جاءني صوته منذ أيام قليلة، عبر سماعة الهاتف، كهواء جبلي منعش، على الرغم من هذه المسافة الخرافية، الساحقة، ما بين بيروت وسيدني. ثمة حزن خفي، لا يزال هو نفسه: قد يكون، بالضرورة، هذا الحزن الحقيقي، الذي لا لبس فيه، الذي غالبا ما يتسلل من صوت وديع سعادة، وربما من كلماته المكتوبة أيضا. قال لي إنه سيصدر مجموعة شعرية جديدة، لكنه لن يصدرها عن أي دار للنشر، بل سيوزعها عبر موقعه الشخصي على الانترنت، وسيقوم بإرسالها إلى بريدي الالكتروني.
وبعيدا عن الأسباب التي تدفعه إلى ذلك، ثمة فرحة دائمة في قراءة جديد وديع سعادة، إذ انه من قلّة، ما زالوا يثيرون فيّ رغبة القراءة، رغبة السهر معه ومع كلماته لأيام متتالية. بعد يومين، كانت الرسالة في البريد، وفيها خطّ كمقدمة عامة أظن أنه كتبها لكل من أرسل إليه مجموعته هذه الكلمة التالية:
تحية،
بسبب حرب إسرائيل على لبنان التي ضربت دور النشر أيضا، باتت هذه الدور تجد صعوبة في طباعة الكتب خصوصاً الشعرية منها، أو أنها تضطر إلى تأخير طباعتها أو تحجم عن ذلك. لهذا ارتأيت نشر مجموعتي الشعرية الجديدة (تركيبٌ آخر لحياة وديع سعادة ) على موقعي على الانترنيت، وأرسل لكم هذه المجموعة متمنياً أن تحسبوها <كتاباً مطبوعا>، وفي حال كتبتم عنها أو نوّهتم بها الرجاء ذكر عنوان موقعي على الانترنيت كي يتسنى للقراء الاطلاع عليها. عنوان موقعي هو www.geocities.com/wadih2.
تشابه
قد يبدو أن ثمة أموراً تعود لتتشابه، بطريقة ما، من دون أن تكون هي عينها. هذا ما أحسه مع مجموعة وديع سعادة الجديدة، التي تأخذني إلى البدايات، وبخاصة مع مجموعته الأولى <ليس للمساء إخوة>. كان ذلك في العام ,1973 حين قرر الشاعر أن يخط مجموعته هذه باليد ويوزعها باليد أيضا، احتجاجا على دور النشر، وكانت تحوي قصائد كتبت في العام ,1968 قبل أن يعيد طباعتها في العام 1981 مع إضافة قصائد أخرى. مجموعة، على صغرها، أفردت مساحة لهذا الصوت الذي أصبح واحداً من أهم الأصوات في الحركة الشعرية اللبنانية والعربية. ولا نبالغ إن قلنا بأنه صوت، عرف كيف يحافظ على ألقه وحضوره الدائمين لغاية اليوم، وما كتاب <تركيب آخر لحياة وديع سعادة> إلا تأكيد الألق هذا، إلا تأكيد هذا الشعر الذي يعرف كيف يقطفه من لحظات أيامه.
قد تختلف المناخات الاجتماعية، الخارجية، بين مجموعته الأولى وبين مجموعته الأخيرة، (وإن كانت بينهما بعض المجموعات الأخرى التي أصدرها بدورها على نفقته الخاصة) لكن ثمة عاملا في ذلك كله، لا يزال يدفع بالشعر لأن يذهب ضحيته. بيد أن الأهم، أن الشعر لا يزال حاضراً ويستحق بكلّ تأكيد <أكثر من مجرد تنويه>، فوديع سعادة واحد من قلة عرف كيف يخلص لشعره، عرف كيف يبني هذه العمارة الفريدة التي تضم المباني المتعددة، وحيث كل طابق منها، يستحق وقفة مطولة. وما الطابق الجديد، على الرغم من اختلاف طريقة وصوله إلينا، إلا لبنة إضافية في تمتين أسس هذه العمارة التي يشتهي أن يسكنها غالبية قراء وديع سعادة، رغم انزوائه بعيدا عن هذه <النجومية> التي تؤرق الجميع اليوم، والذين يعملون لها جاهدين. النص هو الأساس، والنص بطبيعة الحال، هو <النجم>، وقد أخلص الشاعر للكتابة، لها وحدها، من دون أن تغشه الأضواء، لهذا ربما ولأسباب أخرى بالطبع يفرض احترامه علينا، بالأحرى لا نستطيع إلا أن نحترم هذه التجربة ونحييها.
أشياء الحياة
يبدو <تركيب آخر لحياة وديع سعادة> من أكثر كتب الشاعر <لعبا> بأشياء الحياة: حياته هو ككائن على هذه الأرض، لنقل إن كتابه هذا وكأنه يشكل <دروس أشياء> من حيث رغبته في إعادة تكوين وتركيب كلّ هذه الحياة الماضية، بجميع تفاصيلها. ربما هي الخيبة من كلّ شيء، التي تبدو كنسيج للقصيدة، التي تدفعه إلى القيام بذلك، إذ ليست عملية إعادة التركيب هذه، إلاّ عملية هدم في الأساس، هدم الماضي، من أجل خلقه من جديد، وإن كانت نتائج التركيب غير مضمونة، بمعنى أن تعود لتسقط في الانهيار ذاته الذي كان يهرب منه.
الكتابة الشعرية في مجموعة وديع سعادة الجديدة، كتابة مليئة بالهواء على الرغم من حديثه عن <ذكرى هواء>، مليئة بالحنان، بالحرارة، أي مليئة بتغير هذا المناخ من دون أن تتغير نبرته، الضاربة في وجدانية أشبه بتلك التي يعزفها موسيقيو الجاز، أقصد هذا التوزيع في الصوت والعزف، لكنه الذي يحمل في طياته، من دون شك، طبعا ومزاجا ليعبرا عن التزامه <بالذاتانية> (إذا جاز التعبير) من دون أن تقع أسيرة عملية بحث أو تكفير عن ذنوب أو التساؤل، إنها تنحو إلى هذه المساهمة النشطة تجاه الحساسية في اللغة، التي نجد فيها كل الاندفاعات والنبضات والتفككات والانكسارات التي تحب حياة وتبحث عنها، وهنا المفارقة، التي يُطالب بها عبر الجسد التائه، على الورقة كما فوق الأرض.
ثمة عين، يكتب وديع سعادة قصائده من خلالها، لكنها سرعان ما تتحول إلى لغة، أي انها تنادي الكلمات لتأتي إليها، بدون توقف، كما لو أنها تريد أن تشكر هذا المرئي لكونه حاضرا هنا. وفي حضوره يمر أمامنا الكائن فتات الكائن، فتات الأشياء، غياب كل شيء، الأشكال، بألوانها وبكثافتها، من هنا تبدو ملاحظاته وتدويناته وكأنها تنزلق بشكل بديهي صوب الصورة، أي صوب هذا الانهماك الاستعاري الذي تظهر عبره كل الاحتمالات لتحيلها ساطعة.
إنها احتمالات <الحياة الحقيقية>، لذلك يبدو من <الخطأ> أن تهيئة وتحضير <برنامج> الحياة الحقيقية، أي على الشعر أن يكتفي بترداد الرغبة في وجودها وأن يرسم، هنا وهناك، بعض ملامحها. جزء كبير من شعر وديع سعادة يقودنا إلى هذا السعي، أي إلى رسم ما ليس موجوداً أما.
إقرأ أيضاً: