويّين العرب
القدامى.

لأجل كلّ هذا الثراء التاريخي الماثل أمامك، أنت لست في حاجة إلى الذّهاب إلى متحف آرل الذي يقع وسط الحرج خارج المدينة، غير بعيد عن ضفّة نهر الرّون، تحرسه الزّيزان وعصافير الرّون.. ليس بعيدا عن شارع سافوريان في حيّ لاروكيت حيث تقيم أمام الرون، كنت تستيقظ في الفجر وتفتح النّافذة لترى سيلان النّهر الأبدي حاملا سفن مجانين أوروبّا العصر الوسيط، حاملا سفينة هولدرلين في ظلال الفجر الرّماديّة تحفّها عرائس الشعر، وسفن صيادي الرّون الشبيهة بالسفن الفينيقية الأولى، لا، لم يعد هناك صيّادون... ماتت الأسماك بتلوث هذه الأنهار

أجل...
الرّون الأزرق الذي يفصل المدينة إلى قسمين : آرل القديمة وحي تانك تاي اللذين يربط بينهما جسر حجري قديم كانت قد ضربته الطائرات الأميركية إبّان الحرب العالمية الثانية ولم يبق منه سوى البوابة العملاقة يعلوها تمثالان لأسدين ضخمين، ودعائمه وسط المياه. كانت هناك أيضا سكة حديد للقطارات تمرّ من فوق هذا الجسر؛ واليوم هناك جسر جديد يؤمن تواصل شطري المدينة.. أجل، لست في حاجة إلى الذّهاب إلى المتحف فالمدينة كلها عبارة عن متحف كبير، هي سجلّ حجريّ، مدوّنة حجريّة تحوي عمارة كلّ عصور آرل وحقبها التّاريخيّة، من أيّام الرّومان حتّى يومنا الحاضر آرل بكنائسها وأديرتها وقصورها... كلّ شيء مازال محفوظا : من حمّامات قسطنتين، إلى الأديرة و الكنائس التاريخية حتّى آخر البيوت والدّارات العصريّة التي تعود إلى ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين.

***

وصلت أوّل مرّة بالقطار القادم من مرسيليا، كان الفصل أوّل الخريف، أذكر جيّدا رداء الشمس البرتقالي الذي كان يغطّي الحقول الفرنسيّة، و طيور الجنوب السوداء تلفّ في فضاء الحقول وعلى خطوط الكهرباء، والمحطّات الفرنسيّة، وبيوت القرميد المنتشرة في الرّيف البروفانسي، والأفق الأزرق هناك في البعيد حيث بعض السّحب الخريفيّة الداكنة والواطئة، سحب أوروبا، مشهد يبعث على التّأمّل، يبعث فيك شيئا من حزن لامرتين الرّومانسي وكآبته الجميلة، هذا هو الصّمت اللاّتيني الأزرق الذي جذب إليه، ومنذ عصور المسيحيّة الأولى آباء الكنيسة للعزلة والتأمّل والعمل في الأرض، وبين الرّعيّة.. متصوّفة الغرب أولئك الرجال المسجيين اليوم مثل الأباطرة الرّومان في الحجارة، داخل توابيت منحوتة تذكّرك بالتوابيت الحجرية الفينيقيّة والرّومانيّة الوثنيّة أو ما يسمّى بالسّركوفاج؛ توابيت منتشرة في كثير من كاتدرائيات وكنائس وأديرة البروفانس؛ من قصر الباباوات في آفينيون إلى دير مانوسك، إلى أسقفيّة سان تروفيم

وكلما مررت من أمامها تجد نفسك تردّد في سرّك مقاطع من نشيد سان جون بيرس وهو يمجّد في لهجة شبه ترتيليّة وبغنائيته الملحميّة مسيرة الغرب الملحميّة الكبرى...

~... أميراتكم المطعونات يتحوّلن في العاصفة إلى يمامات؛ والأباطرة الرومان ينامون تحت اللوحات البرونزية... ~
س. ج. بيرس

أجل أسقفيّة سان تروفيم القابعة منذ قرون في وسط آرل القديمة صرحا شاهذا على عصور المسيحيّة الوسيطة، سان تروفيم ببوّابتها البديعة التي تعود إلى القرن الثاني عشر ميلاديّة، وديرها أيضا بمعماره الرّوماني و القوطي الذي ينتصب في الساحة العامّة، ساحة الجمهوريّة في قلب المدينة، ودير مونماجور الخرب.. دير مونماجور الذي يقع في المرج خارج المدينة، على طريق قرية فونفياي حيث طاحونة ألفونس دوديه... دير مونماجور الذي غزت مقبرته الأعشاب البريّة والسّنونو... وإذا ما مررت من هناك في الصيف استمعت إلى جوقة الصراصير في شقوق الجدران الشّاهقة وفي أشجار السّنديان والسّرو، والصّنوبر... وظللت مشدودا إلى نافذة القطار مشدوها أتطلع على الحقول وأيك القصب وبيوت الفلاحين وهي تعبر من وراء الزجاج إلى أن أعلن مكبر الصوت آرل فاستعددت للنزول إلى هذه المدينة التي تحولت فيما بعد إلى مكان كانت له أدوار في مستقبل أيّامي وفي فهمي لما يعتمل من قلق روحي لهذه الأجيال الجديدة التي هربت إلى هناك أواخر القرن الماضي، بعيدا عن ضجيج المدن الكبرى... بعدما سقطت كلّ اليوطوبيّات...

نزلت من القطار كالمشدوه واتّجهت وأنا أجرّر حقيبتي إلى المدينة الني تلمح سورها من المحطّة
مررت عبر بوّابة الكبيرة ودلفت إلى شارع 4 سبتمبر حيث نبع أميدي بيشو بصورة المرأة حاملة غلال الرّبيع على الجليز، وتعريشات العنب المنقوشة على جوانبه الرّخاميّة، ووقفت اتأمّل هذه الصورة البديعة بألوانها الحمراء والصفراء و الرّمادية، هذا الصّرح من القرن التاسع عشر. بعدها ملت إلى الطريق المحاذي للّرّون، حيث متحف تريانون الذي عرفت فيما بعد أنه كان فيما مضى دير رهبانيّة فرسان مالطة...

***

وصلت المعهد، بناية قديمة من القرن السادس عشر تقع في آخر باحة مستشفى الربّ Hôpital Dieu أو قل إن شئنا التّرجمة الدّقيقة مستشفى العناية الإلهيّة الذي رمّم حديثا وتحوّل إلى مجمّع ثقافي يضمّ، مكتبة المدينة وقاعة محاضرات، ومعهد دراسات عليا، ومقهى ودكاكين...
اتجهت رأسا إلى مكتب الإدارة في الطّابق الأوّل، كانت مادلين المرأة النحيفة الطويلة في استقبالي، أخذت منّي ورقة القبول وقادتني إلى الطابق الثاني حيث غرف الإقامة، كانت مادلين شديدة اللطف معي وهي تقودني في الرّواق كما في الفنادق نحو الغرفة التي خصصت لي سألتني ان كنت قمت بسفرة مريحة من تونس إلى آرل، أجبت بالإيجاب. قالت بابتسام, سعيدة :
ـ الطّقس هناك حار ومشمس، هنا بدأ الطقس يسوء.
فتحت الغرفة وبدأت بشرح نظام الإقامة : أرتني المكتب والسرير الذي في السدّة والدشّ، وطريقة الإضاءة وتشغيل المدفأة، وأعلمتني أن الشراشف تتغيّر مرّة في الأسبوع، وعليّ أن أحملها بنفسي للمرأة التي تقوم على العناية بالمكان. غادرت بسرعة وقالت لي وهي تغلق الباب من ورائها لا تنس أنت مدعوّ إلى حفل استقبال وتعارف يقيمه جاك المدير في الصالون الكبير الذي عبرناه قبل لحظات، يبدأ الحفل حوالي الثامنة والنصف مساءا، وأردفت لا تتأخّر في الحضور.
في المساء جاء جاك تيريو هو أيضا مترجم، رجل في أواسط العمر بلحيته النامية وضحكته
المجلجلة التي تخفي خجلا وارتباكا عميقين، كانت معه زوجته تيريزا المرأة المكسيكيّة الصّغيرة والنّحيلة بلباسها الأسود الطّويل، وأحمر شفاهها القاني، والكحل الذي يحيط بعينيها الواسعتين ووجهها المستطيل الذي تعلوه صفرة هادئة وأنفها الدّقيق، وسيجارتها المذهّبة الطّويلة بين أصابعها النّحيلة، وتتكلّم بحركات من يديها كأنها بطلة في مسرحيّة اسبانيّة من الثلاثينات.
تعرفت في الحفل على ميكاييلا التي تترجم لوكليزيو، ميكاييلا التشيكيّة، وآلش المترجم والنّاشر السلوفيني، جاء ليعكف على نقل أشعار بول إيلوار إلى لغته.. وكان معنا في الحفل بعض الأرليزيين، وموظفي المعهد، وبعض أعيان المدينة...
هكذا بدأت معرفتي بآرل، بيد أنّ الأمر ليس بهذا التبسيط؛ إنّ صورة الآخرين في أذهاننا لا علاقة لها بهم، إنّها صور خاصّة بنا
بعدها بأيام بدأت تنهار هذه الصّور لتحل محلها صور نابعة من الواقع والمعايشة
أوّل ما اكتشفت هو هذا المزيج الذي تحتويه المدينة

مادلين من بلجيكا طلقت زوجها وجاءت لتعيش هنا، آلان القادم من ملجأ الأيتام، برناديت من الألزاس، ماغي الألمانية، سيزار أو القيصر الخياط الأرمني ذاكرة المدينة وأسطورتها، لورانتسو من الشيلي، إيرينا من رومانيا، فيليب المؤرخ وبحار الرّون، جيمس وكاتي من أستراليا، وآلش السلوفيني ولازلو السلوفاكي وجاك الذي جاء من الجبال ليفتح مكتبة تبيع كلّ نوادر الغرب الأدبية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ويوهانا الأرستقراطيّة الألمانيّة الثرية بلباسها الذي لا يتغيّر : طقمها الأزرق الغامق، جاكايت ذكوريّة وبنطلون وحذاء رجالي؛ وهي تلفّ باستمرا في شوارع آرل مع كلبها، و يوهانس الألماني المغرم بجمع مصابيح البترول القديمة من كلّ مدن أوروبّا، رودولف الرّسام العصابي السّويسري الألماني
أناس ينطوون على قلق، يخبؤن قلقا...

في صباح اليوم التالي استيقظت عند الغبش، في تلك الساعة الرّماديّة الزّرقاء، كانت الغرفة بنافذتها المفتوحة على الباحة الدّاخلية غارقة في ظلال الفجر المعتمة، وأطللت من النافذة فرأيت في الأسفل على اليمين مكتب المدير مضاء وطبق القهوة جاهزا فوق المكتب، ومطر رذاذ ينثّ فوق أرضيّة الباحة العشبيّة، وأمامك يرتفع الجدار الحجري العاري مثل جدران قلاع القرون الوسطى.. أيّ إحساس عميق بالرّاحة والهدوء والتفرّغ للقراءة والكتابة، في هذا الصّمت البروفانسي؛ التفرّغ الذي حلمت به سنوات طويلة، فأنا أدري حدسا أن الأماكن تشكل النّصوص، المكان الذي يكشف لك بفعل لا أدري أيّ الأسرار ذاك الجانب العميق في نفسك، وهذا يذكرني بنص لأحد الكتاب الألمان المختصين في فنّ العمارة يقول أن البيت هو تنويعة على المعبد، بل إنّ كلمة بيت العربية تعني في معناها الأوّل المعبد، وعندما يتحدّث المسعودي في مروج الذّهب ومعادن الجوهر عن بيوت النار فهو يقصد المعابد المجوسيّة، وفي القرآن بيوت الله هي المساجد، المكان سكن الإنسان هو معبد بأسراره؛ ويسمّى سكن لسكون النّفس، واطمئنانها، وهذا لا يتمّ إلاّ داخل المعابد والتكايا والأديرة... وهكذا ارتبطت النّصوص الكبيرة بالأماكن عزلة ابن خلدون بقلعة بني سلامة حيث كتب المقدّمة، وكوخ هيدغير في الغابة السّوداء، وكوخ فتجنشتاين في إحدى الجزر البريطانيّة وقصر دوينو حيث كتب ريلكة مراثي دوينو...

***

ولكن ما حقيقة هذا القلق الّروحي لهذه الأجيال الجديدة التي هربت إلى هنا... بعيدا عن ضجيج المدن الكبرى... ولماذا آرل، فآرل ليست السّيفين ومداعبة حلم العود إلى الطبيعة، حيث غامر بعض الرجال والنّساء؛ وخرجوا ذات مساء من مكاتبهم في الإدارات والشركات الكبرى ولم يعودوا إليها، تحوّلوا إلى رعاة وفلاّحين في جبال السّيفين؛ هكذا كتب عنهم أنطوان الدّويهي أجمل الصّحائف...

هذا الغرب ومنذ القرن الثامن عشر بدأ يفرز ظاهرة الهروب لدى مثقفيه وفنانيه
ثمّ جاء زمن الهروب إلى آسيا وصوفيتها، الهروب إلى جزر الهند الغربية وإلى المكسيك، إلى الجنوب، إلى المياه الدّافئة...
أو الهروب إلى الدّاخل، هرب ديكارت إلى ألمانيا وهولاندة، والدّنمارك والسّويد وصار صديقا للملكة كريستينا السويدية التي كانت لقاءاتها معه فجرا في الخامسة صباحا، كما ذهب ميشال فوكو بعده بقرون لينعزل في ريف الأراضي الواطئة، وهرب مونتانيي إلى الرّيف...

إن حادثا بسيطا أو فكرة تطلق في مجال ما تظلّ تفعل فعلها السريّ في الزّمن، مثل صفحة ماء ألقيت فيها حصاة فإذا هي دوائر ماء تتوالد دوائر أكبر، وتظلّ الدّوائر تكبر وتكبر إلى أن تصل إلى المحيطات البعيدة حيث تحدث حركة يسيرة جدّا كرفّة جناح فراشة قبل قرون... هذه الجماعات العائدة إلى الطبيعة اليوم هي دوائر تلك الحصاة التي ألقاها روسو، وثورو في بحر الوعي الغربي.. هذه الجماعات وريثة بشكل من الأشكال الأدب الرّيفي الإيطالي، وريثة جون جاك روسو الداعي إلى العود إلى صفاء الطبيعة، والمؤمن بأديولوجيا البدائي الطيّب، روسو الذي ظلّ يتردّد على الرّيف... وريثة ثورو الكاتب الأميركي الذي حسم الأمر وذهب إلى الغابة واستوطنها.
هم أناس تركوا وظائفهم ومواقعهم وحياتهم المستقرّة في المدن الكبرى وفي لحظة ما في العقد الخامس اتّخذوا قرارا بتبديل نمط وأسلوب حياتهم.. بل قرّروا استبدال حياتهم بحياة أخرى؛ غادروا المدينة والوظيفة والوضع المستقر، وضع البورجوازي الصّغير المطحون بين الرّاتب الشهري والضّرائب، سجين التلفزيون وملصقات الدّعاية والسوبرماركت... وعلى غير اتفاق جاءوا آرل منجذبين إليها..
ثمّة ريح سريّة قادتهم، موجة لامرئيّة اقتلعهم من شققهم وبيوتهم في باريس ولندن وجينيف وهامبورغ وأمستردام، وكراكوف نداء داخلي غامض، حاسم وقدريّ.
لعلّها رياح الميسترال التي تهبّ بشكل دوري على المدينة، يقال أن هذه الرّياح تسبّب الجنون.
وهو النّداء الداخلي الذي استجاب له فان غوغ قبل قرن من الزّمان ليتخذ آرل سكنا له، وتقترن آرل باسمه وتشكّل أسطورته.

هكذا جاءوا... غابي، لورانزو، سيزار الخيّاط ألأرمني العجوز، خبّأته أمه في الأقماط وهي تعبر الحدود التّركية إلى اليونان إبّان محنة الأرمن في تركيا حوالي 1915 رودولف السّويسري الألماني رسّام الكوتشينة المثليّ، جيمس أستاذ الأدب الانكليزي في جامعة ملبورن، جاء مع زوجته كاتي العذراء الطّهريّة كأنّها خارجة لتوّها من شريط ذهب مع الرّياح لمارغريت تتشل. امرأة نحيلة، رقيقة؛ بيد أنّها تنطوي على جنون صامت؛ ركبا باخرة نقل، أبحرت بهما من أستراليا وظلّت في الطّريق مدّة شهر إلى أن ألقت مراسيها في ميناء مرسيليا، قال لي جيمس ونحن نتمشّى في رواق المعهد، بلهجة وترفّع الأساتذة الكبار
- أثناء السّفر أنهيت في الباخرة كتابة قصّة للأطفال..
وفيليب ريغو، وآلان، ولورانتسيو
على غير موعد جاءوا آرل
وعلى غير موعد التقوا

غابي الرسّامة، والمترجمة، والمشبعة بروح التّصوّف الإغريقي، والإرث اللاّتيني، نبيّها سيناك الفيلسوف الأخلاقي الرّواقي الذي يجمع بين الفضيلة واللّذة، وهما قطبا حياة غابي...
قدمت من الشّمال، من هامبورغ وتركت وراءها هناك قصّة يجب أن تروى: طفولة تعرّضت فيها لغسيل دماغ وإحساس معذّب بالذنب إزاء اليهود. رفضت الكنيسة في طفولتها، واستجابت لها المدرسة؛ وتطوّعت تحت ذاك الإحساس العنيف بالذّنب وهي ما تزال في مراهقتها الأولى لمساعدة عجوز يهوديّة تقوم على العناية ببيعة يهوديّة.
- كنت أحتقر نفسي لأنّني ألمانيّة، وأشعر بالذّنب، وكانت العجوز اليهوديّة تقول لي إنّ ما وقع لنا نحن اليهود عقاب إلهي لأنّنا حدنا عن الدين، لم نتّبع التعاليم فأرسل علينا الإله غضبه.

نحن في الخمسينات وأوروبّا خارجة لتوّها من حرب كونيّة ضروس كما تقول العرب؛ لم تعرف الإنسانيّة أكثر تدميرا منها؛ كانت عبارة عن أبوكاليبس حقيقي؛ ومخطط مارشال على قدم وساق .. أب كان قد بعث به هتلر للجبهة ليجد نفسه في العشرين في إيطاليا يحمل بندقيّة لا يدري لماذا وماذا يفعل بها؛ وأعلنوا نهاية الحرب فعاد فالتر المسكين من الجبهة راجلا إلى بلدته مع فلول العساكر الألمانيّة المنهزمة.
وإبّان الحرب يلتقي فالتر بسغريد المرأة التي ستصير زوجته و ينجب منها غابريالاّ وولدا، تنحدّر سغريد من أصول إقطاعية بافاريّة، انتمت في شبابها لمدرسة الباو هاوس الألمانيّة الشّهيرة، كانت تطمح أن تصير رسّامة، كانت تحلم ب وبعد زواجها من فالتر وإنجابها طفلين، أحسّت وكأنّها خانت حياتها، وغرقت في كآبة عميقة، في أحد الأيّام غادرت البيت، ولم تعد مطلقا. بعد حوالي إحدى عشرة شهرا عثروا عليها معلقة في شجرة؛ شنقت نفسها في الغابة. قبل أن تأتي غابي وتستقرّ في آرل كانت تعيش في أمستردام من فنّها، و قبلها تنقّلت بين جزر الكناري واليونان وشمال فرنسا .. الآن هاهي أرست في حيّ لاروكيت في آرل اشترت بيتا تقليديّا ورمّمته حسب أصول الصيانة المعماريّة جعلت منه تحفة فنيّة وملأته بلوحاتها؛ تعيش منكفئة على هذا التاريخ العائلي المستمرّ داخلها وفي مكابدته حولته إلى أسئلة مضيئة لوعيها بالوجود.

بعد غابي بقليل جاء لورانزو الأرستقراطي التشيلي الفرنسي الأمّ، شبيه أيضا في حوله ولون عينيه بلورانس العرب، شاب في منتصف الأربعين أبوه من الأرستقراطيّة التشيليّة، وأمّه سليلة نبلاء البروفانس، كان أبوه يعمل بالسّلك الدّبلوماسي عمل في لندن وهون كونغ والقاهرة تخلّصت منه أمّه مبكّرا بأن وضعته في القسم الداخلي في مدرسة انكليزيّة عريقة نفس وهناك زامل الأمير تشارل .. تقول غابي يبدو أن لورنس تعرّض في هذه المدرسة المتشدّدة لاغتصاب من احد الرّهبان المثليّين.. هناك أيضا خضع لأساليب التربية الانكليزية الكلاسيكيّة المتشدّدة، نظام صارم، تدريب على التّقشّف، الاستيقاظ باكرا في الشتاء والاغتسال بمياه النّهر الباردة في مدرسة هي أشبه بالمعسكر و الدّير
طفولة أولى في سانتياغو، بيتهم يقع على مقربة من بيت بابلو نيرودا في إيسلا نيغرا، الجزيرة السّوداء؛ فقد كان أبوه دبلوماسيّا أيضا مثل نيرودا وصديقا لنيرودا. وقضى لورنتزو مراهقته مع الرسّام كوكوشكا صديق أبيه الدّبلوماسي، كنّا نتحدّث عن الرّسم فجأة وفي سياق الحديث ذكرت كوكوشكا ولوحته الرّبيع الكونيّ، التفت إلي ونحن نسير في الليل قرب بيته أعلى المدينة آه، أنت تعرف كوكوشكا ؟ قلت لا، إنّما أعرف لوحته الربيع الكوني وقد عرضت في السبعينات في تونس، قال كنت دائما في بيته.
ولورانتزو يتمتع بذاك اللطف الانكليزي العميق كأنّة شخصيّة خارجة لتوّها من العصر الفيكتوري، يتنقل في كلامه بيسر من ميلتون إلى شكسبير إلى كارليل إلى لورانس العرب، إلى الدكتور جنسون إلى أدب عصر الانحطاط أو الأدباء المنحطين الانكليز Les décadents يحفظ مقاطع لجون دون، وليم بليك، ييتس اللورد بايرن كثيرا ما يضمنها كلامه ثم يترجمها لنا بالفرنسية، تلك الاستشهادات التي يبلسم بها جروحه العاطفيّة..

لم يمض أسبوع على وجودي في معهد المترجمين حتى انعقدت أواصر الصّداقة مع فيليب المؤرّخ العصامي وآلان الصعلوك الذي جاء من دار الأيتام وقضى شبابه يبحث عن اعتراف ما، يستجدي اعتراف الآخرين عن طريق الرّفض فيه شئ من غضب شباب ثورة 68، وكثير من ثقافة الموسوعيين الفرنسيين ذهب إلى منطقة الكامارغ وهناك وسط المستنقعات وقريبا من البحر، من شاطئ القديسة مارية البحريّة سكن باصا قديما حوّله إلى كوخ.
وغابي، ولورنتزو، وسيزار، وإيرينا مافرودين الرومانية، وآلش السّلوفاني، ولاسلو السّلوفاكي، وميكاييلا التّشيكيّة، وطبعا برناديت القادمة من الألزاس..

وفي أحد الأيّام نحن القادمون من خارج فرنسا المأخوذون بفرنسا بأسطورتها أردنا التفرّج على هذه الجغرافيا التي نعرفها من خلال الكتب والنّصوص... انحشرنا في سيّارة غابي وكان آلان دليلنا حتّى وصلنا إلى غدران ومستنقعات منطقة الكامارغ ومخاضاته؛ وهناك وبعد ضياع وسط متاهة تلك الدروب التي تشقّ البحيرات والمخاضات الني يكثر فيها القصب والعوسجان وصلنا إلى الشّاطئ وتفرجنا على بحر الخريف الأصفر المزبد، وعلى خيول الجهة، البيضاء والسّوداء، خيول فرنسا العملاقة وهي تخوض في المياه الزّرقاء وسط الحشائش وتفرجنا على مراعي ثيران الكوريدا الضّخمة، الكوريدا التي كنّا شاهدناها قبل اسبوع بالمسرح الرّوماني في آرل تلك الثيران شبيهة ثيران بيكاسو:

آه، صرنا نرى الطبيعة من خلال الفنّ وكانّ العالم الحقيقي هو تمثل فنّي؛ فقدنا براءة النظرة الأولى للعالم وللطبيعة، التراث الإنساني من شعر ورسم ونحت كيّف نظرتنا، الخلق الأوّل هو الطبيعة بيد أن الخلق الثاني هو المهمّ، هو الذي يعّمق وعي الكائن بسكنه السّعيد في الأرض، كلّ تفّاح العالم لا يساوي شيئا أمام تفاحة سيزان ونحن نرى وجوه النّساء عبر وجوه روبنس، ونرى وجوه المتأزمين عبر بورتريهات كليمت، ومساحات الكامارغ الممتدّة العارية من خلال أعمال فيرمير ، والصور الفوتوغرافيّة السّوداء والبيضاء للفن الحديث

أيّ مجال هو مجال الكامارغ ببحيراته وببطّه التائه في الغدران، وطيور النّحام، والكواسر...

وشاهدنا الملاّحات؛ جبال بيضاء موشورة بالورديّ تتراءى من بعيد، وفي طريق العودة وكان الليل قد هبط على الرّيف ملنا إلى مطعم موريس في أحد الحقول قبل آرل ببضع كيلومترات، وبعد مسير وسط الحشائش واللّيل دلفنا بيتا حجريا قديما وقاعة تتوسطها مدفأة حجرية كبيرة تشتعل، والجلبة تملأ المكان، قلت هي نفس جلبة الفرنسيس التي لحظها رفاعة رافع الطّهطاوي قبل قرنين في باريس، هو القادم من وسط أزهري جاد ينهى عن الضحك الذي يميت القلب كما تقول الفقهاء..

هناك بدأت ما دعوناه أحاديث آخر القرن، جماعة كإخوان الصّفا بيد أنّه لا مشروع لديهم سوى المشروع الفردي، أو ما يسمّى بالانكفاء على الرّفاه الجسدي وتنمية الذّات، أو البناء الرّوحي، بمعنى آخر العمل على تنمية القدرات الشخصيّة، يبدو المشروع بالنسبة لعالمنا الثالث مشروعا أنانيّا وعدميّا

صرنا نجتمع كلّ مساء في ندوة غير منتظمة في القاعة العليا هناك استعدنا أفلام أهم كلاسيكيات السينما الغربية من الحسناء والوحش إلى فيلم ليلي مارلين، ولورانس العرب، و أمريكا أمريكا لإيليا قازان، وموسيقى ما بين الحربين وكأننا جماعة سريّة تأتي لجرد ثقافة حقبة مضت، تأتي لتودّع القرن العشرين، أخوان صفاء بيد أنّنا لسنا فلاسفة ولا ندّعي ذلك... كانت غابي قد أنجزت في تلك الفترة ترجماتها الألمانية لنصوص ألفونس دوديه، وأخرج فيليب بعض المخطوطات من أرشيف مرسيليا الذّائع، وكتب عن سفن نهر الرّون في القرن الرّابع عشر ثمّ صاحب بعثة أثريّة لليونسكو إلى الإسكندريّة وخليج سرت حيث بحثوا عن مراكب الفينيققين الغارقة في البحر فلم يظفروا سوى ببعض العملات وبقايا سفينة نابوليونيّة جنحت إلى تلك الشّواطئ وتمثالا يونانيّا لإله زحل هو الآن بمتحف بنغازي.

***

في مستشفى الربّ نام فان غوغ يوم قطع أذنه ليقدّمها هديّة لحبيبته، نام في نفس القاعة تقريبا التي صارت اليوم قاعة المكتبة كان لاسلو المترجم السلوفاكي يتندّر إذا ما اشتكى أحدنا من نوم متقطّع، مكدّر أو كوابيس فيقول له مواسيا :

- Ce sont les névroses de Van Gogh qui hantent ces lieux 1 et qui nous empêchent de dormir!
إنّه عصاب فان خوخ الذي يسكن هذا المكان، وهو الذي يرعب نومنا

لاسلو الذي كان ينقل ميشال بيتور من الفرنسيّة إلى السّلوفاكيّة، ولا يكفّ عن الحديث عن الرقيّ الثقافي والحضاري لبلده، وكيف أنّهم يصنعون الكريستال هناك في الجبال؛ وإذ أخطئ وأقول له عفوا وأنا أتحدّث عن أيّ موضوع :
- في بلدك تشيكوسلوفاكيا...
فما أكاد أكمل جملتي حتّى يغضب ويصيح بي وهو يعيدني إلى الصّواب، ويقول لا، لا أنا من سلوفينيا ويلمز من قناة التّشيك ومن تيتو، من لغتهم وثقافتهم وأساليب عيشهم، ونسائهم وكلابهم وقططهم ويتخلّى عن موضوعه وينشأ يحدّثني عن التشيك وأنّهم شبه بدائيين وأنّهم بعيدون عن الحضارة وعن أساليب العيش الرهيف، وأنّ النخبة في تشيكوسلوفاكيا القديمة، على أيّام تيتو هي كلها من السّلوفاك بيد أنّهم لم يحتلّوا أيّ مواقع مهمّة في الدّولة.. واكتشفت أن الأمر لا يقتصر علينا فقط حيث في كلّ دولة عربيّة ثمّة قرية ماء تأتي بها ورقة يناصيب التّاريخ إلى الحكم فتستأثر به لأهلها.
لاسلو شوفيني متعصّب، بل عنصري يكره التشيك والعثمانيّين، ولا يترك فرصة لا يهاجم فيها وبلطف حضارة الإسلام؛ أصمت؛ ثمّ أساله ببلاهة كم قرن ظللتم تحت الحكم العثماني، تحت الدّولة الإسلاميّة؟ وبعد ثواني أضيف ظللتم ثلاث أم أربعة قرون؟ نسيت.
ويفهم قصدي، ويصمت. وأحيانا أضيف عندما جئناكم كنتم تعيشون عصورا مظلمة حقيقيّة.
كان إلش من سلوفينيا، أكثر تماسكا وجديّة ورصانة ينقل أعمال مونتيني، وجاورتنا إيرينا مافرودين الأرستقراطية الرومانية نسبة لرومانيا، إيرينا شاعرة مطبوعة كما يقولون، وأكاديميّة رصينة على إطلاع واسع على حضارة الغرب في العصور القديمة والوسيطة وبعض فلاسفة الإسلام؛ وكنّا متفقين أمام هجمة كتاب الحداثة الخاوية في غالب الأحيان، و قد أطلقنا شعارا : من لا يعرف الكلاسيكيات الإغريقية أو أو إحدى لغات العالم القديم لا يمكن أن يكون حداثوي Moderniste كانت إيرينا تترجم رواية مارسيل بروست : في البحث عن الزّمن الذي مضى... وتقول عن تشاوسسكو إنّه من أصل فلاّحي وضيع، وما اشتراكيته سوى انتقام لوضاعته، لقد خرّب رومانيا هدم بيوت الفلاّحين التقليديّة ودمّر كلّ الكنائس والأديرة بتماثيلها وأيقوناتها وعمارتها الرّومانية العريقة، وأقول لها بورقيبة أيضا قام بعمل شبيه، هدم كثيرا من معالم تونس الإسلاميّة بتأثير أديولوجيا حداثة عُصابيّة Modernisme névrotique أراد ان يعالج تونس من صيدليّة الثّورة الفرنسيّة.. لقد شكّلت حركته حركة شبيهة بحركة اليعاقبة في تاريخ الثورة الفرنسيّة.

***

وبعدها بسنوات في إسطنبول، وفي ذلك الحفل الذي أقيم للوفود بحدائق توب كابي، وأنا أتطلّع مشدوها إلى الأشجار الباسقة وإلى القصر المغلق في ذاك المساء المطير والحديقة تمتلئ بالأتراك بأطقمهم الزرقاء النّيليّة والسّوداء وياقاتهم البيضاء، و وجوههم الآسيويّة الأوربيّة ونسائهم بملابسهن الفارهة وذاك الخفر الشرقي الذي يتبدّى في حركاتهنّ وسحنتهنّ البيضاء الضاربة إلى الحنطة وشعورهن الشقراء والسوداء، خليط من أجناس : روم، وترك طورانيّون وكرد وقوقاز وعرب وصرب وبلغار مزيج مثير من أعراق و أجناس وثقافات...
قلت لصديقي :
ـ حمزة بك أنا حزين أنّي أصل إلى باب القصر ولا أستطيع زيارته.
مأخوذا بالرّفاه الإمبراطوري العثماني الذي مايزال ماثلا في العمارة، وفي الخط العربي المذهّب الذي على بوّابات الجوامع والقصور والمعاهد والقشلات والمراسم العثمانيّة، وأروي لمحدّثي مقدار إعجابي بالرسوم الباقية من دار الخلافة أو الباب العالي ففي كلّ بناية أثريّة ثمة طغراء السلطان الذّهبية تعلو البوّابات الحديديّة الشبيهة ببوابات الحدائق الإمبراطورية في فيينا، قلت لصديقي هدم هذا التراث جريمة، جريمة تاريخيّة كبرى وأنا أعتقد أنّ ما بقي ماثلا للعيان، ولم تمسسه يد البلى أو الإهمال و الهدم بفعل حمّى إديولوجيا التحديث الكماليّة هو جزء يسير.
قال صديقي حمزة بك وهو يخاطبني بفرنسيّة راقية ومخارج كلام ونطق سليمين وبرهافة شديدة تجدها لدى عشاق اللغة الفرنسية من غير الفرنسيّين وهو يوجه لي كلامه بصيغة الجمع كما تعلّم ذلك في مدرسة الألسن العريقة التي أنشأها السلطان عبد المجيد.
- أنا متفق معكم يا خالد باي، مصطفى كمال وفي هوسه التحديثي هدم كثيرا من القصور والتّكايا والمساجد والحمّامات، والغريب أنّه وفي أواخر حياته اختار الإقامة بقصر دولما سراي، في سكن السّلطان؛ والمؤسف أنه كانت بهذا القصر مائتا غرفة وقاعة، هل تتصوّر مائتين من الغرف والقاعات الفارهة مؤثّثة بكامل رياشها الأمبراطوري لم يبق منها اليوم سوى أثاث عشر غرف أمّا بقيّة أثاث القصر فقد اختفى؛ حارب مصطفى كمال كلّ الإرث العثماني في اللّغة، والعمارة واللباس وأنظمة الحكم، باختصار اعتدى على تاريخنا وهويّتنا وهو يفكر أنّه يدافع عن هذه الهويّة.
ثمّ صمت قليلا، وخفّف شيئا من حماسه واستمرّ :
- هي مفارقة ؛ هو أزال تراثنا هويّتنا وهو يعتقد أنّه يبني؛ وقد أرسى حسّا قوميّا شوفينيّا مقيتا لدى الأتراك، عزلنا عن ماضينا وعن الشعوب المجاورة، عزلنا عن إخواننا العرب، ثمّ أنت لا تدري كم أتألّم أنا ! عندما أجول في اسطنبول وأرى كلّ هذه الكتابات التركيّة بالقلم العربي فوق المعالم الماضية ولا أستطيع تفكيك حروفها وقراءتها، تراث تركي كامل مكتوب بالخط العربي يثوي ميّتا في المكتبات بيننا وبينه سدّ، تراث لا نستطيع قراءته، لذلك شرعت هذه السنوات في تعلّم اللغة العربيّة.. أنا أحبّ إخواننا العرب.
هكذا أنهى كلامه

المثقفة الكرديّة أيضا اختزلت الأمر والباص يصعد في ذلك المساء إلى باي أوغلو وشبّهت دور جماعة مصطفى كمال الثقافي بدور اليعاقبة في الثورة الفرنسيّة.. كانت خيوط المطر تنزل على زجاج الباص، وعلى باي أوغلو وعلى البوسفور الغارق في الضّباب، وكنت وكأنّي في بغداد قبل خمسة عشر سنة أصغي إلى الكاتب الصّيني صاعد جنديّ الكون هكذا اسمه وهو يقول ألحقت ثورة ماو تسيتونغ الثقافية ضررا فادحا بالصين... وبلمحة بصر عبرت آرل بخيولها العملاقة وفرسانها المسيحيّين في أزيائهم السوداء وبيارقهم ذات الصلبان الذّهبيّة، تحت نجوم ذلك الليل الفرنسي ورأيت إيرينا مافرودين المترجمة و الشاعرة الرّومانيّة في صورة السيّدة الكرديّة جالسة في القاعة الكبرى وسط صخب الطّيور في الخارج وتحت ضوء الكهرباء وهي ترثي رومانيا كما عرفتها هي، رومانيا التي لم تعد سوى صورة مريرة في الذاكرة... بعد أن هدم تشاوسسكو بيوتها و كنائسها القديمة

***

هل آرل مدينة واقعيّة أم هي حلم، لا، هي مكان رمزي لطقس عبور كامل في حياة هؤلاء الناس الذين جاءوها من أماكن بعيدة واستوطنوها؛ من تركيا وأميركا جنوبها و شمالها وألمانيا، ورومانيا واسكندنافيا، أذكر مايكل الرّسام الأميركي الذي تلقاه في أزقة آرل وعطفاتها على دراجته وهو في التسعين من العمر؛ هل هي إيثاكا عصريّة، والوصول إليها وإدراكها هو وصول وإدراك لنقطة ما في الذات، في الدّاخل؛ فالذهاب إلى آرل هو مغامرة داخليّة أيضا، مغامرة الوصول والتكشّف على ذاك الجانب من الذات الذي يظلّ عصيّا عن الظّهور، وإذا ما تبدّى يكون الإنسان قد عبر، وكأنّه قد مارس طقس عبور جعله في عالم آخر اكتسب فيه نضجا آخر؛ الذاب إلى آرل مكابدة جغرافيّة وروحيّة في الآن، وهروب من مأساة وقعت في مكان ما.. وهنا يتمّ التطهّر منها برفضها أو تقبّلها بتمثّلها واستيعابها؛ أم هي رياح الميسترال التي تبعث الجنون والتي تهبّ على المدينة في شكل دوريّ.. واذا ما هبّت فهي تتغلغل في طوايا نفوسهم حتّى أحلامهم، وتفعل شيئا في هويّتهم، أم هي الرّغبة في الضياع كما ضاع من قبل فان غوغ، هنا اكتشف الشّمس في أعماقه و هنا أضاع عقله ورقد في مستشفى الربّ الذي إذا مازرت باحته وجدت الحديقة وقد أعيد تنسيق زهورها كما كانت قبل قرن من الزّمان، بيد أنها لم تعد تنتمي إلى عالم فان خوخ الكوكبي المتوتّر بل هي صورة ميّتة ، مسخ لا تنتمي إلى عالم الطبيعة ولا إلى عالم الفنّ، صورة ميّتة كأشياء المتاحف.
لعلّه نداء فان غوغ الصامت الذي مايزال يتردّد سرّا في جنبات المدينة... نداء، لا تسمعه سوى طيور الرّون أو الرّضيع الذي لم تنبت أسنانه بعد.

عن (ايلاف)