في كتاب انطولوجيا الشعر الأسوجي الحديث (دار المدى) يلتفت القارئ الى الشفافية والانسياب اللذين يقدّم بهما الشاعر ماغنوس وليم أولسون للقصائد، داخلا في العمق السياسي والجغرافي وطبيعة الموقف الأسوجي العام من حوادث القرن الفائت قاطبة، ولا يستثني التأثيرات الأميركية والانكليزية بشكل خاص على روح القصيدة الأسوجية، مسقطا الكيان الشعري الأسوجي من برجه، معللا عدم وجود خصوصية شعرية في النص الشعري هناك لأسباب اهمها وأخطرها كون لغة البلاد تفتقر الى المصطلحات الفلسفية كما أنها ليست بلغة القافية وإن تمكن الشعراء على امتداد عقود سالفة من حوك قصيدة لم تتخل بتاتا عن التفعيلة، لتواكب بذلك التحولات الشعرية أواسط القرن المنصرم.
تعتبر هذه الدراسة الموجزة أول ضوء حقيقي يقدَّم الى قارئ عربي أو مهتم اهتماما خاصا بالشعر الأوروبي أو الأسوجي. هذا التخلي عن الجلود المستعارة للشعر والشعراء، يضعنا أمام فضيلة اللغة في المقام الأول وواقع الوفاء لهذا الصرح أو قاموس الأدوات الكتابية، كما ان الإعلان الذي يقوم به أولسون، يضع الشعراء العرب تحديدا والشباب منهم خصوصاً (أو قل شعراء العبث باللغة الشعرية المتوارثة نحو اشكال كتابية جديدة وإن تكن الخطوة تلك في مجملها، غير مهندسة) امام السؤال الأبرز: ما هي جذور التأثر بشعر القصيدة الاوروبية والاميركية بوجه خاص؟ ولماذا نفتقر الى ثقافة الاعتراف بمصادرنا الشعرية وتأثراتنا الغربية؟ وهل استطعنا بناء لغة شعرية خاصة بنا، يمكن اعتمادها كذريعة مشروعة لنا كي نترجل عن قراءاتنا السابقة للشعر الاوروبي؟ نحن نتوجه الى أولسون بتحية مثلثة: أولا لصراحته في الكشف عن مواطن الضعف في لغته الأسوجية، وثانيا عن نفض الغبار أمامنا عن كل التباس حول خصوصية الشعر الأسوجي الحديث (من سبعينات القرن الماضي حتى القرن الأول من الألفية الثالثة)، وثالثا عن ضخ سوق القراءة العربية بأكثر الإنتاجات الشعرية طزاجة الى وعينا.
لا يمكننا بالطبع تجاهل المجهود الهائل الذي قام به المترجمان ابرهيم عبد الملك وجاسم محمد، وأمانتهما في نقل اللغة الشعرية الأصلية بلغة مشعرنة عربية، لم تفقد من وهجها، الى حدّ أننا شعرنا في بعض الاحيان وكأننا نقرأ شعراً بلغته الأم وليس شعرا مترجما. هذا كله على الرغم مما جاء على لسان المترجمَين في مقدمتهما المؤثرة والبالغة التواضع والحساسية، اذ لم يغفلا حقيقة ان اللغة الشعرية المترجمة قد حملت الكثير من التعب، نظرا الى تفاوت مناخ الكتابة من شاعر الى آخر، وتالياً لم تكن النصوص المنتقاة خاضعة لذوقية أيٍّ منهما، بل خاضعة للأمانة تجاه هذا الكائن المحيّر دوما، أي الشعر، وما يتفرع عن هذه الأمانة من مسؤوليات النقل الى العربية والاخلاص لقارئ العربية. من هنا فقد قاما بترجمة واحد وعشرين شاعرا من بين مئات، على أساس أنهم الأكثر شهرة ونيلا للجوائز الأدبية، الا أن ذلك، ودائما بحسب عبد الملك ومحمد، لا يحوول دون حقيقة أن هناك العشرات من الشعراء الأسوجيين الشديدي الجاذبية، والذين سوف تترجم أعمالهم في مرحلة لاحقة. لم يخل الشعر الأسوجي من ترسبات التحولات في السياسة والاقتصاد والايديولوجيا والحروب التي مر بها النصف الثاني من القرن العشرين. وكان لكل عنصر متحول أثره في تطور حركة الشعر في تلك البلاد الاسكندينافية البعيدة، والتي نكاد لا نفقه سوى القليل حول أدبها. وكما يقول سليم بركات الذي قدّم أيضا للأنطولوجيا "أسوج على حافة النهائي، ذلك ما أسمعه من المجادلات المرئية في كلمات هذا الشعر". فأزمة النفط عام 1973، وآخر مراحل حرب فيتنام في تلك الفترة، وميثولوجيات موسيقى الروك، وولادة موجة المخربين فنياً، والتغييرات في الفاشن عموما، وبروز مفكرين وفلاسفة أمثال جاك دريدا وبول دومان وهايدغر وميرلو بونتي وتوهّج التفكيكية والوجودية، في مقابل خفوت الرومنطيقية (وان ظل بقاؤها عند البعض، مثار جدال كان له أثر إيجابي في ولادة انماط كتابية جديدة في أسوج) إضافة الى تأثير الكونكريتية منذ ستينات القرن المنصرم، وانهيار جدار برلين، وحرب الكويت وصولا الى منهج المادية في اللغة ورواج موسيقى الراب، التي ألقت بدورها ظلا واسعا على هذا الشعر الذي لم يخل لحظة واحدة من ديناميكية التحرر نحو أشكال جديدة. وهذا ما أدى الى بروز ظاهرتين نراهما في غاية الغرابة: إمكان دراسة الكتابة الشعرية في الجامعات والمعاهد وتوجه العديد من الشعراء الى تدريس كتابة الشعر وتوقفهم تالياً عن كتابة المقالات، وأيضا ظاهرة المباريات الشعرية، التي تشترط شكلا شعريا شفويا وشعبيا، اذ يلقي الشعراء قصائدهم لينالوا بعدها تقويما من الجمهور، فتصبح بذلك الأحياء المهمشة مسرحا لثقافة أدبية تفيض حيوية.
هذا الحراك الشعري كله ترافق مع ولادة العديد من الدوريات الشعرية والمجلات التي كان لها دور المدافع عن حركات شعرية جديدة في طبيعة الحال، وتكريسها في عالم الشعر الأسوجي الحديث.
واذا سلكنا نحو المقارنة بين حركتنا الشعرية العربية في العقود الثلاثة الأخيرة، والحركة الأسوجية، فسنجد أن علينا فعلا دفن رؤوسنا في الرمال كما تفعل النعامة في وقت الشدة. لأن تطورنا الشعري هو شيء لا يذكر مقارنةً بالجدية التي رافقت الشعراء الأسوجيين كلما خطوا نحو أشكال جديدة.
وهذه ملاحظات أولى لما يمكن أن يكون دراسة مقارنة بين الشعرين العربي والأسوجي، على الرغم من جغرافيتنا الأكبر حجما وواقع أن الكثير من التحولات في السياسة والاقتصاد، كانت تولد في محيطنا العربي، ومن ثم تمتد تأثيراتها الى الخارج من دون أن تجد سبيلا لانعكاسها داخل المجتمع العربي الا نحو مزيد من التخلف والتقهقر الثقافي والأفقية.
بعد الاطلاع على هذه الأنطولوجيا الجميلة، نكتشف أننا في أمسّ الحاجة فعلا الى الإطلاع على حركات شعرية آسيوية وأوروبية مختلفة ودراسة ظروف نشأتها وتطورها، ربما لأخذ الدروس السرية عن كيفية تلقف اشارات العالم المحيط بنا، وصناعة اشاراتنا الشعرية الخاصة، بعدما فقدنا تقريبا كل خصوصية أدبية ممكنة.
النهار
23 فبراير 2009