خالد النجار

خالد النجار وتتذكر سان استيفانو، سيدي بشر، سيدي جابر، محطة الرمل، الإبراهيمية، الشاطبي، المنشية، المكس. تتذكرها في ذلك الليل، وأنت تتطلع إليها تمر أمامك مثل شريط سينمائي ملون من خلال زجاج نافذة مترو الإسكندرية ذي الطابقين، وهي غارقة في أنوار الكهرباء البرتقالية مثل عيد، مثل حفل استعراضي يعبر أمامك لا ينتهي.
وتتذكر مقهى بترو وقبله برج العرب.. وبائع العاديات اليوناني في الشارع الجانبي الضيق، في ذلك الدكان المستطيل والمظلم، حيث تتكدس تحف أثرية مختلفة: شمعدانات فضية، كؤوس كريستال، أباريق نحاس، ساعات جيب مشغولة بالفضة، حُقق نَشاق، كتب صلوات مسيحية لاتينية ويونانية ذات تجليد قديم، وأيقونات قبطية وبيزنطية شرقية مذهبة ذات تعبير شعبي كتلك التي تلقاها في الكنائس الصغيرة بالقرى اليونانية.. صور فوتوغرافية بالأسود وبالأبيض تعود للعشرينات، مات أصحابها؛ منها صورة بلمعة بنية من الزنك للملك فؤاد وهو جالس على العرش ببزته الملكية المذهبة، وبنياشينه، وشواربه الكبيرة.. لوحاتٌ رسوم زيتية بأطر مهلهلة، وأخرى بلا أطر يعلوها الغبار تمثل مشاهد طبيعية: شاطئ النيل، ونخلتان فارعتان تمتدان في ذاك الفضاء المصري المخضر ما تكادان تبينان في غبار الأفق البعيد، مشاهد محلية لرسامين هواة مجهولين من أوائل القرن.. تماثيل برونزية صغيرة وكبيرة؛ منها تمثال امرأة ماسكة بشعلة من بلور أبيض، وشعرها متهدل من على كتفها الأيمن متموجا حتى خصرها شبيهة بأحد بطلات بوتتشيللي في لوحته استقبال الربيع.. بطاقات بريد قديمة مصفرة تمثل مشاهد للقاهرة الإسماعيلية : صور دار الأوبرا القديمة، القلعة، وجامع السلطان حسين، صور قوارب نيلية بصواريها النحيلة العالية، و بنونيتها النوبيين السمر الطوال ذوي الوجوه التي نحتتها رياح النيل منذ آلاف السنين، تلك الوجوه التي خلدها راينر ماريا ريلكة في رحلته النيلية أوائل القرن العشرين.
أكتوبر 1911 كتب إلى كلارا :’’ اليوم الأول من إبحارنا على النيل رسونا منذ الظهيرة أمام البدرشين ‘‘

كان طه حسين أيامها يكتب رسالته عن أبي العلاء المعري لم يكن يدري أحدهما بالآخر... اشتركا في الزمن وكان لكل لحظته الروحية طه حسين مشغول باستيعاب الديكارتية و ريلكة يختلف على رودان ويستأنس بأشعار بول فاليري زمن الحقبة الجميلة ثقافة La belle époque

آه أي متحف واقعي وخيالي هي هذه المدينة!!!
الإسكندرية...

وأنت تتطلع إلى موسى سيف النصر باشا في تلك الظهيرة، في ذلك الخريف البعيد على سطيحة شقته بسيدي بشر بالإسكندرية، أمام البحر، وهو يستحثك لتقرأ عليه مزيدا من قصائد بول فاليري، متذكرا أيام شبابه في فرنسا بين الحربين.
كانت أمواج بحر الإسكندرية البيضاء تأتي من البعيد متتالية لتصطدم بحجارة الكورنيش محملة بفراشات، وبأزاهير وورود اليونان. وكانت تتماها في مخيلتك بأمواج فاليري في قصيدته المقبرة البحرية، تلك الأمواج الإغريقية.. وببحر الظهيرة الأزرق الشاسع، الذي أشعلته الشمس، والذي يرف فوقه صمت الآلهة.. وتردد في سرك:

Ce toit tranquille où marchent les colombes
Entre les pins palpitent, entre les tombes
Midi le juste y compose de feu
La mer, la mer toujours recommencée
Oh ! Récompense après une pensée
Qu’un long regard sur le calme des dieux

هكذا يتداخل النص بالواقع، ويتداخل المتخيل بالمعاش، فلا تدري حدودهما؛ ولعل الخيال هو الحقيقة لأنه أسطوري، والأسطورة هي الحقيقة التي لا نستطيع تغييرها، أو لا نستطيع لها دفعا كما تقول العرب. الخيال والواقع هما في الأخير، شيء واحد في التجربة الإنسانية. ولكن، لا قوارب هنا ترف بأشرعتها البيضاء كالحمائم بين أشجار الزان والصنوبر، وبين قبور الرخام الكاثوليكية الكئيبة، تحت سماء فرنسا؛ إذ لا صنوبر، ولا مقبرة بحرية هنا. ليس ثمة سوى ترجيع أمواج هذا البحر القديم في عودها الأبدي وهي تضرب حجارة الكورنيش الذي شيده إسماعيل صدقي باشا في عشرينات القرن، كما لابد أنها تضرب الآن ضفة المتوسط من الناحية الأخرى؛ أو أنها وبلغة الأندلسيين تضرب العدوة الشمالية لبحر الروم، تضرب سور ومنارة وميناء مدينة سيت الفرنسية، حيث ينام بول فاليري نومته الأبدية في المقبرة البحرية؛ وحيث يتماها مطلق الموت بمطلق الشعر الصافي.

أجل لقد اختفى ذاك الجيل الغربي من الشعراء، والفنانين جيل : بول فاليري، سان جون بيرس، بول كلوديل، ريفردي، جاك ريفيار، بول ليوتو، جورج تراكل، هرمن هسة، جوزيب أنغرتي، مودلياني وكليمت، ودياغيليف، ونيجنسكي المختبل، وإيزادورا دنكن الراقصة الذهبية النازلة لتوها من قمة الأولمب، و..و.. و.. والشاعر الشيخ قسطنطين كفافيس..ذاك الجيل الذي ظل يحتفظ في نصوصه، وفي أعماله بنكهة القرن التاسع عشر.. جيل كان ما يزال يصدي تلك الروحية البطولية، وتلك الصوفية المختبلة التي أنجبت كل مرضى، وكل عصابيي آخر القرن التاسع عشر : هلدرلين، نيتشة، رامبو، فان غوغ، بول غوغان، استيفان مالارمي، وليم بليك، إلى أنطونان أرتو ولو أنه من كتاب القرن العشرين فهو من تلك الأرومة، و لا ننسى هنري ميللر القديس الساخر. والقائمة طويلة، ليحل محله اليوم هذا الرهط المعاصر من الشعراء؛ الذي إذا استثنينا منه أسماء معدودة ـ وصل عدد الشعراء اليوم في فرنسا وحدها إلى عشرين ألف ـ فإن أغلبهم كتاب محترفون، تقنيو نصوص، ومفتعلو أزمات ميتافيزيقية.. شعراء استبدلوا العالم بالكلمات، واستبدلوا الوجود الذي هو في جوهره تراجيدي بالبلاغة الخاوية. ومارسوا غموضا نافلا، وسريالية نافلة، وتحققت نبوءة هيدغير: بدأ العالم ينسحب إلى ظلام التقنية، التقنية التي، ومنذ سنوات بدأت تغزو كل مجالات المعرفة الإنسانية .. حتى الفنون، لتحل محل الثقافة ..

لعل الإنسانية وفي غياب عنها، وخارجا عن وعيها بدأت تنحدر وبسرعة فائقة نحو عصر وسيط جديد..عصر لا ندرك كنهه ولا حقيقته الآن فالتاريخ متسارع الخطو حتى أننا لا ندرك اللحظة التي نحن بصددها إلا بعد أن تكون قد عبرت، وحتى عندما نستوعبها لا يكون ذلك إلا من خلال ذهنياتنا وتصوراتنا القديمة.. يعني هناك وباستمرار شيء من اعتداء الماضي على الحاضر وبالتالي على المستقبل..
***

ظل الباشا يستحثني على القراءة. قرأت عليه مقاطع من ديوان نرسيس، وهو الكتاب الوحيد الذي كنت أحمله معي في تلك السفرة البعيدة.. كان جالسا تحت تلك الشمس السبتمبرية في سطيحة الشقة التي تقع في الطابق الرابع من تلك البناية التي على الكورنيش، كان يتحدث وكأنه يمارس مونولوغا بصوت مرتفع.. يحدثني وكأنه يحدث نفسه بنوع من المحاسبة المرة، كان يستعيد ماضيه عندما كان طالبا في جامعة مونبيلييه قبل الحرب العالمية الثانية، ويستذكر لغته الفرنسية، ثم يعود إلى الحاضر، في رثاء لا ينتهي لما وصلت إليه مصر من درك من جراء الاستبداد.. فأتوقف عن القراءة مصغيا إليه، مقارنا بتونس حيث نفس الاستبداد والحكم الفردي في أبشع صوره. فإذا كانت الدكتاتوريات الغربية عرفت الشكل الشمولي اللايكي مع ستالين وهتلر اللذين أسسا النظام الشمولي الحديث، فدكتاتورياتنا استندت، واستفادت من إرث ديني قبلي لا مكان للفرد فيه.. وفي هذا المنحى أمر بورقيبة العلماني اللايكي بأن توضع باسمه مدائح وأذكار الرسول أو ما يسمى في الشرق العربي بالموالد.
ثم كان الباشا يعود ويقول لي مرة بعد أخرى اقرأ، واصل، وأواصل القراءة؛ ثم أراه كلما توقفت عن القراءة بين الفواصل، أو لأرد النفس أراه بشكل جانبي ملتفتا إلى البحر يتطلع في البعيد. وكأنه يتأمل أيام حياته الفائتة، أو يتأمل ذاك الحلم اليوطوبي لمثقفي الثلاثينات، يتأمله وقد انهار إلى الأبد بمجيء طبقة العسكر التي أتت على الأخضر واليابس، أو أسمع من حين لآخر جملا متقطعة تروي طرفا من حياته السياسية قبل انقلاب 23 يوليو العسكري على العائلة الخديوية التي صاغت مصر الحديثة..

***

قال وهو يستعيد أيام شبابه في فرنسا : كنت درست الحقوق في جامعة مونبولييه
عقبت: هناك درس طه حسين أيضا لفترة من الوقت فيما أعلم..
كان التغيير يعتمد أيامها على النخب المثقفة، أو ما يسمى في إيديولوجيا اليسار بالطليعة والإنتليجنسيا، تلك النخب التي وصلت اليوم إلى لحظة الاستقالة التامة وحلت محلها نخب ذات خطاب ديني شعبوي، يعتمد استيهامات دينية استولت على كل المجال الدنيوي، نخب تعيد انتاج المخيل الشعبوي وتسوقه من جديد إلى الشعب.. وتدعي أنها كاريزما

وعدت إلى البعثات العلمية إلى أوربا، إلى رافع رفاعة الطهطاوي، إلى صلاح الدين بوشوشة الذي أرسلته دولة الباي إلى لندن قبل أن تصير باريس قبلة الانتلجنسيا التونسية، وذلك في أول بعثة تونسية قبل انتصاب الحماية الفرنسية، وعاد ليؤسس جريدة الحاضرة في تونس أوائل القرن العشرين. بقيت من صلاح الدين بوشوشة صورة شمسية بالمونوكل، وبشواربه المحفوفة، والملامح الصارمة شبيها بجرجي زيدان. وعدت إلى سليمان الحرايري، وعلي باش حانبة، والشيخ محمد السنوسي معلم الأمير الناصر باي، الذي كان قد التقى في شبابه الشيخ محمد عبده في زيارتيه إلى تونس، فتشرب الوطنية وتعلق بالإصلاح، وعندما اعتلى سدة الحكم في العشرينات أذن للحزب الحر الدستوري التونسي بالعمل، وترك هذه الروح في ابنه الملك المفدى منصف باي الذي رفض الاستعمار فعزلته فرنسا ونفته إلى الجزائر أولا ثم إلى مدينة بو ليعود إلى تونس مسجى في باخرة. وإلى أحمد شوقي الذي درس الحقوق أيضا في فرنسا مثل الطهطاوي.. وكان أحمد شوقي معاصرا لبول فيرلين، ورامبو، ولكنه لم يهتم بهما، لم يقرأ معاصريه، بل لم يقرأ حتى استيفان مالارمي، ولا بول فاليري قرأ فيكتور هيغو، الذي كما يقول عنه حافظ إبراهيم كاد نجمه في الشعر يعلو نجم العرب.. وكما فعل من بعدهما جبران فقد جلس جبران يوما أمام وليم بطلر ييتس ليضع له بورترييه، ولكنه لم يقرأ، بل لم يستسغ شعر ييتس، لقد توقف مع وليم بليك وصوفيته المسيحية.. وفي الرسم رفض جبران المدارس الحديثة من تعبيرية وسريالية، لقد ظل مشدودا إلى الفن الكلاسيكي، المدرسي، مشدودا إلى ظلال وأضواء الأيقونة الايطالية.

واستمر سيف النصر باشا يروي قصته في شكل مونولوغ درامي : عندما عدت من فرنسا أسست في قريتي ناد للأدب، ودعوت مرة حبيب بورقيبة للنادي.. عرفت حبيب بورقيبة عندما كان لاجئا هنا في مصر. "وجاء إلى النادي وألقى محاضرة "
وصمت ثانية كأنه يسترجع تلك السنوات القديمة، وهو يتطلع إلى البحر في تلك الظهيرة السبتمبرية الساطعة من سطيحة شقته في سيدي بشر، في تلك البناية التي تقع أمام سراي أسمهان.. وظللت بدوري أتأمل وجهه.. تلك السحنة الرصينة، على نكهة رومانسية تجدها في بورتريهات مثقفي العشرينات أولائك الذين تربوا، وحصلوا على تكوينهم بعد الحرب الأولى.. أولائك الذين نشأوا في مجتمع متناغم مع نفسه، بقيمه العريقة.. بنبل أرستقراطيته المدينية والبدوية ونبل شعبه.. وتخرجوا من الزيتونة، والأزهر، والقرويين وجامعة فؤاد الأول، والجامعة الأميركية في بيروت، أو جامعة الجزائر على أيام محمد بن شنب وأحمد توفيق المدني ومحمد تيزوت، ومن جامعات اسطنبول وطهران ثم ذهبوا إلى الجامعات الغربية العريقة.. إلى الصوربون وكمبريدج وأكسفورد. لقد عاشوا حقبة الاستعمار، والتحرر، وليبيرالية الحكم الملكي بأحزابها المتصارعة وبرلماناتها وبصحافتها الحرة. ثم قال أيضا وكأنه يحدث نفسه: كنت سيناتور في عهد الملك فاروق.. وكان قد أعادها مرات ونحن في الطريق على الكورنيش إلى بيته. ثم أردف : كنت أدعوا لدكتاتور عادل يحكم الشرق الأوسط، يحكم مصر أكبر دولة في الشرق الأوسط.. وقد كتب عني العقاد مقالا.. "
و بعد هنيهة صمت انطلق فجأة، وفي صوته حدة وأسف ومرارة:
" ولكن عبد الناصر وجماعته دول حرامية.. لقد أخذوا ممتلكاتنا، وأموالنا، ولكن الواد أنور السادات وعد بإرجاعها، وبتسوية الأمر.

***
والآن، وبعد سنوات طويلة وأنا أكتب هذه الصفحات ماتزال صورة سيف النصر باشا بتفاصيلها، ما أزال أراه واقفا بقامته الفارعة أمام مقهى بترو، بكسوته البيج، وقبعة القش البيج أيضا؛ وحذائه الأبيض وسيما كأحد أبطال الأفلام الاستعراضية الأميركية، يقف إلى جانب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومخرج سينمائي لم أحتفظ باسمه.. ورجل آخر لا أدريه.. كانوا مايزالون يتبادلون آخر الكلمات وهم يودعون بعضهم على الرصيف.. ورأيت الحكيم يبتعد بعصاه وبالبيريه.. وكنت أقف قليلا على حدة من شدة الخجل؛ ثم سمعت، وكأن لست أنا الذي سمع الرجل يقول لي:
ـ تعال يابني
قالها بذلك الشكل الودود الذي لا أعرف لهجة تعبر عنه بأكثر مما تعبر عنه اللهجة المصرية.. ولكن، كيف دعاني، أي مغنطيس أو أي كيمياء غامضة تتحكم في كهربية اللقاء الإنساني.
وأردف تعال معي إلى البيت


***
بدأ الأمر صدفة في تلك الظهيرة..
لقيته في مقهى بترو، كنت أبحث عن صلاح عبد الصبور الذي قال لي قبلها بأشهر وهو يغادر تونس إذا ما مررت بمصر في الصيف تجدني في الإسكندرية، في مقهى بترو؛ وذهبت إلى الإسكندرية في سبتمبر، وإلى مقهى بترو أسأل عن صلاح عبد الصبور فدلني النادل على الركن الذي يجلس فيه فإذا بي ألمح توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وسط نفر من سن متقدمة تبدو عليهم مخايل النعمة؛ تعرفت عليهما من النظرة الأولى.. فقد كنت أعرفهما من خلال صورهم على المجلات، كانا يجلسان فوق كرسيين من السعف المشغول يحيط بهما أفراد لم أتعرف عليهم؛ وبصعوبة تقدمت مرتبك الخطى إلى حيث يجلسان في صدارة القاعة، ولا أدري من سألت من الجالسين بعد التحية..
أشار لي توفيق الحكيم بيده أن اجلس وكأنه لا حظ اضطرابي فجلست بصعوبة على حافة الكرسي وكأني أعتذر لمجرد وجودي في العالم قلت بمجرد أن جلست أني جئت من تونس، وأني ذاهب إلى دمشق، وأن صلاح عبد الصبور طلب مني أن أمر عليه هنا.
قال أحدهم عاد صلاح منذ أسبوع إلى القاهرة.
ولا أدري كيف سألني توفيق الحكيم ماذا أكتب؟ قلت أكتب شعرا.
والتفت إلي الرجل الصاخب؛ المخرج السينمائي الذي كان يجلس على يساري وقال مستفهما ومازحا:
- ترتكب القصيدة؟
قلت بخجل كأني أستخرج الكلام استخراجا نعم، ولكنه التفت إلى نجيب محفوظ وهو مستمر في حواره السابق يقول بصوت مرتفع بل صارخ:
- هذا يا أستاذ نجيب جواب المدرسة الواقعية، جواب المدرسة الواقعية.
بقيت في مكاني، وكل ما أذكر أن توفيق الحكيم قال متجها لي بالكلام
- هنا ما زال الكلام ممكنا أما الشام خد بالك
ولا أدري لماذا قال لي هذا، ولا أدري ما هو السياق الذي قاده إلى هذا الكلام، ربما كان هذا حوارهم قبل أن أقتحم عليهم مجلسهم، أو هو الحضور الدائم لموضوع حرية التعبير في خلفية وعي المثقف حرية الكلام أيام عبد الناصر تلك. إن وضع هؤلاء المثقفين صعب بين عصر ليبرالي عاشوه زهرة شبابهم في ظل الملكية، ومناخات تطلع إلى حضارة الغرب كمثال وقدوة للنهضة؛ ذاك التطلع الذي دشنه رافع الطهطاوي، وإيديولوجية الخديوي إسماعيل؛ إديولوجية مصر البحرية المتفتحة على المتوسط. اليوم ثمة انكفاء قاري، وعود إلى قيم القرية، وهي كلمة لا تعني شيئا.

***
وذهبت مع موسى سيف النصر إلى بيته.. سرنا على الطوار في ذلك الشارع الموازي للبحر، شارع الكورنيش؛ ولا أدري هل مررنا ببرج العرب أم لا.. كان الشاطئ على يسارنا مكتظا بالمستحمين، والشمس في قلب السماء ترسل أشعتها على الإسفلت والشارع مكتظ بالمصطافين، وعلى اليمين تنتصب العمارات الشاهقة بشرفاتها المفتوحة على البحر.
في البيت قدمني إلى أبنائه، واتجه إلى أحمد وكلفه الاهتمام والعناية بي. كانت هناك امرأة ضيفة العائلة.. واجتمعنا على طاولة الأكل.. صالون كبير، وقاعة أكل بأثاث لويس الرابع عشر، أو السادس عشر.. أرائك خشبية وثيرة مشغولة بالذهب. كان الكرسي الذي جلست عليه للطعام وثيرا، ولكن غير مريح للأكل. كان على الطاولة عدة مآكل.. وقرب مني طبق الملوخية وهو يقول لي اسمها الحقيقي الملوكية.. لقد أدخلها الفاطميون إلى مصر.. هل هي لديكم في تونس
قلت أجل بما أن الفاطميين جاؤوكم من عندنا، ولكن يقع إعدادها بشكل آخر مغاير.. وتذكرت خالي أيضا كان كلما يراها أمامه على المائدة يذكرنا أن اسمها الحقيقي هو الملوكية لأنها طعام الملوك.
بعد الغداء ذهب الباشا ليستريح وتركني في عهدة ابنه أحمد. أخذنا المايوهات والمناشف وذهبنا إلى الكبائن في المنتزه. المكان يضج بالمصطافين، مايوهات وألبسة ملونة كما في الأفلام الاستعراضية المصرية، جموع تتحرك تحت أشجار الكالبتوس العملاقة كانت أجواء الشارع ما تزال تعبق بروائح الستينات. صعدنا إلى إحدى الكبائن وبسرعة لبسنا المايوهات و نزلنا إلى الشاطئ بدا لي الرمل أصفر ضاربا إلى البني
والبحر أزرق غامق يمتد إلى الأفق وما أن جلسنا على الرمال حتى قال لي انظر هناك وأشار بذراعه اليمنى إلى البعيد
- أرأيت تلك الفيلا والثانية التي جنبها على حافة الماء؟ شايف كويس؟ فلل لوحدها هناك.. هما بيتي ناصر وعبد الحكيم عامر.
وأظنه أردف قائلا هناك في رأس البر. أحسست في كلامه بشئ من نقمة، واحتقار لهذه الطبقة الجديدة التي أزاحتهم عن السلطة..
ظللنا في البحر كامل بعد الظهر؛ كان المساء قد بدأ يلف العالم وبحر الإسكندرية يميل إلى الدكنة عدى رؤوس الأمواج الفضية، والشاطئ يصير خاليا، وبعض الضجيج الخافت للجموع يأتي من المدينة مختلطا بهذه الريح الخفيفة وبظلال الخريف المتعثر. قلت في نفسي ها أنا في الإسكندرية؛ استبد بي الإحساس بالمكان، لم اشعر بذلك وأنا أغادر السيارة وركبها الخرافي أول الطريق الزراعي، وأنزل لذاك الحي المترب من مشارف الاسكندرية، أذكر دكان الحلاق القديم، والمكوجي وعربة الحنطور التي يتكدس فوقها اللحم القادمة من المسلخ والشمس التي تملأ الشارع الملون، بدا المشهد وكأني في إحدى مدن الجنوب في أميركا اللاتينية، و بعدها عندما ركبت الباص الذي مر بالساحة التي يتوسطها تمثال محمد علي بك الكبير فوق أرضية حجرية تحيطها سلاسل غليظة، تمثال على النمط الإيطالي.. ولا عندما عبرت تلك الشوارع التي لها فتحات على البحر في ذاك الباص الذي حملني لسيدي بشر.
عدنا إلى البيت بطريق الكورنيش، كانت الاسكندرية أول مدينة أراها بكل هذا الإكتضاض. في البيت أعاد علي الباشا نصحه فقد شعر باضطرابي الداخلي ورهبتي من السفر.
- لا تكن عصبي يابني، اهدأ. هتركب القطر اليوغسلافي، وهتنزل في محطة باب الحديد ومن هناك روح رأسا إلى ميدان التحرير وإلى شارع طلعت حرب وهناك فندق غراند أوتيل، هو لوكندة كويسة، أنا دايما بانزل فيه عندما أروح للقاهرة

ودعني الباشا وأبناؤه بكثير من اللطف، وأنا أغادر البيت ظل يكرر حتى آخر لحظة وهو بالباب :
- لا تكن عصبي، لا تكن عصبي أعرف، الإنسان يصير عصبي اثناء السفر، لا تنس تذهب رأسا إلى غراند أوتيل في شارع طلعت حرب، لقد كتبت لك كل شي على الورقة، عندك عنواني ورقم التلفون إذا ما طرأ أي شيء.

ها أنا أغادر الإسكندرية، بالليل وأستقل القطار اليوغسلافي كما يدعونه، وها الرجل القبطي الشديد السمرة بملامح الرجل الأبيض يجلس إلى جانبي في ضوء نيون القطار الخافت مثل مومياء وسط الظلال لا يكاد ينبس بكلمة، والأشجار العملاقة في الخارج تزيد الليل دكنة، وتزيد إحساسي بالغربة وأتطلع من النافذة فلا أرى سوى تراكم طبقات الليل.. ظل القطار ينهب الليل كحيوان اسطوري، وأظن أني سمعت كلمة دمياط، لا أذكر هل توقف هناك أم هو قطار لا يتوقف في المحطات.. ولا أدري كيف عرفت أن الرجل قبطي، وكانت أول مرة في حياتي أرى فيها مسيحي يتكلم عربي، فنحن في شمال افريقيا صرنا عربا عن طريق الإسلام لذا فاللغة و الدين هما لدينا متماهيان. وبدون مقدمات، ولا أدري ما السبب قلت له
- كيف هي علاقاتكم بالمسلمين
أجاب باقتضاب
- اسأل ربنا
ثم عاد إلى صمته الكسول مثل آلهة من الشمع.
***

الآن ما أزال أستعيد شذرات من تلك السفرة .
السيارة التي عبرت بك الشريط البحري الليبي، من طرابلس إلى الإسكندرية عبر العلمين.. على يمينك القرى الليبية المتناثرة في الأصفر، صحاري لوبيا التي جاء ذكرها في التراث اللاتيني الروماني كأرض أسطورية تسكنها الحيوانات العملاقة، والوحوش الخرافية الضارية، شئ في المخيال الغربي شبيه بصحراء الربع الخالي في المخيال العربي.. أرض المخلوقات العجائبية التي غذت المخيلة الرومانسية. وقد جاء ذكرها في تاريخ هيرودوت الذي استفاض في وصف أقوامها : ألسنتهم، عباداتهم، وأطوارهم، واستعادها الرومانسيون، استعادها ادغار آلان بو في القرن التاسع عشر في قصصه المرعبة
. و ظلت هذه الصحراء إلى اليوم قطبا جاذبا فالليبي اليوم هو صحراوي في شخصيته وصياغته أكثر منه متوسطيا.. من مدينة قابس التونسية إلى العلمين تجد الناس ملتفتين إلى الصحراء بنمط عيشها، وقيمها وقد أعطوا ظهورهم للبحر المتوسط.. إنهم صحراويو المتوسط.. ليبيا المنكفئة إلى الصحراء هي نقيض اليونان المرمية في البحر المتوسط من خلال مئات الجزر المبثوثة في هذه المياه المضيئة.
وقال لي الرجل العجوز الثمانيني الذي يجلس إلى جانبي في السيارة التي أقلتني من طرابلس إلى الإسكندرية وهو يحادثني لتقصير الطريق: " هل تدري أن بورقيبة الحقيقي مات، وأن بورقيبة هذا الذي يحكم تونس ليس هو بورقيبة الذي تظنون.. هذه العائلة ليبية أصيلة طرابلس.. وهذا الذي يحكم تونس ليس بورقيبة الحقيقي، بورقيبة الحقيقي مات"
ولم أعارضه، فهذا الرجل الثمانيني يعيش الواقع كخرافة، يتداخل لديه العالم العيني بالعالم السحري، وحياته ثرية كنص أدبي لا ينتهي..
وبعد سنوات طويلة أدركت حقيقة كلام الرجل فبرقيبة تونس لا يمت بأي صلة لعائلة بورقيبة الليبية...
وقال لي أيضا عندما لحظ علي شيئا من العناء والتعب أنه عبر هذه المسافة من طرابلس إلى بنغازي راجلا عديد المرات، فكيف تتعب وأنت في هذه السيارة الفارهة ؟! الطريق كانت طويلة، مملة. سرنا في الأول ونحن نغادر طرابلس في طريق إسفلتية، ضيقة متعرجة، يبدو أنها الطريق التي عبدتها فرق الهندسة في الجيش الإيطالي أو الألماني إلى أن وصلنا إلى مصراطة حيث كنت تمر على قرى ذات بيوت طينية وأسوار واطئة تلف حدائق وبساتين نخل تشقها دروب رملية ضيقة. واحات منعزلة في الصحراء تتخللها قباب هي مراقد أولائك المتصوفة السواحين الذين هربوا إلى هناك على امتداد القرون، قباب ماتزال شموعها تشتعل في ليل الصحراء؛ واحات تبدو من بعيد بحدودها الضبابية في الأفق وكأنها بطاقات بريد.. من هنا كانت تعبر قوافل الأندلسيين والمغاربة إلى مصر والمشرق، قوافل تجار وحجاج وطلبة علم ودراويش من أهل السياحات.
في الطريق لمحت البوابة التي كانت تشكل الحد بين مملكتي طرابلس و بنغازي. كانت على يسار الطريق مهملة لم تعد علامة، أيضا شاهدت على هذه الطريق بعض بنايات قديمة شبه خربة ذات معمار إيطالي يبدو أنها محطات تزود لجيش البر تعلوها كتابات لاتينية لم تعد تتبين
وصلنا أول الليل إلى بنغازي، بدت لي مدينة كئيبة، ذهبنا إلى فندق شعبي أشبه بالخان قرب ساحة المدينة حيث نمنا بضع ساعات لنستأنف المسير في الصباح. قبل المغادرة خرجت أعاين المكان، سرت في الشوارع المتربة المحيطة، كانت ثمة أروقة وأقواس تحيط بالساحة، تجار وباعة وحمير تملأ المكان، بوابات دكاكين زرقاء باهتة وغبار يلف المكان شيء شبيه بمشهد مدن الجنوب التونسي، تلك المدن الصحراوية التي هي محطات قوافل أكثر منها مدن.

تلك صحاري ليبيا، أو لوبيا كما جاء ذكرها في المدونات الرومانية، تلك صحاري المتوسط، أرض كانت في يوم من الأيام جزءا من ممتلكات الأمبراطورية الرومانية قبل أن تدخل في الحيز الجغرافي الإسلامي.

عدنا بالسيارة إلى تلك الطريق الطويلة الصفراء الروتينية المملة، كانت خطوط البترول تتراءى في البعيد، لامعة في صهد الشمس، وكنت تشهد من حين لآخر قبابا نحيلة في البعيد لأولئك المتصوفة الذين اختاروا هذه النواحي القصية والمنعزلة. هنا جاء شيخ الطريقة السنوسية في القرن التاسع عشر ليستوطن هذه البلاد، جاء من قسنطينة ليؤسس مملكته هنا.. وصلنا إلى السلوم نقطة الحدود المصرية عند الغروب كانت هناك شمس حمراء تختفي في الأفق، والعسكري يأخذ الأوراق بحركة سريعة ويبسطها على مقدم السيارة وراديو السيارة الليبية يزعق بأغنية سيد درويش
سلم علي
لما قابلني و سلم علي
ولدي يا ولدي

والركب في حركة فيها شيء من الابتهاج بالتغلب على هذه الصحراء التي عبرناها، وكأننا عبرناها على ظهور الإبل، أو هو الابتهاج بالوصول إلى أرض مصر
و السائق الليبي يذهب إلى مؤخرة السيارة يختفي للحظة ثم يعود بعلبة سجائر بيضاء يرشي بها العسكري المصري، الذي يطلب زيادة..
وظللت ذاهلا عن هذا العالم أجيل النظر في هذه الفلاة الموحشة..

غادرنا بوابة السلوم وانحدرنا في الأراضي المصرية، كان الليل قد سقط واشتد الظلام وكانت الطريق رديئة مليئة بالحفر والمطبات، وكانت الحواجز العسكرية تتالى والسيارة تمضي بتؤدة ونحن نهتز داخلها كما في مركب، نلمح ضوء الحواجز الأحمر ينوس من بعيد كما لو كان ضوء مراكب صيادين وسط الليل الكثيف الذي يلف القفر إلى أن دخلنا مرسى مطروح المتربة: شوارع شبه رملية يغزوها الغبار، الساحة، ورصيف المقهى باحة شاسعة تكتض بالرجال السمر الجالسين بهدوء بجلابيبهم الطويلة مهومين على كراسيهم، شبه نعسانين والأراجيل قرب أفواههم تحت أشرطة الأضواء الملونة و أم كلثوم تصدح في الأبواق أروح لمين..

وبعدها محطة العلمين، وتلك السيارات والمعدات العسكرية التي تتراءى من بعيد، هنا وهناك غارقة في مساحات الرمال الممتدة حتى الأفق شاهدة على تلك المعركة الضارية، والفاصلة بين رومل ومنتغمري، والتي حددت مصير الحرب العالمية الثانية لصالح الحلفاء بل صورة العالم كما نشهدها اليوم، هي المعركة التي حملت تشرشل وستالين وترومان في قطار الشرق إلى يالطا لتحديد الجغرافيا السياسية للعالم كما نشهدها اليوم.
ونزل الركب من السيارة، واتجهنا إلى الاستراحة، بناء كولونيالي أبيض وشرفة يلفها حاجز كما لو كانت فيراندا ، و هذا النادل الأسود النحيف، لا أدري أهو صعيدي أم سوداني يأتيني بسندويتش جبنة
ملئ بالدود، وفي البعيد في الفضاء الأصفر

***
بعدها بسنوات ذهبت إلى القاهرة بالطائر، و اتجهت مباشرة إلى ميدان النعام لألتقى صديقي محي الدين اللباد، في تلك الفيلا التي تعود للعشرينات، ثمة بطاقة بريد تصور ميدان النعام أيام عزه، ولكن هذا التقابل واضح في كل الميادين في السياسة و الاجتماع، واللبس وأساليب العيش.. كانت القاهرة التي هي مخبر كل التحولات في بقية العواصم العربية قد مرت في العشرين سنة الأخيرة بعدة تغيرات أهمها حالة الترييف الكبرى، وتدمير البنية الكولونيالية في الإدارة والمعمار، والعمران وتعليم اللغات الأجنبية..
***
قال لي حسن فتحي المعماري المصري الذي أمضى شبابه في الجامعات الانكليزية، و يدري ما معنى الحداثة المعمارية و العمرانية عندما سألته عن القاهرة قال
- أنا لا أحب هذه الحداثة المعمارية التي يدعونها، أنا أسكن بيت في القلعة يعود إلى القرن السابع عشر..
كنت غرا لم أفهم ما يقصد في ذلك الوقت
***
كنت أمر في شوارع القاهرة الاسماعيلية بفلل إنكليزية وقصور خربة، كان الجروبي وبعض الفنادق ما تزال صامدة قليلا.. أخذني محي الدين اللباد إلى فندق مينيرفا بمصعده الخشبي، وأرضية غرفه الخشبية شيء شبيه بفندق الدار الذهبية، وفندق الكلاريدج في تونس، و فندق تونيزيا بالاص قبل أن يهدم في حركة تحديث بربرية، و ينهبوا أثاثه، حتى أحواض الرخام..
أجل ثمة حنين حضاري للحقبة الكولونيالية
وعدت إلى سنوات بعيدة في تونس .. عندما؛ وأمام إحدى الواجهات التي لم يبق منها شئ في الذاكرة، في شارع جول فيري.. لا أدري كيف تبادلت كلمات الحديث الأولى مع الرجل الطويل ذي السحنة الأوربية والشعر المتهدل على الجبين. كانت مدينة تونس في ذلك الوقت ماتزال تحتفظ ببعض نكهتها الكوسموبوليتة، تسكنها دزينة من الطوائف يهود قدموا من ليفورن في القرنين الثامن والتاسع عشر، إيطاليون ومالطيون وأسبان، وروس بيض كانت باخرة روسية قد أفرغتهم في ميناء بنزرت سنة سنة 1929، بقيت منهم غالينا الرسامة المائية و تلك العجوز التي كانت تسكن شارع ام كلثوم والمعمرة استاذة الرياضيات التي ماتزال تقيم في بنزرت إلى يوم الناس هذا، إضافة إلى الجالية الكولونيالية الفرنسية... وكانت هناك مكتبة صاليبا، مطبعة بونيسي.. شارع فرنسا، شارع الكوميسيون حيث يقع البيت الذي عاش فيه الزعيم الايطالي غاريبالدي.. الشوارع النظيفة، والبنايات بواجهاتها وتصاميمها الفرنسية والايطالية، والمقاهي الكولونيالية بطاولاتها وورودها على الرصيف، تحت السماء المتوسطية الزرقاء. والأشجار المتلاصقة على طول الشارع، من جانبيه، ومن وسطه تتخللها محلات بائعي الزهور.. وتغمر كل هذا العالم أضواء أنثوية ناعمة.. أضواء متوسطية تضفي على المشهد مناخات لوحات ماتيس، وبرنار بوفييه، وهناك المسرح البلدي بطرازه المعماري الإيطالي الفرنسي وملائكته المجنحة أولائك الأطفال السماويين، يطيرون بأجنحتهم الذهبية، وهم ينفخون في الأبواق، المسرح الذي على طراز الكوميديا دلارتي..والذي لعبت فوق ركحه فرق سلامة حجازي، وجورج أبيض، وبديعة مصابني.. و بعض أعمال أندريه جيد.. ثم، ولم أكن أدري هل كان الزمن آخر خريف أم في الربيع وأنا في سهومي الدئم أقف أمام فترينة .. وهذا الرجل الذي كان اسمه غيدو ميدينا، شاعر وكاتب من يهود إيطاليا الذين هاجروا إلى تونس في القرن التاسع عشر واستقرت عائلته في مدينة المنستير التونسية على ساحل البحر.. كان غيدو يعيش نوعا من الجنون الهادئ والغامض.. ولكن لم اكتشف ذلك وأنا أدخل شقته بشارع الجزيرة، ويقدم لي زوجته.. ولا من بعد، وهو في مكتبه يقرأ علي القصيد الذي كتبه لبورقيبة بمناسبة زفافه.. ثم قال لي وهو يقرب وجهه من أذني مسرا إنه كانت لديه علاقة مراسلة مع بول فاليري، وأن فاليري كان معجبا بكتاباته ثم قال إنه تناسخ لفاليري؛ وقال لي بصوت خافت، وبشكل سري وهو يقرب وجهه مني أن روح فاليري حلت فيه .. والآن إذ أسترجع صورته في الذاكرة بقامته الفارعة وطقمه الرمادي وخصلة شعره الرمادية التي تسقط على جبينه يقترب أكثر من بورترييه بول فاليري الذي زار تونس في الثلاثينات ورافقه غيدو مدينا أيام زيارته تونس، وعندما ركب الباخرة قافلا إلى فرنسا تداركه الباي ملك البلاد، و أوفد إليه رسولا يمنحه نيشان الافتخار وهو الوسام الملكي التونسي الذائع والباخرة تقلع.
بول فاليري الذي مارس مع أندريه جيد تأثيرا قويا على المثقفين في شمال افريقيا الفرنسية كما كانت تسمى في تلك الأيام، حتى أن كتاب محمود المسعدي حدث ابوهريرة قال ليس سوى صدى لكتاب بول فاليري : سهرة عند السيد تاست.

***

ومن، من عشاق العالم الكلاسيكي لا يحب الإسكندرية؟!!
وأحسست بالوقع الأسطوري للكلمة.. الإسكندرية، قرطاجنة، رومه، أثينا، القدس هذه المدن شبيهة بالنص الأدبي هي واقعية و خيالية في الآن.. هي متاحف مالرو الخيالية حيث تتكرر نفس الملحمة الحضارية برموز، وإخراج مغاير
هي الإسكندرية. أجل الإسكندرية الهلينستية الاغريقية اللاتينية المتوسطية العربية، الاسلامية، ثغر المتصوفة.
ومن، من عشاق العالم الكلاسيكي لا يحب الإسكندرية؟!! تلك المدينة المتميزة بقدر جغرافي خاص؛ قدر لا تشاركها فيه أية مدينة أخرى على وجه البسيطة. فهي الوحيدة بين مدائن العالم التى تقع على مفترق قارات ثلاث. وهي المدينة التى منحها الإسكندر المقدوني أو اسكندر ذو القرنين كما تقول العرب اسمه من بين أكثر من سبعين مدينة شيدها طوال فتوحاته، واحدة وراء أخرى.. وأطلق عليها جميعها إسمًا واحدا: الإسكندرية. كلها خربت، عادت إلى الطبيعة، وانتبذت بالنسيان؛ إلا الإسكندرية فقد صمدت حجرا، وجغرافية بشرية، وأسطورة، ونصا ديناميا كانت له أدوار أساسية في تاريخ الوعي الغربي العالمي. من عهد تعاليم المتحف؛ إلى المترجمين السبعين، الذين غيروا الخطاب الديني وذلك بنقلهم نصوص العهد القديم السامية إلى العالم الهليني، وإرساء - لمرة وإلى الأبد - مفهوم التوحيد المصري اليهودي في اليونانية مما سهل دخول المسيحية إلى أوروبا. إلى فيلون اليهودي الأفلاطوني الرواقي.. إلى أفلوطين الصعيدي، الذي هام وراء الحكمة الشرقية فصحب الإمبراطور جورديان في حملته ضد الفرس ولكن لم يلبث الإمبراطور الروماني أن هلك في العراق، ولم يتح لفيلسوفنا أن يتنسم رياح الهند الثقافية هنالك، فقفل هاربا عبر الصحراء حتى وصل إلى أنطاكية... إلى أنطونيو الذي غرته آلهة الحب الجنوبية عبر مياه البحر؛ فأبحر إلى الساحل الإفريقي... إلى كفافيس الذي منحها أسطورة حديثة: فقد أثرت أشعار كفافيس وجددت بدورها أسطورة المدينة. وهكذا، ولمرة أخرى في التاريخ حققت الإسكندرية وجودها الأسطوري ـ الحقيقي والذي لا يتم إلا من خلال النصوص : من رواية وشعر؛ لأن الجغرافيا التي لا يعبر عنها نص إبداعي هي مجال غفل، عماء طبيعي، هي الكون قبل الكلمة عندما كان خواء مظلما، وروح الله يرف عليه.
والإسكندرية الحديثة هي أيضا مدينة سيد درويش، وجورج شحادة، وجوزيب أنغرتي، ولورانس داريل، وجورج سيفيريس، ونيكوس نيكولاييدس، ونصوص الحكيم الأوتوبيوغرافية وميرامار نجيب محفوظ.. وقصائد يواخيم سارتوريوس. كل ساهم في في بعث الأسطورة الحديثة لهذه المدينة..بيد أن الباعث الأول لأسطورة هذه المدينة هو الشاعر الشيخ قسطنطين كفافيس الذي ولد فيها سنة 1863 وعاش أيام حياته في شوارعها هائما إلى الأبد.. إذ استمر بعدها في نصوص الآخرين، وهي الإسكندرية الأبدية التي ظلت تتبعه إلى الأبد :

لا أرض جديدة يا صديقي
لا بحر جديد: فالمدينة ستتبعك
و في نفس الشوارع سوف تهيم إلى الأبد
و ضواحي الروح نفسها ستنزلق
من الشباب إلى الشيخوخة

عن كيكا