خالد النجار
(تونس)

أثيناأثينا، كما تقول ريتا عن روما مقترنة برائحة المازوت، التي تلقاك في مدن المتوسّط.. مرتبطة برائحة ورود قبرص التي تهبّ عليك في موجة لا مرئيّة و أنت تعبر أحد الشّوارع... كان لقائي الأوّل معها ميلودراميّا.. كنت ذاهبا من تونس أحمل رسالة توصية من صديقي الشاعر لوران غسبار إلى يانيس ريتسوس وقلت في نفسي ها أنا ذاهب لأكتشف مجهولين: مدينة، وشاعرا... أليست المدن كالقصائد.
قبلها كانت اليونان مرتبطة في ذهني بشاعريّة العالم الكلاسيكي، وأساطيره: مرتبطة بأكتيون الإله الذي كان يطارد في أحد الأيام صيده في الجبال فمسخته أرتميس وعلاً، وتركت كلابه الخمسين تفترسه، تلك الكلاب التي صارت فيما بعد ترمز إلى الأيّام الخمسين التي يتوقف خلالها النبات عن النّموّ أثناء العام... وببوزايدون إله البحار والمياه عامّة والسّواحل، بوزايدون الذي يقيم في أعماق المحيط داخل قصر ذهبيّ... ويتحكّم في الأمواج، وفي العواصف، وهو مثير الزّلازل والبراكين ومفجّر المياه من الصّخور ومنشئ الجزر الجديدة، و... وبتريون الإله الطيّب الذي اشتهر بالنّفخ في القوقعة الهائلة وتهدئة الأمواج العاتية، وحسر مياه الطوفان. إنّه الوسيط بين الملاحين وأبيه بوزايدون... وبأريثوزه إلهة الينابيع، وبثاناتوس إله الموت الذي ولدته آلهة الليل والذي يجيء دائما مع إيروس الذي هو الموت المقترن دائما بالحبّ... و كأن فرويد اذ يربط بين الجنس وبين غريزة الموت إنّما يعيد وبشكل علمي بنية الاسطورة ورمزيّتها العميقة...

أثينا مرتبطة بأغاني هوميروس، وبمدوّنات هزيود، وبشذرات هيرقليطس الغامض أو المظلم... أثينا مرتبطة بجزر بحر إيجة العارية، بحر إيجة الذي أضاع أوديسيوس، ذاك الضياع الأساسي في تجربة الانسان الوجوديّة، إنها محنة الضياع الذي لا بدّ من عبوره، والذي لولاه لن يجد الانسان الطريق، طريقه... في كلّ جيل يضيع الشباب ليجدوا طريقهم الداخلي، وهناك من يعيش ثم يقضي دون أن يجد هذا الطريق، طريق إيثاكا.
أثينا مرتبطة بسيبيل نبيّة كومي...
أثينا مرتبطة بالأورفيّة، وبالمذاهب السريّة الغامضة، بمناقب الأبطال، بأفلاطون الذي كان يلذّ له طوال الليل أن يظلّ ساهرا فقط ليرعى نجمة... أثينا مرتبطة بمدوّنات هيرودوت «حيث تمضي نحلة التاريخ الزّرقاء» أثينا مرتبطة بأوابد إيبيكتيكوس، بمغزل بينيلوبّي المتماهية مع الزّمن الدّائريّ حيث ينحبك، وينحلّ العالم باستمرار في حركة بناء وهدم أبديّة لا أحد قرأ واستطاع ان يفلت من أسر العالم الكلاسيكي الاغريقي؛ من الميثوس اللاّعقل والذي حدّد مصير اللوغوس؛ وحدّد بالتالي الملمح الأساسي الذي سيتخذه فيما بعد الإنسان الغربي الذي تماهى ومنذ عصر النّهضة مع الانتروبوس الاغريقي مثاله الأعلى: الانثروبوس أو الإنسان الكامل في الوعي اليوناني القديم... أجل لقد اتّخذ إنسان عصر النّهضة أو الحركة البشريّة الإغريق مثالا... وأدخل الفلسفة اليونانيّة في دينامكية جديدة فيما تلا من القرون في أوروبّا... وهي اليونان التاريخية التي نلقاها في أعمال إيرازموس، ومونتانيي، ورجال النّهضة الآخرين ـ الذين حوّلوا نظرهم من اللاّتينيّة الكنسيّة إلى اليونانيّة القديمة الممهورة بالعالم الوثني.

أمّا هذه اليونان الحديثة المسيحيّة ففيها شيء من الجهامة، جهامة الكنيسة الأرثوذكسيّة... لقد نأت عن ماضيها البطولي، الملحمي، الوثني... وعادت التماثيل، والمعابد حجرا؛ ماتت الآلهة... وكل ما كان تحوّل إلى ذكرى مريرة تلقاك في أشعار قسطنطين كفافيس... كفافيس الذي أتمثله في الإسكندريّة جالسا في الليل أمام مصباحه النّفطي في دكنة الغرفة الفارغة يحاور أشباح أبطاله الميّتين: أجل فكل ما يحيط بنا هو من صنع الناس الذين مضوا... أي أولئك الذين اكتمل وجودهم في الموت وتركوا حقيقتهم في الأشياء التي صنعوها ذات يوم... هكذا نحن نعيش ونتحرّك وسط الموتى، مع حقيقتهم الأبديّة... لكن أثينا وبعد زيارتي لها صارت مقترنة في ذهني برائحة المازوت، ببطاقات البريد، بأعياد الفصح اليوناني وأيقوناته المذهّبة... مقترنة بالآلهة الضّائعة في سفح الأكروبوليس بين أشجار الزّان والحجارة المتناثرة. أثينا مقترنة بالقهوة التركيّة، بالمترو الذي ينطلق من محطّة أُومونيا الدّاكنة والقذرة... بتلك البيوت الشّعبيّة الصغيرة المتراصّة على سفح الأكروبوليس، أثينا مرتبطة بتلك المعزة التي تقف في ركن الشارع المؤدّي إلى الحدائق السريّة وسط أعشاب الشوكران... أثينا مرتبطة بالرّهبان الأرثوذكس بثيابهم الكهنوتيّة السّوداء، ذوي الشعور الطويلة المضفورة، والبارزة من تحت قلنسوّاتهم، أثينا مرتبطة بالباصات الكهربائيّة الصّفراء... بتلك الحديقة الدّاكنة الشبيهة بحدائق البرتغال حيث كان يمضي بيسوّا كشبح في معطفه الأسود... أثينا مرتبطة بجورج سيفيريس، بيانيس ريتسوس بأوديسيوس إليتس، بمطبوعات كيذروس وبشارع كوراكا، بشارع كذوس بيتا، بشارع استاذيو وبساحة البرلمان وبفندق فيفوس حيث وبفعل أحد اسرار اللقاء التي تتحكّم في حياتي؛ وجدت رسالة ضائعة كانت قد تركتها جاكلين للوران منذ أشهر وقد كانت حينئذ في طريقها إلى بيتها في جزيرة كورفو، هكذا حدّثني عامل الفندق الأثيني السّكندري بلهجة مصري ابن بلد، لا لكنة فيها، ولا شائبة وهو يسلّمني الرّسالة عندما علم أنّي قادم من تونس وأنّ لوران هو الذي دلّني على هذا الفندق...

السفير الثقافي
24/08/2007


إقرأ أيضاً: