في مجموعته الشعرية الجديدة "فصول من سيرتي مع الغيم" (دار رياض الريس للكتب والنشر)، يتجول الشاعر جودت فخر الدين وحيدا، في الطبيعة مستعمراً أدواتها وناهلاً من عناصرها اليومية، بعد إفراغ العالم من محتواه العمراني. تنطوي المجموعة على نصوص، يجرب فخر الدين من خلالها النفاذ إلى يومياته وذاكرته الشخصية، وطفولته، وإنسانه المكتنز باللحظات، في مناخ هادئ، متأنٍّ، بعيد من الإنفعال أو الضجيج المجازي، أو السوريالي، مبقياً علاقات دقيقة جدا ومتوازنة تتكيف إلى حد بعيد مع فخر الدين الشخص، الذي يستعيده الشاعر. فبعض خصائص الشاعر الفيزيولوجية، تترك أثرها في القصيدة، بل أن مقاربته قد تقوم على اعتبارات، منها كون الشاعر ذا قامة طويلة. من التقى بفخر الدين في الشارع، سيلحظ أنه "أطول شاعر في المدينة"، بمشيته المتمهلة، والتفاتاته القصيرة، وأسئلته المقتضبة وصوته الخافت. هذه الملامح، التي نستعيدها عن شخصه هنا، إنما لأننا لا يمكن غض النظر عن التماثل بين صفات الشاعر الإنسانية، وصفات نصه الشعري.
قد لا يعدّ هذا التشابه شرطا من شروط الكتابة الشعرية، إلا أن حضور شخصية الشاعر في القصيدة نفسها، أمر لا نعهده لدى الكثير من الشعراء. لذا فإن من ضمن ما يثير الاهتمام في قصيدته، هو الفضاء الهندسي، العمودي تحديدا، الذي يقيمه الشاعر في اكثر من نص، مماهيا بينه وبين مكوّنات محيطه حيناً، أو الأشجار "أترابه" حيناً آخر. كأن يقول: "وكنت أرى كل شيء قصيراً/ فرافقني الحور/ رافقني كأخ لي طويل"، أو "أصطحب الأشجار وأمشي/ فإذا بالشارع يمشي/ يتبعنا مرتبكاً"، أو "إنه الحور/ سرّ الصداقة ما بيننا أننا نتشابه في خجل/ ونعانق وحشتنا في الأعالي/ ويحفر فينا الأذى".
قصيدته، تتكئ على التقليب البصري لعالم "مبسَّط" يحيط بالشاعر، وعلى نبشه، وسبر أغوار جمالياته، لجعله عالما محاوِرا ومحاوَرا، كما لتحديده كمعطى يصبّ مباشرة في مصلحة الشاعر ويستفز تأملاته، كسبيل لتثبيت هذه العلاقة التي تبنى على محاكاة الذات، ومد الحبال الإلتفافية نحوها عبر الطبيعة. فالطبيعة هنا، تقف كمجسّ مهذب لهواجس الشاعر وإنسانه، ما يجعلها طبيعة طيعة، يسيّرها الشاعر بحسب موضوعه، فلا تخرج عن طوعه، ولا تسلك بفوضوية. إنها طبيعة غير موحشة، بيضاء، تعزز في الشاعر الإتجاه الرومنطيقي، أكثر منه اليومي، الكامن فيه، وتتعاضد معه للتفوق على الشوارع والإسفلت والضجيج والكثافة، وكل ما يملأ العالم من أصوات "زائدة" ويسيِّرها في سعي يومي "لا طائل" منه. وبرغم انشغال الشاعر في نسيج الطبيعة "المبارِكة" له، التي قد يتصور القارئ أن فخر الدين سيتعيّن عليه الإمتثال لواقع زهوها وامتلائها، والذوبان في شكلها "البصري"، إلا أنه يعالج بواسطتها قيماً وأفكاراً، وينفض بأسلوب المُسائل النوستالجي، ذاته، فيمسك بوجوده أطراف مناخين متباعدين: مناخ خارجي من مناظر وشجر وأوراق متساقطة وثلج... إلخ. وآخر داخلي، يغلي بهدوء، ويحتكم فيه الشاعر إلى صوته وحده، لا إلى الأصوات التي أثّرت في صقل صوته إجتماعيا وفنيا وفلسفيا.
تشتمل قصيدته على نظم عدة، التفعيلة هي السمة التي ترابط للمعنى في هذه القصائد، حيث أنها تفعيلة يستعملها الشاعر متخففا من ثقل المفردات، فتلعب دورا إيقاعيا، طروبا، يتآلف إلى حد بعيد مع التجوال في طبيعة منتقاة بأناة، ما يضفي على القصيدة تماسكا بين شكل ومضمون. التفعيلة الحاضرة في قصائده، تبدو كأنها حبل تشدّ عبره اللغة، فتتكون من مجموعة من الجمل الشعرية تنساب مسندة بعضها لتحقق المعنى المرجو، فتبدو في ظاهرها أقرب إلى البوح "السهل" منها إلى كونها زخرفات محمّلة رموزاً. هذا ما يسم قصيدته بخفة غير متحققة عند شعراء كثر يعملون بنظام التفعيلة. هذه الاستعاضة بمرونة اللغة عوض ضخ التشابيه والإستعارات الفضفاضة، تفتح الأبواب أمام الشاعر كي يختصر الطريق للمرور إلى ذاته، الامر الذي يأتي منسجما مع شكل القصيدة المقسمة مقاطع شعرية، بدل مطولات.
لكن الحركة في نص فخر الدين، ليست مقتصرة على العين، والتسجيل البصري الديناميكي للمكان الذي يحيط بالشاعر، كما لا تندرج في كونها حركة ضرورية ينبغي العمل بها كغذاء للوصف. كذلك هي ليست فقط ذهنية، فلا تبدو حكرا على تسجيل الحياة بقاموس شتوي، ولا تنحصر في كونها إلتفافا على الطبيعة لدخول الذات. وهذا لأن الشاعر يعمل بآلية شعرية، ضمن تجزئة الزمن وحدتين منفصلتين متباعدتين قدر المستطاع، الاولى: تكون واحدة حاضرة، ذات ارتباط وثيق بصوت المتكلم/ الأنا التي تسجل العالم الآني، البطيء، ولا تكون حبيسة الموقف أو حالة الشعور أو الحافز الباعث على إستدراج إحساس ما على الورقة. أما الوحدة الزمنية الثانية، فهي مختزنة عبر شخص الشاعر السابق: غائبا، صوتا يُستعاد، متذكَّرا/، الأنا التي لم يبق منها إلا الشظايا الأكثر رسوخا في الذات الكليّة، المرتبطة بالحنين، الخطأ، حياة مضت وتكثفت. وهي الأنا السابقة التي تُستنفر من خلال صور لا تنتمي إلى زمنها، ويسجلها الشاعر الآن فقط. هذه الأنا السابقة، النوستالجية، تقف متوازنة مع أنا حاضرة، تعاين القسوة من دون أن تسميها، وتتنكر إلى حد ما للمدنية ومظاهرها. ففصل الزمن، لا يمكن أن يتم بمنأى عن فصل صوت الشاعر إلى مكوّنين، واحد يبوح بذاته وواحد يقف محاكماً الحياة وقيمها. أما ذلك فلا يمكن أن يتم من دون أن يضع الشاعر ذاكرته بين هذين الزمنين، ممددا إياها كعجينة ألوان تخبئ في طياتها الكثير، وتكشف الألم، كما تكشف الرغبة في وضع الحياة تحت مجهر مهذب وحكيم: "غيوم البدايات أجمل/ لي بعد ذلك أن أستخف بكل مصير/ غيوم البدايات أجمل/ لي عند ذلك أن أتفهم للوقت عذرا/ غيوم البدايات أجمل/ لي قبل ذلك أن أستميل النوافذ من كل صوب/ لكي أتدبر للأفق بابا".
النهار- 8 يناير 2010