خالد النجار
(تونس)

خالد النجار... وتتذكّر سان استيفانو، سيدي بشر، سيدي جابر، محطّة الرّمل، الإبراهيميّة، الشّاطبي، المنشيّة، المكس... تتذكّرها في ذلك اللّيل، وأنت تتطلّع إليها تمرّ أمامك مثل شريط سينمائي ملوّن من خلال زجاج نافذة مترو الإسكندريّة ذي الطّابقين، وهي غارقة في أنوار الكهرباء البرتقاليّة مثل عيد، مثل حفل استعراضيّ يعبر أمامك لا ينتهي... في ذلك اللّيل البعيد والغريب تظل في هذا المترو حوالى ساعة لتقطع المسافة من سيدي بشر نمرة واحد إلى المنشيّة ... وتتذكّر مقهى بترو وقبله برج العرب... وبائع العاديات اليوناني في الشّارع الجانبي الضّيّق، في ذلك الدّكان المستطيل والمظلم، حيث تتكدّس تحف أثريّة مختلفة : شمعدانات فضيّة، كؤوس كريستال، أباريق نحاس، ساعات جيب مشغولة بالفضّة، حُقق نَشاق، كتب صلوات مسيحيّة لاتينيّة ويونانيّة ذات تجليد قديم، وأيقونات قبطيّة وبيزنطيّة شرقيّة مذهّبة ذات تعبير شعبيّ كتلك التي تلقاها في الكنائس الصغيرة بالقرى اليونانيّة... صور فوتوغرافيّة بالأسود والأبيض تعود للعشرينات من القرن الماضي، مات أصحابها؛ منها صورة بلمعة بنّيّة من الزّنك للملك فؤاد وهو جالس على العرش ببزّته الملكية المذهّبة، وبنياشينه، وشواربه الكبيرة... بطاقات بريد قديمة مصفرّة تمثّل مشاهد للقاهرة الإسماعيلية: صور دار الأوبرا القديمة، القلعة، وجامع السلطان حسين، صور قوارب نيليّة بصواريها النحيلة العالية، وبنوتيّتها النّوبيين السّمر الطّوال ذوي الوجوه التي نحتتها رياح النّيل منذ آلاف السّنين، تلك الوجوه التي خلّدها راينر ماريا ريلكة في رحلته النّيلية أوائل القرن العشرين...
آه أيّ متحف واقعي وخيالي. وأنت تتطلّع إلى موسى سيف النصر باشا في تلك الظهيرة، في ذلك الخريف البعيد على سطيحة شقّته بسيدي بشر بالإسكندرية، أمام البحر، وهو يستحثك لتقرأ عليه مزيداً من قصائد بول فاليري، متذكّراً أيام شبابه في فرنسا بين الحربين.
كانت أمواج بحر الإسكندرية البيضاء تأتي من البعيد متتالية لتصطدم بحجارة الكورنيش محمّلة بفراشات، وبأزاهير وورود اليونان... وكانت تتماهى في مخيّلتك بأمواج فاليري في قصيدته المقبرة البحريّة، تلك الأمواج الإغريقيّة... وببحر الظهيرة الأزرق الشّاسع، الذي أشعلته الشمس.
... يتداخل النصّ بالواقع، ويتداخل المتخيّل بالمعاش، فلا تدري حدودهما؛ لا قوارب هنا ترفّ بأشرعتها البيضاء كالحمائم بين أشجار الصّنوبر، وبين قبور الرّخام الكاثوليكيّة الكئيبة، تحت سماء فرنسا؛ إذ لا صنوبر، ولا مقبرة بحريّة هنا. فقط ترجيع أمواج هذا البحر القديم في عودها الأبديّ وهي تضرب حجارة الكورنيش الذي شيّده إسماعيل صدقي باشا في عشرينات القرن، كما لا بدّ من أنّها تضرب الآن ضفّة المتوسّط من النّاحية الأخرى؛ أو أنّها وبلغة الأندلسيّين تضرب العدوة الشماليّة لبحر الرّوم، هناك سور ومنارة وميناء مدينة سيت الفرنسيّة، حيث ينام بول فاليري نومته الأبديّة في المقبرة البحريّة؛ مطلق الموت يتماهى بمطلق الشّعر الصّافي. أجل لقد اختفى ذاك الجيل الغربي من الشعراء، والفنّانين جيل: بول فاليري، سان جون بيرس، بول كلوديل، ريفردي، جاك ريفيار، بول ليوتو، جورج تراكل، هرمن هسّة، جوزيب أنغرتي، مودلياني وكليمت، ودياغيليف، ونيجنسكي المختبل، وإيزادورا دنكن الرّاقصة الذهبيّة النّازلة لتوّها من قمّة الأولمب، و... و... و... والشّاعر الشّيخ قسطنطين كفافيس... ذاك الجيل الذي ظلّ يحتفظ في نصوصه، وفي أعماله بنكهة القرن التّاسع عشر... جيل ليحلّ محلّه اليوم هذا الرّهط المعاصر من الشعراء؛ الذي إذا استثنينا منه أسماء عدة - وصل عدد الشعراء اليوم في فرنسا وحدها إلى عشرين ألفاً - فأغلبهم كتاب محترفون، تقنيّو نصوص يفتعلون أزمات ميتافيزيقية..
الباشا
ظلّ الباشا يستحثني على القراءة. قرأت عليه مقاطع من ديوان نرسيس، وهو الكتاب الوحيد الذي كنت أحمله معي في تلك السّفرة البعيدة.. كان جالسا تحت تلك الشّمس السّبتمبريّة في سطيحة الشّقة التي تقع في الطابق الرّابع من تلك البناية التي على الكورنيش، كان يتحدّث وكأنّه يمارس مونولوغا بصوت مرتفع... يحدّثني وكأنّه يحدّث نفسه بنوع من المحاسبة المرّة، كان يستعيد ماضيه عندما كان طالباً في جامعة مونبيلييه قبل الحرب العالميّة الثّانية، ويستذكر لغته الفرنسيّة (...)
قال وهو يستعيد أيام شبابه في فرنسا: «كنت درست الحقوق في جامعة مونبولييه».
عقبت: هناك درس طه حسين أيضاً لفترة من الوقت في ما أعلم...
كان التغيير يعتمد أيامها على النخب المثقفة، أو ما يسمّى في أيديولوجيا اليسار بالطّليعة والإنتلّيجنسيا، تلك النّخب التي وصلت اليوم إلى لحظة الاستقالة التّامّة وحلّت محلّها نخب ذات خطاب ديني شعبوي، يعتمد استيهامات دينيّة استولت على كلّ المجال الدّنيوي، نخب تعيد انتاج المخيّل الشعبوي وتعيده من جديد إلى الشّعب.. وتتدّعي أنّها كاريزما. وعدت إلى البعثات العلميّة إلى أوروبا، إلى رافع رفاعة الطهطاوي، إلى صلاح الدين بوشوشة الذي أرسلته دولة الباي إلى لندن قبل أن تصير باريس قبلة الانتليجنسيا التونسية، وذلك في أوّل بعثة تونسيّة قبل انتصاب الحماية الفرنسيّة، وعاد ليؤسّس جريدة الحاضرة في تونس أوائل القرن العشرين... بقيت من صلاح الدين بوشوشة صورة شمسيّة بالمونوكل، بشواربه المحفوفة، والملامح الصّارمة شبيه جرجي زيدان. وعدت إلى سليمان الحرايري، وعلي باش حانبة، والشّيخ محمد السّنوسي معلّم الأمير الناّصر باي، الذي كان قد التقى في شبابه الشيخ محمد عبده في زيارتيه إلى تونس، فتشرّب الوطنيّة وتعلّق بالإصلاح، وعندما اعتلى سدّة الحكم في العشرينات أذن للحزب الحرّ الدّستوري التّونسي بالعمل، وترك هذه الرّوح في ابنه الملك المفدّى منصف باي الذي رفض الاستعمار فعزلته فرنسا ونفته إلى الجزائر أوّلاً ثمّ إلى مدينة بو، ليعود إلى تونس مسجّى في باخرة... وإلى أحمد شوقي الذي درس الحقوق أيضاً في فرنسا مثل الطهطاوي... وكان أحمد شوقي معاصراً لبول فيرلين، ورامبو، ولكنّه لم يهتم بهما، لم يقرأ معاصريه، بل لم يقرأ حتى استيفان مالارمي، ولا بول فاليري قرأ فيكتور هيغو، الذي كما يقول عنه حافظ إبراهيم كاد نجمه في الشعر يعلو نجم العرب.. وكما فعل من بعدهما جبران فقد جلس جبران يوماً أمام وليم بطلر ييتس ليضع له بورترييه، ولكنه لم يقرأ، بل لم يستسغ شعر ييتس، لقد توقّف مع وليم بليك وصوفيّته المسيحيّة... وفي الرّسم رفض جبران المدارس الحديثة من تعبيريّة وسرياليّة، لقد ظلّ مشدوداً إلى الفنّ الكلاسيكي، المدرسي، مشدوداً إلى ظلال وأضواء الأيقونة الايطاليّة...
واستمرّ سيف النصر باشا يروي قصّته في شكل مونولوغ درامي: عندما عدت من فرنسا أسّست في قريتي نادياً للأدب، ودعوت مرة حبيب بورقيبة للنادي... عرفت حبيب بورقيبة عندما كان لاجئاً هنا في مصر. «وجاء إلى النادي وألقى محاضرة».
وصمت ثانية كأنه يسترجع تلك السنوات القديمة، وهو يتطلّع إلى البحر في تلك الظهيرة السّبتمبريّة السّاطعة من سطيحة شقته في سيدي بشر، في تلك البناية التي تقع أمام سراي أسمهان... وظللت بدوري أتأمّل وجهه... تلك السّحنة الرّصينة، على نكهة رومانسيّة تجدها في بورتريهات مثقفي العشرينات أولئك الذين تربوا، وحصلوا على تكوينهم بعد الحرب الأولى.. نشأوا في مجتمع متناغم مع نفسه، بقيمه العريقة... بنبل أرستقراطيته المدينيّة والبدويّة ونبل شعبه... وتخرجوا من الزيتونة، والأزهر، والقرويّين وجامعة فؤاد الأول، والجامعة الأميركيّة في بيروت، أو جامعة الجزائر على أيام محمد بن شنب وأحمد توفيق المدني، ومن جامعات اسطنبول وطهران ثم ذهبوا إلى الجامعات الغربيّة العريقة... إلى السُّوربون وكمبريدج وأكسفورد. لقد عاشوا حقبة الاستعمار، والتحرّر، وليبيراليّة الحكم الملكي بأحزابها المتصارعة وبرلماناتها وبصحافتها الحرّة. ثم قال أيضاً وكأنّه يحدّث نفسه: كنت سيناتوراً في عهد الملك فاروق... وكان قد أعادها مرات ونحن في الطريق على الكورنيش إلى بيته. ثمّ أردف: كنت أدعو لديكتاتور عادل يحكم الشرق الأوسط، يحكم مصر أكبر دولة في الشرق الأوسط... وقد كتب عنّي العقاد مقالاً...».
وبعد هنيهة صمت انطلق فجأة، وفي صوته حدّة وأسف ومرارة: «... ولكن عبدالناصر وجماعته دول حراميّة.. لقد أخذوا ممتلكاتنا، وأموالنا، ولكن الواد أنور السادات وعد بإرجاعها، وبتسوية الأمر...».
والآن، وبعد سنوات طويلة وأنا أكتب هذه الصفحات لا تزال صورة سيف النصر باشا بتفاصيلها، لا أزال أراه واقفاً بقامته الفارعة أمام مقهى بترو بكسوته البيج وقبّعة القشّ البيج أيضاً وبحذائه الأبيض وسيماً كأحد أبطال الأفلام الاستعراضية الأميركية، يقف إلى جانب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومخرج سينمائي لم أحتفظ باسمه... ورجل آخر... يتبادلون آخر الكلمات وهم يودّعون بعضهم على الرّصيف. ورأيت الحكيم يبتعد بعصاه وبالبيريه. وكنت أقف قليلاً على حدة من شدة الخجل؛ ثم ّسمعت، وكأن لست أنا الذي سمع الرجل يقول لي:
- تعال يا أبني.
قالها بذلك الشكل الودود الذي لا أعرف لهجة تعبّر عنه بأكثر مما تعبّر عنه اللهجة المصريّة... ولكن، كيف دعاني، أيّ مغنطيس أو أيّ كيمياء غامضة تتحكم في كهربية اللّقاء الإنساني...
وأردف «تعال معي إلى البيت».
جلسة مقهى بترو
بدأ الأمر صدفة في تلك الظهيرة.
لقيته في مقهى بترو، كنت أبحث عن صلاح عبدالصبور الذي قال لي قبلها بأشهر وهو يغادر تونس إذا ما مررت بمصر في الصّيف تجدني في الإسكندرية، في مقهى بترو وذهبت إلى الإسكندرية في أيلول (سبتمبر)، وإلى مقهى بترو أسأل عن صلاح عبدالصبور فدلني النادل على الركن الذي يجلس فيه فإذا بي ألمح توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وسط نفر من سنّ متقدّمة تبدو عليهم مخايل النّعمة؛ تعرفت عليهما من النظرة الأولى... فقد كنت أعرفهما من خلال صورهم على المجلات، كانا يجلسان فوق كرسيّين من السّعف المشغول يحيط بهما أفراد لم أتعرف عليهم؛ وبصعوبة تقدمت مرتبك الخطى إلى حيث يجلسان في صدارة القاعة، ولا أدري من سألت من الجالسين بعد التحية.
أشار لي توفيق الحكيم بيده أن اجلس وكأنّه لاحظ اضطرابي فجلست بصعوبة على حافة الكرسي وكأنّي أعتذر لمجرد وجودي في العالم. قلت بمجرّد أن جلست إنّي جئت من تونس، وإنّي ذاهب إلى دمشق، وإنّ صلاح عبدالصبور طلب منّي أن أمرّ عليه هنا.
قال أحدهم عاد صلاح منذ أسبوع إلى القاهرة.
ولا أدري كيف سألني توفيق الحكيم ماذا أكتب؟ قلت أكتب شعراً.
والتفت إليّ الرّجل الصّاخب؛ المخرج السينمائي الذي كان يجلس على يساري وقال مستفهماً ومازحاً: ترتكب القصيدة؟
قلت بخجل كأنّي أستخرج الكلام استخراجاً نعم، ولكنه التفت إلى نجيب محفوظ وهو مستمرّ في حواره السّابق يقول بصوت مرتفع بل صارخ:
- هذا يا أستاذ نجيب جواب المدرسة الواقعيّة، جواب المدرسة الواقعيّة.
بقيت في مكاني، وكلّ ما أذكر أن توفيق الحكيم قال متجهاً إلي بالكلام:
- هنا ما زال الكلام ممكناً أمّا الشام خد بالك.
ولا أدري لماذا قال لي هذا، ولا أدري ما هو السّياق الذي قاده إلى هذا الكلام، ربّما كان هذا حوارهم قبل أن أقتحم عليهم مجلسهم، أو هو الحضور الدائم لموضوع حرية التعبير في خلفية وعي المثقف حريّة الكلام أيّام عبد النّاصر تلك. إنّ وضع هؤلاء المثقفين صعب بين عصر ليبرالي عاشوه زهرة شبابهم في ظلّ الملكيّة، ومناخات تطلّع إلى حضارة الغرب كمثال وقدوة للنهضة؛ ذاك التطلّع الذي دشّنه رافع الطهطاوي، وأيديولوجية الخديوي إسماعيل، ومصر البحريّة المتفتّحة على المتوسّط. اليوم ثمّة انكفاء قارّي، وعود إلى قيم القرية، وهي كلمة لا تعني شيئاً.
وذهبت مع موسى سيف النصر إلى بيته.. سرنا على الطوار في ذلك الشارع الموازي للبحر، شارع الكورنيش؛ ولا أدري هل مررنا ببرج العرب أم لا.. كان الشاطئ على يسارنا مكتظّا بالمستحمّين، والشمس في قلب السماء ترسل أشعتها على الإسفلت والشارع مكتظّّ بالمصطافين، وعلى اليمين تنتصب العمارات الشاهقة بشرفاتها المفتوحة على البحر.
الملوخيّة الملوكيّة
في البيت قدّمني إلى أبنائه، واتّجه إلى أحمد وكلّفه الاهتمام والعناية بي. كانت هناك امرأة ضيفة العائلة. واجتمعنا على طاولة الأكل. صالون كبير، وقاعة أكل بأثاث لويس الرابع عشر، أو السّادس عشر... أرائك خشب وثيرة مشغولة بالذهب. كان الكرسي الذي جلست عليه للطعام وثيراً، ولكن غير مريح للأكل. كان على الطاولة عدّة مآكل... قرّب منّي طبق الملوخيّة وهو يقول لي اسمها الحقيقي الملوكيّة. أدخلها الفاطميون إلى مصر. «هل هي لديكم في تونس؟».
قلت أجل بما أن الفاطميين جاؤوكم من عندنا، ولكن يقع إعدادها في شكل آخر مغاير... وتذكرّت خالي أيضاً كان كلّما يراها أمامه على المائدة يذكرنا أن اسمها الحقيقي هو الملوكيّة لأنّها طعام الملوك.
بعد الغداء ذهب الباشا ليستريح وتركني في عهدة ابنه أحمد. أخذنا المايوهات والمناشف وذهبنا إلى الكبائن في المنتزه. المكان يضجّ بالمصطافين، مايوهات وألبسة ملوّنة كما في الأفلام الاستعراضيّة المصريّة، جموع تتحرّك تحت أشجار الكالبتوس العملاقة كانت أجواء الشارع لا تزال تعبق بروائح السّتّينات. صعدنا إلى إحدى الكبائن وبسرعة لبسنا المايوهات ونزلنا إلى الشاطئ بدا لي الرّمل أصفر ضارباً إلى البنيّ.
البحر أزرق غامق يمتدّ إلى الأفق. وما أن جلسنا على الرّمال حتّى قال لي «انظر هناك»، وأشار بذراعه اليمنى إلى البعيد.
- أرأيت تلك الفيلاّ والثانية التي جنبها على حافة الماء؟ شايف كويّس؟ فلل لوحدها هناك.. هما بيتا ناصر وعبدالكريم عامر.
وأظنّه أردف قائلاً هناك في رأس البرّ. أحسست في كلامه بشيء من نقمة، ومن احتقار لهذه الطبقة الجديدة التي أزاحتهم عن السلطة.
ظللنا في البحر كامل بعد الظهر كان المساء قد بدأ يلفّ العالم وبحر الإسكندريّة يميل إلى الدّكنة عدا رؤوس الأمواج الفضيّة، والشّاطئ يصير خالياً، وبعض الضجيج الخافت للجموع يأتي من المدينة مختلطاً بهذه الريح الخفيفة وبظلال الخريف المتعثّر. قلت في نفسي ها أنا في الإسكندرية؛ استبد ّبي الإحساس بالمكان، لم اشعر بذلك وأنا أغادر السيارة وركبها الخرافي أوّل الطريق الزّراعي، وأنزل الى ذاك الحيّ المترب من مشارف الاسكندريّة، أذكر دكان الحلاّق القديم، والمكوجي وعربة الحنطور التي يتكدّس فوقها اللّحم القادمة من المسلخ والشمس التي تملأ الشارع الملوّن، بدا المشهد وكأنّي في إحدى مدن الجنوب في أميركا اللاّتينيّة، و بعدها عندما ركبت الباص الذي مرّ بالساحة التي يتوسّطها تمثال محمد علي بك الكبير فوق أرضيّة حجريّة تحيطها سلاسل غليظة، تمثال على النّمط الإيطالي... وعبرت تلك الشوارع التي لها فتحات على البحر في ذاك الباص الذي حملني لسيدي بشر.
عدنا إلى البيت بطريق الكورنيش، كانت الاسكندريّة أوّل مدينة أراها بكلّ هذا الاكتظاظ. في البيت أعاد علي الباشا نصحه فقد شعر باضطرابي الدّاخلي ورهبتي من السّفر.
- لا تكن عصبياً يا بني، اهدأ. حتركب القطر اليوغسلافي، وحتنزل في محطّة باب الحديد ومن هناك روح رأسا إلى ميدان التحرير وإلى شارع طلعت حرب وهناك فندق غراند أوتيل، هو لوكندة كويّسة، أنا دايما بانزل فيه عندما أروح للقاهرة.
ودّعني الباشا وأبناؤه بكثير من اللطف، وأنا أغادر البيت ظلّ يكرر حتّى آخر لحظة وهو بالباب.
- لا تكن «عصبي»، لا تكن «عصبياً» أعرف، الإنسان يصير «عصبياً» أثناء السّفر، لا تنس تذهب رأساً إلى غراند أوتيل في شارع طلعت حرب، لقد كتبت لك كلّ شي على الورقة، عندك عنواني ورقم التلفون إذا طرأ أيّ شيء.
ها أنا أغادر الإسكندرية، بالليل وأستقلّ القطار اليوغوسلافي كما يدعونه، وها الرّجل القبطي الشديد السّمرة بملامح الرجل الأبيض يجلس إلى جانبي في ضوء نيون القطار الخافت مثل مومياء وسط الظلال لا يكاد ينبس بكلمة، والأشجار العملاقة في الخارج تزيد الليل دكنة، وتزيد إحساسي بالغربة وأتطلّع من النافذة فلا أرى سوى تراكم طبقات الليل... ظل القطار ينهب الليل كحيوان أسطوري، وأظنّ أنّي سمعت كلمة دمياط، لا أذكر هل توقّف هناك أم هو قطار لا يتوقف في المحطّات.

الحياة
13/11/2007